تعزيز الانقسامات: جدل تجنيد الحريديم في إسرائيل

    أحمد مولانا
    أحمد مولانا
    الخميس 15 مايو 2025
    تعزيز الانقسامات: جدل تجنيد الحريديم في إسرائيل

    “الوطن كله جبهة، والشعب كله جيش” ساد هذا الشعار بين الإسرائيليين قبل أن يتصاعد الجدل بشأنه على وقع طوفان الأقصى. فعقب أحداث 7 أكتوبر 2023، قررت حكومة نتنياهو استدعاء 360 ألف جندي من قوات الاحتياط للانخراط في القتال بجوار القوات النظامية البالغ عددها 170 ألف جندي.

    عمليًّا دخل الجنود معركة تجاوزت سبعة شهور، وهي فترة خدمة احتياطية غير مسبوقة منذ حرب أكتوبر 1973. ففي الحروب اللاحقة بما في ذلك حربي لبنان الأولى والثانية وجولات غزة، لم يُحشد سوى جزء من قوة الاحتياط، وهو ما يفتقده الجيش الإسرائيلي في الحرب الحالية. ومع استمرار القتال تكبد جيش الاحتلال قرابة 650 قتيلًا وآلاف الجرحى حتى منتصف مايو 2024، مع حاجته لقوات إضافية في غزة، وعلى الجبهة الشمالية مع لبنان، وفي الضفة الغربية.

    أمام هذه التحديات، صرّح وزير الدفاع يوآف غالانت بأنَّ إسرائيل لم تشهد مثل هذه الحرب منذ 75 عامًا، داعيًا إلى تعديلات على قانون التجنيد تشمل تمديد خدمة القوات النظامية والاحتياط. لكن نتنياهو دفع نحو قانون يستثني الحريديم من الخدمة مع زيادة مدة الخدمة الإلزامية إلى 36 شهرًا، وهو ما فجّر جدلًا واسعًا.

    جيش الشعب

    منذ تأسيس إسرائيل عام 1948، رأى ديفيد بن غوريون أنَّ الفجوة السكانية والعسكرية مع العرب تتطلب إعداد كل رجل وامرأة للقتال. فأقر الكنيست عام 1949 قانون الخدمة العسكرية الذي أدخل التجنيد الإجباري بعمر 18 عامًا. قدم القانون كأداة للهندسة الاجتماعية عبر صهر المهاجرين المختلفين في بوتقة واحدة، وتغيير نظرتهم السلبية التاريخية تجاه الجيوش.

    مع توسع الاحتلال بعد 1967، مُدِدت الخدمة إلى ثلاث سنوات للرجال وسنتين للنساء. لكن مع توقيع اتفاقيات السلام وتراجع خطر الحروب، قُصرت مدة الخدمة عام 2014 إلى 32 شهرًا للرجال و24 شهرًا للنساء. ومع ذلك، ظل التجنيد الإلزامي جوهر المنظومة العسكرية، مع استثناء العرب المسلمين، والاعتماد على قوات الاحتياط وقت الحرب.

    إعفاء الحريديم

    في عام 1948، طلب الحاخام إسحاق ليفين إعفاء 400 طالب ديني من الخدمة العسكرية، ووافق بن غوريون نظرًا لقلة العدد. تحول الاستثناء لاحقًا إلى قاعدة قانونية تسمح لوزير الدفاع بمنح إعفاءات واسعة لطلاب المدارس الدينية، بحجة حماية التراث الثقافي اليهودي بعد تدمير النازيين للمؤسسات الدينية الأوروبية.

    لكن مع ارتفاع نسبة الحريديم (12% من اليهود حاليًا)، توسع نطاق الإعفاء وأصبح مثار جدل مجتمعي، إذ يرى العلمانيون أنَّ الحريديم يعيشون عالة على المجتمع اقتصاديًّا ويستفيدون من مظلة الجيش دون المشاركة في أعبائه. وقد اعتبرت المحكمة العليا عام 1998 إعفاءهم غير قانوني، لكنها سمحت بتأجيل التنفيذ، فيما بقي الملف معلقًا عبر قوانين متكررة.

    ممانعة الحريديم للتجنيد

    يستند الحريديم إلى حجج دينية ضد التجنيد، منها أنَّ حماية إسرائيل تتحقق برضا الله ودراسة التوراة، لا عبر الجيش وحده. كما يعتبرون أنَّ الرجال اليهود ملزمون بتكريس وقتهم لدراسة التوراة، فيما تتبنى تيارات أكثر تشددًا موقفًا رافضًا للدولة نفسها، معتبرة أن وجودها يتعارض مع الشريعة حتى نزول المسيح.

    لهذا يعيش الحريديم في عزلة ثقافية عن المجتمع العلماني، ويرون في الخدمة العسكرية تهديدًا لهويتهم. واستثمروا في المدارس الدينية التي تحولت إلى أدوات للتنشئة الاجتماعية وتوسيع نفوذهم، بدعم مالي وسياسي من الحكومات المتعاقبة.

    تكريس الانقسام

    سعى الجيش لإدماج الحريديم عبر وحدات خاصة مثل كتيبة نتساح يهودا التي تراعي قواعدهم الثقافية والدينية، لكن هذه الكتيبة ارتبطت بانتهاكات في الضفة الغربية وأثارت جدلًا دوليًا. في المقابل، رفض الحريديم مقترحات تجنيد جزئي أو استثناء المميزين فقط، وهدد قادتهم بالهجرة في حال فرض التجنيد الإجباري.

    اليوم لم يعد الحريديم أقلية صغيرة؛ فقد ارتفع معدل مواليدهم إلى سبعة أطفال لكل امرأة، ومن المتوقع أن يشكلوا ثلث اليهود في إسرائيل خلال العقود المقبلة. وهكذا تحول الإعفاء من استثناء ضيق إلى أزمة وطنية تُعمّق الانقسام بين المتدينين والعلمانيين، وتحوّل الجيش من أداة للانصهار المجتمعي إلى ساحة استقطاب سياسي وديني، فيما يواجه نتنياهو معضلة الحفاظ على ائتلافه مع الأحزاب الحريدية مع تلبية مطالب الجيش والمجتمع العلماني.

    أحمد مولانا

    أحمد مولانا

    ماجستير علاقات دولية، باحث في مجال الدراسات الأمنية والسياسية

    0
    العلامات:
    تقديرات

    التعليقات (0)

    اترك تعليقاً

    الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *