استراتيجيسياسيمقالات

أساطير المحللين وأحاديث الهزيمة

في سياق الصراعات الممتدة والمفتوحة، كثيرًا ما يتشكل خطاب مضاد للمقاومة ـ ولو دون قصد ـ يعبّر عن مزيج من الواقعية المتشائمة، والتحليل المجافي لروح السياق، إذ يعاني من الارتهان لمعادلات القوة دون الانتباه لتدفق حركة التاريخ وتعقيدات الفعل المقاوم.

ويُلاحظ أن هذا الخطاب يُعاد إنتاجه بشكل متكرر كلما تصاعدت موجات المواجهة بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي، إذ يقدّم نفسه بصفته خطابًا عقلانيًا وتحليليًا، بينما هو في حقيقته يُعيد تعريف مفاهيم النصر والهزيمة على نحو يفضي عمليًا إلى نزع الشرعية عن الفعل المقاوم، وإفراغه من مضمونه، سواء السياسي أو الديني أو الإستراتيجي.

هذه الأصوات التي ترى في كل مقاومة عبثًا، وفي كل نصر وهماً، وفي كل دم يسيل دليلاً على الهزيمة، وربما كان ذلك لخلل في تصور موازين الصراع، أو عدم إشباع النصر البسيط لغرورهم التنظيري، باعتبارهم “أساطير المحللين”.

الإعلام كفاعل استراتيجي في معركة الوعي

بعض هؤلاء المحللين اختزلوا معركتهم الكبرى مع بعض وسائل الإعلام المناصرة للمقاومة، فراحوا يصبّون جام نقدهم على قناة الجزيرة، من منطلق الطعن في مصداقية الرسالة ذاتها والتي لم تنف المقاومة أنها رسالتها في الحقيقة. ويستند هذا الطعن غالبًا إلى معطيات سياسية تتعلق بعلاقات قطر بالولايات المتحدة أو توازناتها الإقليمية، متهمين إياها بتضليل الشعوب، وصناعة انتصارات وهمية للمقاومة، لمزيد من التورط في الصراع بما يعطي شرعية القوة للعدو، وينهي القضية الفلسطينية!

متجاهلين في ذلك أن القناة وبرغم بعض التحفظات عليها؛ قد لعبت ـ بما تملكه من إمكانيات هائلة ـ أدواراُ هامة في إدارة المعركة الإعلامية المؤثرة في الصراع الدائر في قطاع غزة، وهي أدوار يمكن تلخيصها في بُعدين رئيسيين:

أولا: دور التوجيه المعنوي: وهي وظيفة تفتقر المقاومة إلى أدواتها، في ظل السيطرة الإسرائيلية والغربية على الفضاء الإعلامي الدولي، وحاجة جماهير الأمة إلى الشحن المعنوي.

ثانيا: التوثيق الاحترافي لجرائم الاحتلال: وهو ما أضعف الرواية الإسرائيلية في المحافل الدولية، وجعلها مصدراً لتوثيق الملفات الحقوقية، والتعبئة السياسية والأممية.

وبالتالي فإن انتقاد أداء الجزيرة ـ الذي قد لا يخلو من أخطاء ـ بوصفه أداة للتضليل الاستراتيجي؛ يتجاهل أدوراها الواقعية الداعمة، كما يتجاهل إمكانات المقاومة ذاتها، فهل من الحكمة أن نهدر أهم أدواتنا الإعلامية وربما السياسية في خضم المعركة!

مفاهيم النصر ومعايير الهزيمة

من المفارقات التحليلية المتكررة أن كثيرًا من الانتقادات الموجهة إلى المقاومة تنطلق من اعتبارات النصر بمعايير الدولة الحديثة أو الحرب النظامية، مع تجاهل الفروقات الجوهرية بين الصراع التمكيني الشامل، وبين المقاومة الشعبية غير المتكافئة.

وفي حين تُدرك المؤسسات البحثية الغربية والإسرائيلية أن الصمود في المعركة يضعف صورة الردع الإسرائيلية، بما يُعدّ في ذاته تحولا في ميزان الردع؛ فإن بعض المحللين العرب يختزلون المعركة في الخسائر البشرية أو المادية، دون اعتبار للبُعد الرمزي أو لتآكل هيبة العدو داخلياً وخارجياً.

إن الاختلاف مع “نخبة الانهزام التحليلي” لا يدور حول وجود خسائر أو معاناة في غزة، فذلك لا يُنكره إلا أعمى، لكن الخلاف هو في تعريف النصر ومعنى الهزيمة، فهل النصر هو صورة إعلامية تنتهي بلقطة رفع علم على دبابة؟ أم هو تراكم في رصيد الوعي والإرادة والبناء الجهادي، وانكسار متدرج في معنويات العدو، وتشقق في جبهته الداخلية، وتفاقم أزماته!

إن اللحظة الضيقة ليست هي كل شيء، وإنما هي سطر في كتاب التاريخ، بينما النصر صفحة من صفحاته، تتبدى فيها سنن التدافع بكل قوتها وعنفوانها، وقد أثبت مشاهد التاريخ أن الهزيمة العسكرية لم تكن أبداً نهاية لمشارع التحرر الحديثة في فيتنام والجزائر وإيران وغيرها، إذ كانت دوماً دافعًا لإعادة التمركز.

التحليل بالمؤامرة

من المدهش أن بعض هؤلاء المحللين باتوا يتعاملون مع وقائع الصراع من زاوية “الماورائيات الاستخباراتية”، فكل شيء لديهم مؤامرة، وكل مشهد مسرحية، وكل جهد مقاوم جزء من لعبة دولية. وتتمحور تجليات المؤامرة تلك حول فكرتين رئيسيتين:

الأولى: أن تطورات الواقع هي جزء من مخططات أجهزة الاستخبارات الدولية، وهو استدراج لخطاب النقد التحليلي للمقاومة للإغراق فيما يمكن تسميته “ذهنية التآمرية المطلقة”، التي تفسر كل حدث سياسي أو عسكري بوصفه صناعة استخباراتية، فالمقاومة في ظنهم قد استدرجت من قبل العدو للقيام بأخطر وأكبر عملياتها “طوفان الأقصى” ضد العدو نفسه! وهذا النمط التحليلي لا يُنتج فهًماً دقيقاً، بقدر ما يخلق هلعاً في النفوس وتشويشاً في العقول، وشعورًا عامًّا بالعجز واللا جدوى، فضلاً عن كونه غير حقيقي ولا واقعي!

وبينما تكذب خسائر العدو، وتداعي الدول الداعمة، وأزماته الاقتصادية، وورطته السياسية، تلك المزاعم؛ فإن هؤلاء المحللين يتناسون أن للعالم سننًا، وأن لله حكماً وقدراً، وأن الركون الكامل للتفسير التآمري هو نوع من تأليه الخصوم في ظرف يكادون أن يترنحوا فيه!

الثانية: تنزع إلى العدمية السياسية، التي تُفقد الفعل المقاوم أي معنى، وتُبقي الشعوب في موقع التلقي والجمود، ومثل هذا التحليل يفترض مسبقًا أن الفاعلين المحليين مجرد أدوات في مشهد كُتب سلفًا، وهو افتراض لا يصمد أمام معطيات الواقع المعقد، الذي تتداخل فيه الإرادات والتفاعلات والنتائج غير المقصودة، فضلًا عن عنصر المفاجأة والصراع الداخلي بين النُّخب الحاكمة نفسها.

العلاقة بين التحليل والخطاب النبوي

ثمة نوع من التوظيف غير المنضبط لعلامات الساعة ونبوءات آخر الزمان في بعض التحليلات الشعبية، بحيث تخرج تلك النبوءات عن إطارها التربوي التحذيري، بل والمحفز لصناعة الواقع؛ إلى اعتبارها أدوات تحليلية يُبنى عليها فهم الأحداث والوقائع، بل وتوقع مآلاتها!

والتحليل المتزن لا ينفي الغيبيات، كما لايٌغرق في المعطيات، وإنما هو ذلك العقل المشدود بين السنن الإلهية والواقع الملموس، ولهذا فإننا نحتاج إلى محاولة منهجية لبلورة “نظرية للتعامل مع ثوابت الشرع” تدمج بين فهم السنن الكونية والمعطيات الواقعية فيما يمكننا تسميته بـ”نظرية الثوابت”، تلك التي لا تتجاوز المعطيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي وردت في نفس النبوءات، دون أن تُغرق في التنجيم أو تهرب من الواقع.

وهي رؤية جديرة بالبحث، لكنها تختلف جذريًا عن الخلط الشائع بين الغيبيات والتحليل السياسي، الذي يؤدي إلى نتائج غير قابلة للتحقق أو حتى يمكن إخضاعها للنقاش العلمي.

جهاد الدفع ومركزية القضية

من مظاهر الأزمة المعرفية في هذا الخطاب التحليلي أنه يغفل البُعد الجوهري للصراع الفلسطيني، وهو كونه صراعًا وجوديًا مع مشروع استيطاني عنصري إحلالي. وهو ما يفرض ـ شرعاً وعقلاً ـ استمرار مقاومته بكل الوسائل الممكنة، باعتبار أن جهاد الدفع واجب في الفقه السياسي الإسلامي لا يسقط بتغير الظروف أو اختلاف النتائج.

فالاحتلال هو أصل الصراع، ووجوده هو سبب كل المجازر والانتهاكات، ومن ثم فإن الفعل المقاوم هو ردّ فعل مشروع، وليس مبادرة عبثية أو مغامرة غير محسوبة كما يصوّره بعض التحليلات السائدة.

وختاماً: فإنا ما نحتاجه هو الخطاب المتوازن الذي يعبر عن مشروع تحرري، لا يزعم أن المقاومة معصومة أبداً، أو أن كل ما تقوم به لا بُد أن تكون نتائجه صحيحة أو إيجابية، ولا نقول إن أي قناة إعلامية لا تحركها أجندات المسؤولين عنها، أو أن كل تحليل مضاد هو خيانة!

لكننا نحذّر من مدرسة التحليلات التي تشبه حوارات العجزة في دور المسنين أو المعاقين، وتبث التفكير الموغل في السلبية الباردة لا التي لا تصنع وعيًا ولا تحرر وطنًا.

إن المقاومة الفلسطينية اليوم تخوض معركة تتجاوز حدود الجغرافيا، وتمتد إلى معركة الوعي وتشكيل الرواية واستعادة شرعية الصراع، وفي هذا السياق يصبح الخطاب التحليلي مسؤولية، لا مجرد رفاهية فكرية أو تنفيس سوسيولوجي.

إننا بحاجة إلى تحليل نقدي، نعم، لكننا بحاجة أشد إلى تحليل بنّاء يرتبط بالسياق، ويعترف بإكراهات الواقع، دون أن يستسلم لها أو يُكرّسها، ففي معركة كمعركة فلسطين، ليس الحياد وجهة نظر، وليس التشكيك حِكمة، وليس الهروب من الميدان نقدًا موضوعياً، بل إن أخطر ما قد تواجهه قضية عادلة هو خطاب يُفرّغها من معناها، ويُشكّك في شرعيتها، تحت عنوان “الواقعية”.

خالد سعيد

سياسي مصري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى