عسكري
    سياسة

    على خطى بربروسا والنازية: هل يكتب نتنياهو فصول السقوط الصهيوني؟

    خلدون عبد الله
    خلدون عبد الله
    الثلاثاء 28 أكتوبر 2025
    على خطى بربروسا والنازية: هل يكتب نتنياهو فصول السقوط الصهيوني؟

    على خطى بربروسا والنازية: هل يكتب نتنياهو فصول السقوط الصهيوني؟

    بالتوازي مع ساحات القتال المشتعلة، تظل حلبة الصراع الأشد احتدامًا في الحروب هي تلك التي تدور في أذهان الساسة وميدان القرارات التي ينبغي لهم اتخاذها. في هذا المعترك، توصف الساعات السالفة لقرار الدخول في الحرب بأنها الأشد قتامة لما يعتريها من شكوك ومجاهيل، وما قد يترتب عليها من نتائج وخسائر. إلا أن القرار الأكثر صعوبة ومصيرية يتعلق بتحديد اللحظة التي يجب أن يتوقف عندها الصراع، لا سيما حينما تسير الأحداث وفق الخطط والتفضيلات المرجوّة والتي تولد "وهم النصر المطلق".

    العملية بربروسا: حينما يصبح النصر بوابة الأفول

    في هذا الشأن، تبرز تجربة ألمانيا النازية في غزو الاتحاد السوفييتي في يونيو/حزيران 1941، ضمن الحرب العالمية الثانية، فيما يعرف بالعملية بربروسا، والتي مثلت لحظة انكسار الهيمنة النازية وبداية أفول الرايخ الثالث.

    قبيل الحملة، كانت تكتيكات القوات المشتركة (البرية، الجوية، والبحرية) لآلة الحرب الألمانية -أو ما يعرف بالحروب الخاطفة- قد حققت نجاحًا ساحقًا على جبهات عدة، اتسعت معها الإمبراطورية النازية من شبه الجزيرة الإسكندنافية شمالًا حتى شمال إفريقيا جنوبًا، ومن البلقان شرقًا نحو شواطئ الأطلسي غربًا. وبتحالفها مع إيطاليا ورومانيا وفنلندا، والتوافق بينها وإسبانيا، تمكنت ألمانيا فعليًّا من الاستحواذ على القارة الأوروبية، والهيمنة على مساحاتها البرية ومسطحاتها المائية.

    خريطة التوسع النازي في أوروبا
    خريطة التوسع النازي في عام 1941 باللون الأزرق وتدرجاته

    بالرغم من ذلك، وبنشوة الانتصارات الساحقة، تمادى طموح هتلر نحو أوروبا الشرقية وأبعد منها إلى احتلال الأراضي السوفييتية، وكسر الاتفاق بينه وستالين لأسباب جيوسياسية وجيو-اقتصادية، تمثلت الأولى في خلق حيز جغرافي آمن وعمق استراتيجي بين مراكز الثقل الألمانية والقوة السوفييتية. بينما وعلى الصعيد الآخر، أراد هتلر الاستحواذ على آبار النفط القوقازية وفي محيط بحر قزوين لتغذية المزيد من حملات التوسع النازية.

    لهذه الأسباب جهزت ألمانيا أكبر حملة برية في التاريخ، بلغ تعداد جنودها أكثر من 3.5 ملايين مقاتل تم توزيعهم على ثلاثة محاور: شمالي يخترق دول البلطيق نحو لينينغراد، ووسط يزحف نحو موسكو، وجنوبي يسير باتجاه كييف والقوقاز. على المستوى المباشر، ولأجل الأهداف الاستراتيجية الكبرى المذكورة سلفًا، سعت الحملة الألمانية إلى تدمير الجيش الأحمر والقدرات الهيكلية السوفييتية، واحتلال مراكز الثقل والمدن الرئيسية، وتهجير السكان السوفييت واستبدالهم بمستوطنين ألمان.

    بحلول أكتوبر/ تشرين الأول 1941، حققت القوات الألمانية نجاحات أولية مبهرة وتقدمت بخطوات حثيثة نحو احتلال موسكو، ولكن سرعان ما بدأت الأمور بالانقلاب العكسي، إذ بدأ السوفييت في امتصاص الصدمة وإعادة ترتيب صفوفهم وشن هجوم المضاد. في المقابل كان حلول الخريف وموسم الأمطار سببًا في عرقلة تحركات الجيش الألماني التي ازدادت تعقيدًا بحلول الشتاء القارص. واقترنت التعقيدات بسوء التخطيط والإدارة من الجانب الألماني، لا سيما على مستوى العمليات والحسابات اللوجستية، ما أدى إلى انتكاسة النازيين وتقهقرهم.

    على المستوى القاري، بدأت المصالح البريطانية والسوفييتية تتقارب في ضرورة التخلص من العدو المشترك، ما أفضى إلى تبدل جذري في ميزان القوة الأوروبي، والذي سرعان ما تضاعف بدخول الولايات المتحدة على خط القتال، ليبدأ بذلك دومينو سقوط الرايخ الألماني.

    الدروس الاستراتيجية من بربروسا

    مما سبق، يمكن استخلاص ثلاثة قواعد استراتيجية مهمة:

    • القاعدة الأولى: اندفاع أي طرف، تحت نشوة النصر، إلى توسعة الأهداف العسكرية، يدفعه للخروج عن دائرة الأهداف والخطط المعدة سلفًا، ما قد يعني فقدان البوصلة الاستراتيجية والدخول في حملات ليس لها هدف ملموس أو قابل للتحقق، بل تقود الطرف المهاجم نحو فخ المبالغة في التوسع.
    • القاعدة الثانية: يقود التمادي العسكري إلى استنفاذ الخيارات الاستراتيجية للخصم، ووضعه أمام حتمية القتال بشراسة حتى الرمق الأخير، وهو ما يأتي مصداقًا للقاعدة التي أرساها صن تزو في فن الحرب: "إياك وقتال العدو الذي نفدت خياراته، فحينما يغدو الموت حتميًّا ينتهي الخوف".
    • القاعدة الثالثة: يؤدي السلوك العسكري غير المقيّد إلى تغيير ميزان التهديد وخارطة التحالفات بصورة جذرية ضد الطرف المهاجم. فبينما تحاول الأطراف في بادئ الأمر تحييد نفسها عن الصراع وتصفير التهديد من جانب القوة الصاعدة، تفضي الحملات العسكرية الشاملة إلى إحداث تبادلين مترادفين: تحويل الطرف المهاجم إلى مصدر تهديد مشترك عند مختلف الأطراف بغض النظر عن مستوى التباين فيما بينها، ثم تصفير المشكلات بينها –ولو بشكل مؤقت– وتقاربها لخلق توازن مضاد يقلب المعادلة ضد المهاجم.

    بين غزة وبربروسا: المشهد الإسرائيلي الراهن

    مع مطلع عام 2025، كان جيش الاحتلال الإسرائيلي قد حقق نجاحات كبيرة على المستوى الإقليمي، قلبت ميزان القوة وأعادت تعريف الموقف الاستراتيجي بصورة فارقة لصالحه. حيث تمكن من السيطرة على شمال قطاع غزة والتمدد نحو منطقة الوادي التي تفصل بصورة طبيعية بين شقي القطاع، بينما حاصر المنطقة الجنوبية وطوّق معابرها. وفق هذا التموضع، لم تكتسب إسرائيل عمقًا استراتيجيًّا في شمال غزة –مركز ثقل المقاومة الفلسطينية– فحسب، بل استطاعت وضع المقاومة والمدنيين جنوب القطاع في موقف صعب للغاية، نظرًا للحصار المطبق وعسكرتها للمساعدات الإنسانية.

    بالإضافة إلى ذلك، تعرض حزب الله لضربات نوعية استهدفت صفوفًا متعددة في هرمه القيادي، ما دفعه لطلب الهدنة والموافقة على الانسحاب إلى شمال نهر الليطاني، بالتزامن مع إعادة ترتيب المشهد السياسي في بيروت. فخروج الحزب من جنوب لبنان مثّل إزاحة لأهم تهديد للمستوطنات الشمالية في الأراضي المحتلة.

    خريطة القرى اللبنانية المهجرة
    خريطة القرى اللبنانية التي تم تهجير أهلها قسريًّا ومنعهم من العودة
    على ذات المنوال، أفضت التطورات الميدانية، فضلًا عن التوافقات الدولية والإقليمية إلى إسقاط نظام الأسد في سوريا، ودخول البلد في مرحلة انتقالية أنتجت فراغًا جيوسياسيًّا، سارعت إسرائيل نحو استغلاله بضرب مخازن الأسلحة الاستراتيجية السورية، بالإضافة إلى التوسع في هضبة الجولان –لا سيما قمة جبل الشيخ الاستراتيجية– والتمدد في ريف دمشق. من جانبه، اتجه النظام السوري الجديد إلى طلب التهدئة والتلميح بإمكانية التوصل إلى اتفاق مع تل أبيب. وهو ما فتح الباب نحو مكسب استراتيجي غير مسبوق للجانب الإسرائيلي قد يتمثل في تثبيت المكتسبات الجغرافية وتعزيزها بوضع جيوسياسي، من خلال تحويل سوريا إلى كيان حاجز بين إيران ولبنان بعدما كانت الجسر اللوجستي المفتوح بين طهران والضاحية الجنوبية.

    التصعيد الإسرائيلي وتبدل التحالفات

    من جانبها، حبذت إيران –بغية حماية برنامجها النووي من الاستهداف– سياسة الصبر الاستراتيجي، وتجنبت الانزلاق في صراع واسع بالرغم من الاستفزازات الإسرائيلية المتكررة. وفتح الخيار الإيراني لإسرائيل الباب على مصراعيه لضرب حلفاء طهران في المنطقة وتقويض نفوذها الإقليمي، بما قلب المعادلة الاستراتيجية بصورة فارقة لصالح تل أبيب.

    في الجهة المقابلة، اتجهت الأنظمة التقليدية في الشرق الأوسط تتجه نحو التطبيع بدعم وتشجيع من البيت الأبيض، يفضي في منتهاه إلى تكوين تحالف عسكري بمظلة أمريكية، وهو ما من شأنه ترجيح الكفة الإسرائيلية في معادلة توازن القوة الإقليمية، بالإضافة إلى إكسابها دفاعات متقدمة خارج حدود الأراضي المحتلة، بموجب مبدأ الدفاع المشترك مع الدول المطبِّعة.

    بالرغم من ذلك، آثر نتنياهو توسعة العمليات العسكرية وتطويرها على مختلف الجبهات. فخاضت آلة الحرب الإسرائيلية حرب إبادة وحشية في جنوب غزة دون طائل، في ظل صعوبة احتلال جنوب القطاع المكتظ بالمدنيين الفلسطينيين، وعدم واقعية تهجيرهم واستبدالهم بمستوطنين صهاينة، لا سيما في ظل رفض دول الجوار استقبال لاجئين فلسطينيين لاعتبارات تتعلق بأمنها القومي.

    وفي الوقت الذي تتعنت فيه تل أبيب وتتمسك بالخيار العسكري في غزة، تذهب خسارتها السياسية أبعد من السقوط الأخلاقي في المجتمع الدولي، وتمتد إلى تعكير الوفاق بينها وحلفائها التقليديين الذين دأبوا على دعمها بصورة غير مشروطة في المرحلة السابقة. حيث أعلنت بريطانيا في مايو/أيار تجميد اتفاقية التجارة الحرة بينها وإسرائيل نتيجة استمرار عملياتها العسكرية في غزة، وتصاعّد الأمر في أغسطس/آب الماضي بمنع وفد الحكومة الإسرائيلية من حضور معرض السلاح الدولي المزمع انعقاده بلندن في سبتمبر/أيلول الجاري.

    على ذات المنوال، اعترف الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، في تصريح لموقع "ديلي كولر" أن حكومة نتنياهو واللوبي الصهيوني بدآ يفقدان نفوذهما في أروقة الكونغرس الأمريكي، بينما أشارت استطلاعات الرأي إلى انخفاض شعبية إسرائيل لدى فئة الشباب في الحزب الجمهوري.

    النتائج العكسية للتصعيد الإسرائيلي

    خارج الحدود الفلسطينية، جاء التصعيد الإسرائيلي ضد إيران بنتائج عكسية، إذ مثّلت المحاولة المثيرة للجدل في استهداف المنشآت النووية في يونيو/حزيران إسقاطًا لجدوى ورقة التحفظ والانكماش الاستراتيجي لطهران، التي باتت أمام خيار وحيد وهو الرد الحتمي. وبالمحصلة العامة، فشلت العملية في تدمير الأصول النووية الإيرانية بشكل كامل، وسقطت معها الهيمنة الإسرائيلية على سلّم التصعيد مع النظير الإيراني، ما مثّل انقلابًا في معطيات الحرب.

    في المشهد المقابل، وفي تطور ملفت، صرّح الرئيس السوري "الشرع" أن سوريا تتطلع إلى فتح صفحة جديدة مع حزب الله ولبنان. وهو أمر لا يمكن قراءته بمعزل عن تعثر الوساطات الأمريكية – التركية في كبح جماح التوسع الإسرائيلي في الأراضي السورية، ما يفتح الباب أمام التقارب بين أعداء الأمس، وربما خلق توازن مضاد قد يمتد أبعد من حزب الله ليشمل إيران أيضًا.

    على مستوى الحلفاء المحتملين، كانت خسارة حكومة نتنياهو مماثلة لنظيراتها في الأصعدة الأخرى. ففي المقام الأول، أدانت الدول العربية، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية، الهجوم الإسرائيلي على المنشآت النووية الإيرانية. ولاحقًا، أثارت تصريحات نتنياهو عن "إسرائيل الكبرى" موجة غضب عربية أكثر حدّة، تصدرتها تصريحات الأمير تركي الفيصل الذي وصف نتنياهو بـ "المعتوه". وهو الموقف الذي أيدته الخارجية السعودية، وماثلها في ذلك الموقف الرسمي في الأردن ومصر وقطر ودول عربية أخرى.

    الخلاصة: إسرائيل على خطى بربروسا

    على خطى بربروسا، تسقط الصهيونية اليوم في ذات أخطاء ألمانيا النازية. ويعيد نتنياهو إنتاج هتلر في عدم استثمار الموقف الاستراتيجي، والاندفاع بوهم الانتصار الساحق. ففي المقام الأول، يمكن القول إن الجيش الإسرائيلي، ومع تواصل عملياته العسكرية بدأ يفقد البوصلة الاستراتيجية، ما يقحمه في مربع المبالغة في التوسع، ولا سيما مع ترسيخ وهم "إسرائيل الكبرى"، الذي يضيف أعباءً أخرى دون طائل استراتيجي.

    ثانيًا، أفضى التصعيد الإسرائيلي إلى وضع خصوم تل أبيب أمام حتمية القتال، وخسارتها للهيمنة على ميزان التصعيد (كما في الحالة الإيرانية). وبالتالي، انتقال المعادلة من التمدد الإسرائيلي والانكماش الإيراني إلى الرد المضاد وإيقاف الاشتباك عند نقطة غير محببة لتل أبيب.

    ثالثًا، أسهمت العمليات الإسرائيلية في تبدل ميزان التهديد الإقليمي، وتحويل الكيان الصهيوني إلى العدو المشترك عند جميع الأطراف الإقليمية –بالرغم من عداواتها فيما بينها– ما برز في التصريحات السورية وفتح صفحة جديدة مع المحور الإيراني، وكذا في انقلاب الموقف العربي من التطبيع إلى الخصومة.

    وبالمحصلة العامة، ترفض إسرائيل اليوم تثبيت المكاسب المرحلية وتستبدلها بوهم النصر المطلق، وهو الأمر الذي إذا ما تمادت فيه قد يفتح فصلًا جديدًا في أفول المشروع الصهيوني على المستويات العسكرية والاستراتيجية والتاريخية.

    خلدون عبد الله

    خلدون عبد الله

    ماجيستير في الدراسات الاستراتيجية والدفاع

    0
    العلامات:
    مقالات

    التعليقات (0)

    اترك تعليقاً

    الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *