منذ انطلاقتها وحتى تحرير دمشق في ديسمبر2024، تميز مقاتلو هيئة تحرير الشام -التي تعد العصب الرئيسي لإدارة العمليات العسكرية- عن سائر الفصائل الثورية بالانضباط والجهوزية العالية وسرعة الحركة والكفاءة القتالية. واعتمد قائد الإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) الذي قاد تحرير الشام على عوامل عدة، أبرزها: الاستفادة من قدرات كوادر المهاجرين الذين وفدوا إلى سوريا لدعم الثورة، فضلًا عن الكوادر السوريين، والتركيز على صناعة المقاتل العقدي الملتزم بقدر عالٍ من السمع والطاعة، تبعًا لنظام البيعة المتبع في الهيئة عند الانتساب، والسعي الدائم لاتباع أساليب قتالية جديدة وإخضاع المقاتلين لدورات تدريبية متقدمة.
نحو المأسسة والعقيدة الهجينة
الأهم من ذلك أنَّ الهيئة انتقلت مبكرًا إلى مأسسة جناحها العسكري، خاصة بعد الهزائم التي منيت بها تباعًا في معارك شرق سكة القطار عام 2017، ومعركة ريف حماة الشمالي عام 2019، والتي دفعتها لمراجعة شاملة لهيكليتها وأساليبها العسكرية. فأنشأت لذلك الكلية العسكرية التي خرجت أولى دوراتها في عام 2018، وقد لعبت دورًا كبيرًا فيما بعد في إعداد قادة المجموعات والألوية والفرق الذين برزوا في معركة “ردع العدوان”، والتي نجحت في إسقاط نظام الأسد.
واعتمدت هيئة تحرير الشام في كليتها العسكرية أولًا على ضباط منشقين عن النظام، فاستفادت من خبراتهم الأكاديمية في تطوير معارف وخبرات قادتها العسكريين الذين تلقوا دورات متقدمة في مجالات التخطيط الاستراتيجي والعملياتي. كما عمدت للاطلاع على المقررات والدراسات العسكرية الأكاديمية الصادرة عن كلتا المدرستين العسكريتين الشرقية والغربية، فترجمتها إلى اللغة العربية وراجعتها بدقة وصاغت بذلك عقيدة عسكرية هجينة تستجيب لطبيعة الحرب التي تخوضها قواتها ضد نظام الأسد وحلفائه، وتعوض الفارق الكبير في العدد والعدة بين الهيئة ككيان ثوري والجيوش النظامية. كل ذلك وفر لتحرير الشام إمكانية ربط القوات بمنظومة القيادة والسيطرة، مع الحفاظ على المرونة وسرعة الحركة في الميدان بعكس الجيوش النظامية.
ومن موقعها المسيطر على ما سمي بـ “جمهورية إدلب”، استطاعت هيئة تحرير الشام دمج بقية الفصائل التي تدور في فلكها في تجربتها الأكاديمية الهجينة أيضًا، مما انعكس إيجابًا على أداء هذه الفصائل في عملية ردع العدوان. ومع تحرير دمشق وسقوط الأسد، كثر الحديث عن تشكيل الجيش السوري الجديد من هذه الفصائل المختلفة إلى جانب فصائل الجيش الوطني المدعوم من تركيا.
تحديات مرحلة البناء
صرحت الإدارة السورية الجديدة بأنَّها ستعيد بناء الجيش السوري مع إعادة هيكلته بعد الإعلان عن وزارة دفاع وتشكيل لجنة عسكرية عليا تضم خبراء عسكريين. كما أضاف أحمد الشرع أنَّ الفصائل الثورية ستحل نفسها جميعًا وتنضوي تحت وزارة الدفاع والجيش الجديد، وهو ما بدأت أولى خطواته في اجتماع ضم قادة الفصائل في قصر الشعب بحضور الشرع، حيث وافق الحاضرون على قرار الدمج في وزارة الدفاع التي أسندت حقيبتها للمهندس مرهف أبي قصرة المكنى بأبي حسن الحموي، وهو قائد الجناح العسكري لهيئة تحرير الشام سابقًا.
إلا أنَّ عملية البناء هذه تعترضها العديد من العقبات، فقد عمد سلاح الجو الإسرائيلي إلى استهداف معظم مستودعات الأسلحة والذخائر النوعية، فضلًا عن المطارات العسكرية ومستودعات الآليات، ما حرم الإدارة السورية الجديدة مما تبقى من العتاد الثقيل. ورغم أنَّ معظم هذا العتاد قديم ولا يرقى لمستوى تهديد إسرائيل، فإنَّه ضروري في مواجهة قوات سوريا الديمقراطية في شمال شرقي سوريا، والتي تحظى بدعم أمريكي وإسرائيلي.
كما أنَّ إمكانية عقد صفقات تسليح مع جهات إقليمية ودولية تعترضها بعض العقبات، فالولايات المتحدة ملتزمة بالحفاظ على تفوق إسرائيل العسكري في المنطقة، مما يعني توفير أكثر الأسلحة تطورا للاحتلال الإسرائيلي، فضلًا عن العمل على منع دول المنطقة بما فيها سوريا من الحصول على سلاح قد يهدد أمن إسرائيل. أضف أنَّ الانقسامات الإقليمية والدولية تضع سوريا في موقف صعب تجاه عقد اتفاقيات لأي صفقات مع جهة على حساب أخرى، فعقد صفقات مع روسيا مثلًا سيحرج الإدارة السورية أمام الغرب كله، وكذلك الاستفادة من القدرات الإيرانية -لو فرضنا إمكانية تجاوز دمشق للدور الإيراني السلبي في المرحلة السابقة- سيعزز من عدائية تل أبيب تجاهها.
وفي المقابل، لا تبدو القوى الغربية جادة في عقد تفاهمات تسهل بناء الجيش السوري الجديد، فالتحليلات الغربية تتحدث عن حالة من عدم اليقين تجاه نوايا القائد أحمد الشرع وإدارته، فضلًا عن المخاوف الإسرائيلية التي ترجمتها على أرض الواقع بالتوغل في العمق السوري والسيطرة على جبلي الشيخ وحرمون جنوب دمشق، والتحليلات التي صورت الشرع ذئبًا في ثوب حمل.
رجحان الدور التركي
تبدو تركيا الرابح الأكبر من بين كل الأطراف الخارجية المؤثرة في المشهد السوري، فرهانها على الثورة السورية أدخلها قصر الشعب من أوسع أبوابه، معززة بذلك أوراقها الإقليمية ولتتقدم خطوة كبيرة مقابل العديد من المشاريع التي تهدد حضورها في المنطقة: فسقوط نظام الأسد ووصول قوى الثورة إلى الحكم حاصر المشروع الكردي الانفصالي في الزاوية، وأخرج إيران من سوريا بخسارة فادحة بعد أكثر من عقد من النشاط المؤثر، فضلًا عن إضعاف الموقف الروسي بشكل كبير ما جعل حضور موسكو العسكري في اللاذقية وطرطوس محل جدل.
وبناء على التصريحات والتحركات التركية منذ تحرير دمشق، تبدو أنقرة مصممة على تعزيز موقف الإدارة السورية الجديدة في مقابل التحديات الإدارية والسياسية والاقتصادية. كما لا يستثني هذا الدعم الجانب العسكري، إذ ما زالت قوات سوريا الديمقراطية في شمال شرق سوريا تشكل مسألة شائكة يجب حلها بالنسبة للرئيس أردوغان، فيما يهدد التقدم الإسرائيلي جنوب دمشق المصالح تركيا وأمنها القومي وفق ما صرح به المسؤولون الأتراك في مناسبات عدة، هذا فضلًا عن مخاوف من تحرك قوى الثورة المضادة مدعومة من إيران من جهة، والإمارات من جهة أخرى.
كل ذلك دفع الرئيس أردوغان للتأكيد على دعمه للإدارة السورية الجديدة، وفي الجانب العسكري أعلن وزير الدفاع التركي يشار غولر استعداد بلاده للتعاون مع “القيادة الجديدة في سوريا” في المجال العسكري الدفاعي، كما تحدثت تقارير عن مباحثات تجريها تركيا مع الإدارة السورية لإنشاء قاعدتين عسكريتين تركيتين في كل من حمص ودمشق، على أن تشملا أنظمة دفاع جوي في مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة منذ سقوط نظام الأسد.
تشير هذه الخطوات إلى إمكانية استفادة دمشق بشكل رئيسي من التعاون العسكري مع أنقرة، والذي وإن كان محكومًا بسقف الممكن التركي بالنسبة للولايات المتحدة إلا أنَّه سيعطي إضافة مهمة للجهود العسكرية السورية في المرحلة المقبلة.
تمر الإدارة السورية الجديدة الآن بمرحلة معقدة أشبه ما تكون بالاختبار المتبادل، فهي تختبر محيطها الإقليمي والدولي فيما الجميع بدوره يختبرها. كما أنَّها محكومة بتعقيدات السياسة العالمية المتشابكة، على قاعدة أنَّ القوى الدولية بينما تتعارض مصالحها في مواطن فإنَّها تلتقي في مواطن أخرى. وهذا وإن كان يفرض عليها قيودًا معينة على مستوى التعاون مع الخارج إلا أنَّه يتيح لها المجال لاستغلال ثغرات أخرى في الوقت نفسه، ولن يخلو الأمر من فرص تلوح لها في الأفق وعقبات أو أزمات لا بُدَّ وأن تعترضها.