أمنمقالات

تحديات المنظومة الأمنية السورية الجديدة في ظل المرحلة الانتقالية

تُعدُّ أجهزة الأمن والاستخبارات في الدول الاستبدادية أدوات للحفاظ على النظام الحاكم ورئيسه، فمن خلالها تسيطر السلطة على الحياة السياسية والبنية الاجتماعية، وهو ما أصبح عرفًا في أغلب دول منطقتنا العربية.  لكن انتصار الثورة في سوريا وسقوط نظام بشار الأسد أعاد إلى الواجهة الحديث عن المنظومة الأمنية السورية، والتي تحاول الإدارة الجديدة في دمشق إعادة تشكيلها بما يضمن حقوق السوريين وكرامتهم وأمنهم معًا.

وفي ضوء هذا التغيير، تواجه الإدارة السورية تحديات على مستوى التركيبة التنظيمية والبنية المجتمعية والتهديدات الداخلية والخارجية، مع ضرورة تحقيق الكفاءة اللازمة. ويتطلب هذا منها السعي الحثيث لاستيفاء الركائز البنيوية والتعامل مع العوامل المؤثرة في الوصول إلى “الفاعلية الأمنية” المطلوبة. ويُعنى بـ “الفاعلية الأمنية” توفر أربع ركائز لدى المنظومة الأمنية هي: التكامل وحُسن الاستجابة والجودة والمهارة، إلى جانب التعامل مع تأثير “العوامل المؤثرة” المتمثلة في: الثقافة، المؤسسات المحلية، والفواعل الدولية.

ومع تيسر معالجة التركيبة التنظيمية في ظل توافر المواد المساعدة على فَهم هيكلية أجهزة المخابرات الإقليمية والدولية، نسلط الضوء في هذا المقال على التحديات أمام الوصول إلى مستوى “الفاعلية الأمنية” والتي يرتبط بعضها بالعناصر المادية، وبعضها الآخر بالعقلية والثقافة، وأساليب الجمع والتحليل المتعلقة بمستوى اليقين من عدمه.

“الفاعلية الأمنية”

تشير الفاعلية هنا إلى مدى قدرة الدولة على ترجمة الموارد المتاحة لديها إلى إنجازات، لذا قد نجد بعض الدول الضعيفة ماديًّا لكن لديها فاعلية أقوى بكثير مما تشير إليه مواردها.

أولًا: “التكامل التنظيمي”

يتشكل مجتمع الاستخبارات من أجهزة رئيسية ترتبط جميعًا بهيئة عليا تنسق العمل بين هذه الأجهزة فيما بينها، وبينها وبين سائر الإدارات في الدولة. وفيما تصمم الأنظمة الاستبدادية مهام هذه الأجهزة بشكل متداخل لتشجيع المنافسة البينية، وضمان عدم تجاوز أي جهاز للسقف الذي يسمح له بتهديد رأس النظام، إلا أنَّ ذلك من شأنه إضعاف “الفعالية الأمنية” عبر إضعاف عنصر “التكامل” ومنع فرص التعاون وتبادل المعلومات بين الأجهزة.

ثانيًا: “الاستجابة”

تتمثل في القدرة على تكييف الممارسات والعمليات مع القدرات الذاتية من جهة وقدرات الخصوم والتحديات عامة والقيود الخارجية المفروضة على الدولة المادية والتكنولوجية والسياسية. ولذا فهي تعني هيكلة المؤسسة الأمنية وتنظيمها وتدريبها وتجهيزها بما يتناسب مع البيئة التي ستعمل فيها والتحديات التي ستواجهها، وبما يتوافر لديها من موارد وفَهم لنقاط الضعف الداخلية والقيود الخارجية وتعديل الأنشطة لتعويض النقص الحاصل إن لم يمكن التغلب عليه.

ثالثًا: “الجودة”

تتعلق هذه الركيزة بجودة التقنيات والتجهيزات المتاحة ومدى مواكبتها لمسار التطور الحديث، على مستوى أجهزة الاعتراض والتنصت والكشف والتتبع، ونُظُم البيانات والسجلات وإجراءات التقديرات والتقييمات المطلوبة للتحديات الآنية والمستقبلية.

لكن جودة التجهيزات مرتبطة أيضًا بالقدرة الشرائية والميزانية المخصصة للمنظومة الأمنية، فضلًا عن حسن اختيار التجهيزات المفيدة في التعامل مع التحديات التي تواجهها الدولة، تفاديًّا لهدر الموارد المالية على شراء تجهيزات غير ذات صلة بالتحديات. كما أنَّها مرتبطة بكفاءة وجهوزية الكادر الأمني على مستوى الفرد والوحدات، فالأمن الذي يجد صعوبة في استخدام التقنيات الحديثة سيصعب عليه تحقيق الاستفادة القصوى من الموارد المتاحة مهما بلغت جودتها.

رابعًا: “المهارة”

هي قدرة المنظومة الأمنية وعناصرها على أداء المهام وفقًا لمعيار موضوعي، يتمثل في استيعاب التكنولوجيات الجديدة وفَهم استخدامها، وحسن استخدام المعدات على المستوى التكتيكي، والانسجام مع الهيكلية التنظيمية المطلوبة، والتكيف مع التهديدات الأمنية في الميدان.

كما تشمل قدرة الجهاز الأمني على تعبئة عناصره وتحفيزهم أيديولوجيًّا بما يعزز عنصر المبادرة الفردية لديهم، والشعور بالانتماء للمؤسسة الأمنية والنظام السياسي وأهدافه والالتزام بها. لكن هذه المسألة متعلقة بركيزتي “التكامل” و”الاستجابة” أيضًا، ففائدة المعدات في النهاية لا تقتصر على خصائصها التكنولوجية أو كلفتها، بل أيضًا على كيفية استخدامها ومدى نجاحها في العمليات المطلوبة.

“العوامل المؤثرة”

تعمل الدولة ومنظومتها الأمنية في بيئة محلية وإقليمية ودولية متفاعلة فيما بينها، حيث تتفاعل نقاط القوة والضعف لسائر الأطراف الدولتية وما دون الدولتية (الجماعات والتنظيمات)، والإقليمية والدولية، لتشكل الفرص والتحديات والمكتسبات والضغوط التي تتعامل معها الدولة والمنظومة الأمنية. ولذا، تنعكس عوامل الثقافة والمؤسسات والفواعل الدولية على “الفاعلية الأمنية” للدولة.

أولًا: “الثقافة”

تتعلق الثقافة بالحالة الداخلية للدولة، وقد يُعنى بها “العقيدة” أو “الأيديولوجية” أو “الهوية” التي ينتمي إليها الشعب بعمومه أو بأغلبيته، وهي تتمحور حول مسارين: الثقافة الاستراتيجية (الأيديولوجية الوطنية)، والثقافة المجتمعية التي تتعلق بتأثير المعتقدات المشتركة في المجتمع على سلوك المؤسسات- ومنها المنظومة الأمنية- عمليًّا.

ووفق هذا التقسيم، فإنَّ الثقافة المجتمعية تعزز الشعور بـالانتماء الوطني والهوية الوطنية على حساب الهُوية العرقية والمذهبية، بما يتناسب مع الثقافة الاستراتيجية للدولة وأهدافها العامة وذلك وفق بناء الأفكار حول الانتماء الوطني للفرد ووجوب المساهمة والبذل فيما فيه خير المجتمع.

ثانيًا: “المؤسسات السياسية”

تؤثر المؤسسات السياسية وقوانينها على عمل المنظومة الأمني، فخلافًا للأنظمة التي تفرض سطوة أجهزتها الأمنية على المستويات السياسية -كما كان حال النظام السابق- فإنَّ القواعد الرسمية المدونة في الدساتير والقوانين وغير الرسمية المثبتة في الأعراف والعادات تنظم عمل المنظومة الأمنية وتقيدها بما يتماشى مع الحقوق والمصلحة العامة. ويتعلق ذلك في الأصل بطبيعة النظام الحاكم، والعلاقة بين أجهزة الأمن وإدارات الدولة (وزارتي الخارجية والدفاع والدوائر التابعة لهما) والعلاقة مع القيادة السياسية.

ثالثًا: “الفواعل الدولية”

هناك مجموعة متنوعة من الظواهر المحتملة التي تنشأ في البيئة الإقليمية والدولية، والتي قد تؤثر في منظومة الدولة الأمنية وجهوزيتها وفاعليتها. فالحوافز والضغوط الخارجية تنعكس على الفاعلية الأمنية عبر تعديل القرارات والممارسات، وتأثير ذلك سلبًا أو إيجابًا على الاستراتيجية العامة للدولة. ويشمل ذلك أيضًا عوامل تتخذ شكل معايير عالمية تحدد الأشكال والسلوكيات المقبولة بالنسبة للمجتمع الدولي، والتي كثيرًا ما تكون مضمنة في المنظمات الإقليمية والدولية أو القانون الدولي أو الأمم المتحدة، والمكتسبات والتكاليف المترتبة على الامتثال لهذه الضغوط.

“الحد من عدم اليقين”:

تنفق الدول الكبرى سنويًّا جزءًا كبيرًا من ميزانياتها للحد من عدم اليقين -الشكوك- في مختلف المجالات، فالولايات المتحدة مثلًا تنفق ما يقرب من 50 مليار دولار سنويًّا للحد من حالة عدم اليقين لدى مجتمع الاستخبارات الأمريكي. وهذا الجهد من الأهمية بمكان، إذ يساعد صناع القرار على توقع المشكلات وتحديد الفرص وتجنب الأخطاء، واتخاذ قرارات أفضل حول ما يجب فعله.

ومعلوم أن من ضمن أهداف إنشاء أجهزة الاستخبارات استكشاف الأسرار وجمع المعلومات التي لا يمكن للباحثين، أو الصحفيين، أو الدبلوماسيين، أو غيرهم الحصول عليها، لكن الحد من عدم اليقين حيال قضايا الأمن القومي قد يكون أكثر جدوى من مجرد جمع المعلومات.

يشتمل الحد من عدم اليقين: الحصول، بشكل علني أو سري، على المعلومات التي يُعتقد أنَّها مفيدة في فَهم التطورات أو نوايا الحلفاء والخصوم معًا لإنتاج ما يشار إليه بـ “المعرفة الجديدة”، بما يثبت أو يدحض شعورًا أو حدسًا ما لدى ضابط الاستخبارات أو صناع القرار. ولذا، فمن المهم تطوير أساليب الجمع والتحليل والاستنتاج بما يتفادى التحيزات الشخصية والنفسية، وهذا ما يعزز التكامل بين المستويين السياسي والأمني عبر زيادة تدفق المعلومات ومساعدة القادة في اتخاذ القرارات.

أبرز التحديات المرتقبة

تبرز ضمن التهديدات البارزة للأمن القومي لسوريا الجديدة التهديدات الانفصالية في الجنوب والساحل والمنطقة الشرقية، والتي تمثل حاجزًا محتملًا أمام مسار عمل الإدارة الجديدة وتؤثر بشكل عميق في سياساتها وتماسك حالتها الداخلية بما تخلقه من هشاشة أمنية وضغوطات إقليمية ودولية مؤثرة، ما سينعكس على سياسات الأمن والاستخبارات المعتمدة. بيد أنَّ تعاطي الإدارة الجديدة فضلًا عن المجتمع الدولي مع هذه الحالات وفق “الشعور الأقلوي” يؤجج هذا التهديد ولا يحله، وقد يدفع نحو المبالغة في تصوير تهديد الأكثرية على الأقليات بما يحفز حالات تمرد.

وفي ظل هشاشة الوضع في تلك المناطق، فإنَّ فرض سيطرة الدولة في سياق هذه المرحلة التغييرية يتطلب الترويج لفكرة جامعة كوسيلة لحشد الناس خلف الإدارة الجديدة لمواجهة سائر التهديدات. مع الإشارة إلى أنَّ الهوية التي لا تحظى بالدعم الكامل ولا المرونة الكافية لا تصمد، كالهويات اليوغوسلافية والسوفييتية، لذا فتشكيل الهوية يجب أن يكون من خلال الاعتماد على العناصر للتاريخ السوري وحالة التعايش فيه.

وإلى جانب ذلك، يبرز تهديد تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” القديم المتجدد، والذي تمتلك هيئة تحرير الشام، كبرى مكونات الإدارة الجديدة، باعًا طويلًا في مكافحة أنشطته. وقد أحبط جهاز الأمن العام في يناير 2025 عملية استهداف مقام السيدة زينب في دمشق، واعتقل على إثر ذلك خلية أمنية تتبع لتنظيم الدولة.

كما تبرز في البيئة السورية أزمة العلاقة بين المواطن والأجهزة الأمنية، والتي قامت طوال حكم النظام السابق على الترهيب والاستبداد وكم الأفواه والاعتقالات والقتل تحت التعذيب. ولمعالجة هذه العلاقة الإشكالية وتغيير النظرة السائدة تجاه الأمن، من الضروري فصل وحدات إدارة العمليات العسكرية عن أدوار الأمن والشرطة والاستخبارات، فعناصر الجيش لا يجيدون التعامل مع المهام الأمنية والاستخبارية وعمليات إنفاذ القانون بين المدنيين.

ولتعزيز هذا المسار، ينبغي تأسيس قنوات اتصال مع المكونات الشعبية ونشر برامج توعية تمنع عزل أجهزة الأمن والاستخبارات والشرطة عن الناس وتحد من إمكانية استغلال التنافر الذي قد ينشأ بين الجانبين لتجنيد العملاء من طرف المشاريع المعادية. فالعمل الأمني والاستخباري على تماس مباشر مع عامة الناس الذين هم الحاضنة الشعبية ووقود التغيير، ومن الضروري اتخاذ الإجراءات الواقية من إثارة سخط الناس ونقمتهم.

ماذا عن “إسرائيل”؟

وضع سقوط نظام الأسد فصائل الثوار في تماس مباشر مع الاحتلال الإسرائيلي، بينما لا تخفي تل أبيب خشيتها من تحول سوريا من “المحور الإيراني” إلى “محور سني قيد التشكل”، يتوافق مع حركة حماس في المنطلقات العقدية والعديد من التوجهات الفكرية. ولذا، فإنَّ جهدًا استخباريًّا وميدانيًّا كبيرًا سيبذله الاحتلال الإسرائيلي تجاه سوريا الجديدة، عبر دعم الأحزاب الانفصالية الكردية في شمال شرق سوريا والعلاقة مع دروز الجنوب.

أمام هذا التحدي، تبرز الحاجة لدى جهاز الاستخبارات العامة السوري لإحداث قدر من الفاعلية الأمنية في مقابل التفوق الميداني المهم الذي حققه جيش الاحتلال عبر سيطرته على جبل الشيخ المرتفع، وتنفيذه عمليات توغل واعتقالات في القنيطرة ومحيطها. ولعل أبرز ما ينقص الاستخبارات السورية لتحقيق هذه الفاعلية هما عاملا “الجودة” و”المهارة”، وهو ما يمكن الاستفادة فيه من التعاون مع تركيا التي أكدت على التعاون مع الإدارة الجديدة في مجالي الدفاع والأمن.

وأمام كل ما سبق، فإنَّ التقدير الاستراتيجي وتقييم الموقف بشكل صحيح يلعبان دورًا حاسمًا في كيفية تعاطي الإدارة السورية الجديدة مع هذه التحديات وغيرها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى