هدف حماس في غزة: الاستراتيجية التي أدت إلى الحرب، وماذا تعني بالنسبة للمستقبل؟

    الخميس 14 ديسمبر 2023
    هدف حماس في غزة: الاستراتيجية التي أدت إلى الحرب، وماذا تعني بالنسبة للمستقبل؟

    فورين أفيرز: ليلى سورات

    من بين الجوانب العديدة اللافتة للنظر في هجوم حماس الذي شنته في 7 أكتوبر ضد إسرائيل، هناك جانب لم يحظ بتدقيق كبير نسبيًّا وهو موقع الهجوم. خلال معظم العقد الماضي، لم يعد قطاع غزة يبدو كأنه ساحة معركة رئيسية للمقاومة الفلسطينية. فقد أدت التوغلات المتكررة التي قام بها الجيش الإسرائيلي في غزة، بما في ذلك عملية “الجرف الصامد” التي استمرت مدة شهرين تقريبًا في عام 2014 إلى وضع حماس في موقف دفاعي. ومن ناحية أخرى، أدت الدفاعات الصاروخية الإسرائيلية المتطورة على نحو متزايد إلى جعل هجمات حماس الصاروخية المنطلقة من القطاع غير فعّالة إلى حد كبير، كما أدى الحصار المفروض على غزة إلى عزل القطاع عن بقية العالم.

    على النقيض من ذلك، كانت الضفة الغربية ساحة صراع أكثر اشتعالًا، فمع توسع المستوطنات الإسرائيلية والتوغلات المتكررة للجنود والمستوطنين الإسرائيليين في القرى الفلسطينية، اجتذبت الضفة الغربية—إلى جانب الأماكن المقدسة في القدس—اهتمام وسائل الإعلام الدولية بشكل مستمر. بالنسبة لحماس والجماعات المقاومة الأخرى، كان هذا هو المكان الأكثر ملاءمة لانطلاق المقاومة المسلحة الوطنية الفلسطينية. وقد أدركت إسرائيل هذه الحقيقة على ما يبدو: ففي عشية السابع من أكتوبر، كانت القوات الإسرائيلية مشغولة بمراقبة الفلسطينيين في الضفة الغربية، على افتراض أنَّ غزة لا تشكل تهديدًا يذكر باستثناء إطلاق الصواريخ بين الحين والآخر.

    لكن هجوم 7 أكتوبر تناقض بشكل جذري مع هذا الرأي؛ فلشن هجمتها المباغتة فجرًا، فجَّر الجناح العسكري لحركة حماس في غزة معبر إيريز مع إسرائيل واخترق الحاجز الأمني في غزة في نقاط عديدة. ومن خلال قتل أكثر من 1200 إسرائيلي واحتجاز أكثر من 240 أسيرًا، توقع المهاجمون بوضوح ردًّا عسكريًّا واسع النطاق ضد غزة، وهو التوقع الذي تأكد في الهجوم الجوي والبري العنيف غير المسبوق الذي شنه الجيش الإسرائيلي. وفي المقابل سيطرت الحملة الإسرائيلية، التي قتلت أكثر من 17 ألف فلسطيني وتسببت في دمار هائل في جميع أنحاء الأراضي، على اهتمام زعماء العالم ووسائل الإعلام الدولية لأسابيع. وفي جوهر الأمر، بعد سنوات من بقائها في الخلفية، أصبحت غزة قلب المواجهة الإسرائيلية الفلسطينية.

    إنَّ تجدد مركزية غزة يثير تساؤلات مهمة حول القيادة العليا لحماس. في السابق، كان من المفترض أنَّ حماس تُدار إلى حد كبير من خارج الأراضي الفلسطينية من قبل قادتها الموجودين في عمّان ودمشق والدوحة. لكن هذا الفهم عفا عليه الزمن منذ فترة طويلة. فعلى الأقل منذ عام 2017، عندما تولى يحيى السنوار قيادة حماس في غزة، شهدت حماس تحولًا تنظيميًّا باتجاه غزة نفسها. وإلى جانب جعل غزة أكثر استقلالية عن قادة حماس في الخارج، أشرف السنوار على تجديد بنية حماس بشكل استراتيجي كقوة مقاتلة في غزة. وعلى وجه الخصوص، سعى إلى الاستعداد لاتخاذ إجراءات هجومية ضد إسرائيل وربط غزة بالنضال الفلسطيني الأكبر. وفي الوقت نفسه، عدَّل استراتيجيات الحركة لتأخذ في الاعتبار التطورات المتسارعة في الضفة الغربية والقدس، بما في ذلك التوترات المتزايدة حول المسجد الأقصى. ومن عجيب المفارقات أنَّه بدلًا من عزل غزة، ساعد الحصار الإسرائيلي في الواقع على إعادة القطاع إلى مركز الاهتمام العالمي.

    الطريق من دمشق

    كمنظمة سياسية وعسكرية، لدى حماس أربعة مراكز قوة: غزة، والضفة الغربية، والسجون الإسرائيلية حيث يقبع العديد من كبار مسؤولي حماس، و“الخارج”؛ أي القيادة في الخارج. ومن بين هؤلاء الأربعة، كانت القيادة بالخارج التي تدير المكتب السياسي لحماس، هي التي تسيطر بشكل عام على السياسة. وفي عام 1989، خلال الانتفاضة الأولى، شنت إسرائيل حملة قمعية على حماس، وأجبرت قادة الحركة على اللجوء إلى الأردن ولبنان وسوريا. وفي حوالي عام 2000، أصبحت دمشق المقر الرئيسي لحماس.

    ومن مواقعهم في الخارج، حافظ هؤلاء القادة على سيطرتهم على الجناح العسكري للحركة في غزة، المعروف باسم كتائب القسام. كما مارسوا الدبلوماسية مع الزعماء الأجانب وحصلوا على الدعم من مجموعة من المانحين، بما في ذلك الجمعيات الخيرية والمانحون من القطاع الخاص، وبعد بدء عملية السلام في مدريد وأوسلو، تلقوا الدعم من إيران. خلال هذه السنوات، كان قادة الخارج هم المسيطرون؛ بعضهم، مثل خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحماس، نشأ في المنفى. ومن عمّان، ولاحقًا من دمشق، اتخذ مشعل والقادة الآخرون قرارات الحرب والسلام، وكان على كتائب القسام في الأراضي الفلسطينية أن تتصرف وَفقًا لذلك، حتى عندما اختلفوا مع هذه القرارات.

    ولكن مركزية زعماء حماس بالخارج أصبحت موضع شك تدريجيًّا بعد اغتيال الشيخ أحمد ياسين الزعيم الروحي للحركة في غزة عام 2004. فقد مكّن انتصار حماس في انتخابات 2006 وسيطرتها على القطاع في يونيو 2007 قيادات غزة من توليد الإيرادات عبر شبكة الأنفاق، ما قلّل اعتمادهم على تمويل الشتات. ثم سرّع الربيع العربي والانتفاضة السورية هذا التحول؛ إذ غادرت قيادة حماس دمشق في 2012 إثر خلاف مع النظام السوري وإيران، وتراجعت المساعدات الإيرانية، فيما حافظ قادة غزة—خصوصًا في كتائب القسام—على صلات مباشرة بطهران.

    تجلّى استقلال ذراع حماس العسكري في قضية جلعاد شاليط (2006–2011) التي أدارها أحمد الجعبري وغازي حمد وأنتهت بإطلاق سراح 1027 أسيرًا فلسطينيًّا. توالت بعدها العمليات الإسرائيلية في غزة، ما عزّز مكانة القسام على حساب قيادة الخارج، ودخل ثلاثة من قادتها المكتب السياسي عام 2013. ومع استمرار الحصار باتت غزة “رمز التضحية”، وأصبح على القيادة السياسية الاعتراف بمركزيّتها لكسب الشرعية.

    في 2017 خلف إسماعيل هنية خالد مشعل في رئاسة المكتب السياسي، وهو ابن غزة سياسيًّا، ما سهّل إعادة وصل الحركة بإيران عبر محاورين من القطاع. ومع انتقال هنية لاحقًا للدوحة (2019)، برز يحيى السنوار كرجل غزة الأقوى ومنافس هنية على النفوذ.

    إعادة تسليح المقاومة

    السنوار، المؤسس المبكر للجناح العسكري وقضى 22 عامًا في السجون الإسرائيلية، تبنّى رؤية هجومية ترى في إظهار القوة الطريق إلى مفاوضات أكثر عدلًا. فوسّع كتائب القسام من أقل من 10 آلاف مقاتل إلى نحو 30 ألفًا أو أكثر، وفق تقديرات محللين. وعلى الرغم من تحفّظات بعض السياسيين في الحركة، أثبت قدرته على تحقيق مكاسب ملموسة.

    بين 2018 و2019 قاد احتجاجات مسيرة العودة على حدود غزة، مقرونًا بإطلاق صواريخ وبالونات حارقة، ما دفع إسرائيل لتخفيف نسبي للحصار وفتح محدود للمعابر وزيادة الدعم المالي القطري. ومع ذلك اتُهمت الحركة باستغلال المسيرات داخليًّا. وفي 2021، ومع قمع إسرائيل احتجاجات الشيخ جراح، أطلق القسام آلاف الصواريخ نحو مدن إسرائيلية، فتجدد الارتباط الشعبي بالحركة خارج غزة، وبرز المتحدث العسكري أبو عبيدة رمزًا للتعبئة عند كل اشتباك في القدس والضفة.

    جاء هذا كله على وقع “اتفاقيات أبراهام” وتراجع المظلّة العربية للفلسطينيين، فبدت حماس—خلافًا لموجة التطبيع— كحامية للقدس والضفة. وفي هذا السياق، تنسجم عملية 7 أكتوبر (طوفان الأقصى) مع منطق الهجوم الدفاعي عن عموم الأرض الفلسطينية. وتشير القرائن إلى أن قرار الهجوم صيغ داخل غزة أكثر من كونه من الخارج.

    رواية قصة مختلفة

    خلال الحرب، أدارت حماس استراتيجية إعلامية محكمة من داخل غزة رغم القصف وتعطيل الاتصالات، فبثّت مقاطع شبه يومية لاستهداف دبابات إسرائيلية وردّت على مزاعم استخدام المستشفيات كدروع بشرية، وقدّمت رواية مضادّة أثّرت في التغطية الدولية. لم يعد رئيس المكتب السياسي في الخارج هو الصوت الأول؛ بل صار أبو عبيدة الواجهة من قلب الميدان، فيما لعب أسامة حمدان في بيروت دورًا داعمًا ضمن سردية تعتبر الصراع تحريرًا وطنيًّا في مواجهة “مشروع إمبريالي-صهيوني”.

    ورغم النقد في بعض وسائل الإعلام العربية، حصد خطاب القسام وحمدان صدًى واسعًا فلسطينيًّا وعربيًّا، مقدّمًا إسرائيل كقوة غير عصيّة على الكسر، على النقيض من صورة العجز الملازمة لمنظمة التحرير في المخيال الشعبي. وبثمن إنساني باهظ، أعاد هجوم حماس جعل مشروع التحرير ملموسًا وأجبر العالم على النظر إلى كلفة الاحتلال وجذريته في غزة.

    أي يومٍ تالٍ؟

    قلبت عملية 7 أكتوبر الاعتقاد بأن غزة “جيب يمكن إبقاء وضعه الراهن إلى أجل غير مسمّى”، وجعلتها مجددًا جزءًا أساسيًّا من نضال التحرر الفلسطيني—مهما كان الثمن على سكانها. وارتبط هذا الوعي بإحياء صدمات مركزية في التجربة الفلسطينية: التهجير القسري داخل القطاع، وطرح سيناريوهات نقل سكان غزة إلى سيناء، ما استعاد ذاكرة 1948 لدى مجتمع معظمُه لاجئون أصلًا. لذا رأى كثيرون أن البقاء في غزة—حتى شمالها—هو السبيل لدرء “نكبة ثانية”.

    بينما تناقش واشنطن وتل أبيب “اليوم التالي” وتتفقان على هدف “القضاء التام على حماس”، تُظهر الوقائع أن فهم الحركة على أنها بنية قابلة للاجتثاث لا يراعي تحوّلها: قيادة عملياتية متماسكة في غزة، استقلال عن قيادة الخارج وحلفاء المنطقة، وحضور إعلامي وتنظيمي صلب رغم القصف الكاسح. ومع تعثر الجيش الإسرائيلي في تحقيق أهدافه، صعّدت إسرائيل في الضفة الغربية بعمليات يومية واعتقالات وتضييق شامل—بما قد يُعيد توحيد الجبهتين بعد سنوات من سياسة الفصل—وهو ما يصب، مفارقةً، في غاية حماس بإعادة ربط غزة بالنضال الأوسع.

    Slug: hamas-gaza-strategy-war-future

    0
    العلامات:
    ترجمات

    التعليقات (0)

    اترك تعليقاً

    الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *