مستشار الأمن القومي الأمريكي الجديد وتجربته مع الناتو بأفغانستان
بدأ دونالد ترامب في اختيار مرشحين لشغل المناصب الرئيسية في إدارته الجديدة، والمنتظر أن تتسلم مهامها في يناير 2025. ومن بين هؤلاء اختار مايكل والتز مستشارًا للأمن القومي.
إنَّ والتز مواليد 1974، وخدم بالجيش الأمريكي نحو 26 عامًا حيث عمل ضمن القوات الخاصة، وقاتل في حرب أفغانستان، كما عمل في مكتب نائب وزير الدفاع لشؤون المخدرات، ثم عمل مستشارًا خاصًا لجنوب آسيا ومكافحة الإرهاب في مكتب نائب الرئيس الأمريكي السابق ديك تشيني، ثم انتقل إلى العمل السياسي حيث شغل منصب نائب ولاية فلوريدا بمجلس النواب منذ عام 2018.
لقد كُتب الكثير عن موقف والتز الحاد من الصين، لكن تجربته وتقييماته لحلف الناتو سطرها في كتابه “المحارب الدبلوماسي” الصادر بالإنجليزية في عام 2014 والمترجم باللغة العربية عن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية في عام 2019. واستعرض خلاله تجربته في العمل كقائد لإحدى مجموعات القوات الخاصة الأمريكية الشهيرة باسم “القبعات الخضراء” في أفغانستان، فضلًا عن خدمته رفقة فريق من القوات الخاصة الأمريكية كمدرب ومستشار للقوات الخاصة الإماراتية بأفغانستان.
إن تجربة والتز السلبية مع الناتو قد تعزز توجهات ترامب الذي سبق أن هدد في فترة رئاسته الأولى بالانسحاب من الحلف ما لم تزد الدول الأوروبية حجم إنفاقها العسكري إلى نسبة 2% على الأقل من ناتجها المحلي الإجمالي السنوي.
شكاوى ميدانية
أطلق والتز سهام نقده على قوات الناتو التي عملت بأفغانستان ضمن قوات مشتركة من 42 دولة ضمت دول الناتو وحلفائه مثل الإمارات والأردن. ومن أبرز ملاحظاته عدم قدرة تلك القوات على العمل ضمن قيادة موحدة حيث اتسمت سلسلة القيادة المدنية والعسكرية بالتشظي والتعدد فضلًا عن عدم امتلاك معدات عسكرية متوافقة.
وبحسب والتز، فمن أجل تقاسم الأعباء وتوزيع المهام عمل حلف الناتو في أفغانستان وفق استراتيجية “الدولة القائدة” حيث قُسمت المهام إلى ملفات ذات أولويات مختلفة، فتولت القوات الأمريكية ملف إعادة بناء الجيش الأفغاني الذي تشكل من مليشيات حليفة لواشنطن، بينما تولت القوات البريطانية ملف مكافحة المخدرات، في حين تولت ألمانيا ملف تأهيل الشرطة الأفغانية، فيما تولى الإيطاليون تأهيل قطاع القضاء والعدل وسخر والتز من تولي إيطاليا المشهورة بالفساد لهذا الملف- في حين تولت اليابان ملف نزع سلاح المليشيات الأفغانية المحلية.
على المستوى العملي فشلت استراتيجية “الدولة القائدة” لكل ملف في تحقيق الأهداف المرجوة، حيث تفاوتت الموارد التي وفرتها كل دولة من أجل تحقيق المهام الموكلة لها في ظل غياب كيان موحد يتحمل المسؤولية ويخصص الموارد وينسق الجهود. فعلى سبيل المثال خصصت ألمانيا في بعض الأوقات عشرة مدربين فقط لتأهيل عناصر الشرطة الأفغانية، وركز البرنامج التدريبي الألماني على النمط الأوروبي الذي يدور حول سيادة القانون في حين كان معظم المتدربين من الأميين الذين لا يحسنون القراءة والكتابة وينظرون إلى العمل الشرطي باعتباره وسيلة لجني الأموال وفرض الإتاوات على المواطنين.
وبحسب والتز أدى فشل إيطاليا في بناء قطاع العدالة عقب تخصيصها لموارد محدودة وفريق صغير للقيام بهذه المهمة إلى عرقلة الجهود البريطانية لمكافحة المخدرات، ففي حال القبض على مهربي مخدرات ساعد الفساد في الشرطة والقضاء بقيادة الحكومة المتعاونة مع الاحتلال في الإفراج عن الموقوفين. ومع إدراك واشنطن لحجم الفشل كان من الصعب عليها إعادة توزيع المهام نظرًا لحساسية كل دولة من سحب الملف الذي تشرف عليه منها.
فشل قيادي
بحسب والتز، اتسمت سلسلة القيادة العسكرية لقوات الناتو في أفغانستان بالتعقيد والتعدد، فقد كان لكل دولة شاركت بقواتها على الأرض الأفغانية ممثل عسكري تواجد في كابول، وتمتع بصلاحيات تشمل الاعتراض على القرارات الصادرة للقوات التابعة لبلاده من طرف قائد قوات الناتو في أفغانستان. وبالتالي تشكيل قيود عملياتية من قبيل عدم السماح بنشر قوات من بلاد معينة في الأماكن الملتهبة، حيث سيطر الخوف من تكبد خسائر بشرية على القادة السياسيين للعديد من الدول المشاركة في حملة الناتو مما انعكس على رفضهم نشر قواتهم في المناطق الساخنة بأفغانستان مثل الجنوب والشرق وتفضيلهم نشرها في المناطق الهادئة بالغرب والشمال. وبالتالي لم يكن باستطاعة قائد الناتو الميداني أن يأمر القوات الإيطالية المنتشرة في غرب أفغانستان بتحريك مروحيات أو جنود لدعم القوات البريطانية المنتشرة في الجنوب حال خوضها لاشتباكات.
وكذلك اتسمت قواعد الاشتباك لدى الناتو بالاختلاف من دولة إلى أخرى، فالقوات الهولندية عملت وفق نمط حفظ السلام لا مكافحة التمرد مما جعلها مقيدة بإطلاق النار في حال تعرض عناصرها للهجوم، ومنعها من تنفيذ غارات ومداهمات ضد مقاتلي طالبان مما انعكس على تحجيم قدرة قوات الناتو العاملة ضمن مناطق المسؤولية الهولندية على القيام بعمليات هجومية مما أوجد قدرًا من الارتباك بين صفوفه. ويشدد والتز على أنَّ الأوربيين خططوا للانخراط في أفغانستان وفق نهج حفظ السلام على غرار البوسنة، وليس وفق نهج مكافحة التمرد في “إحدى أكثر المناطق عدائية في العالم” حسب وصفه.
أما القوات الفرنسية فركزت على عمليات الاستطلاع وتجنبت خوض عمليات قتالية لتعتمد بدلًا من ذلك على توظيف الجنود الأفغان لتنفيذ العمليات التي فيها قدر من المخاطرة، وهو سلوك انتهجته القوات الفرنسية بالأخص بعد مقتل عنصر القوات الخاصة الفرنسية لويس لوباج، وهو نجل جنرال فرنسي، مما جذب أضواء الإعلام الفرنسي، ودفع القادة السياسيين بباريس لحث القادة العسكريين على تجنب أي عمليات قتالية تتسبب في خسائر بشرية وتدفع المواطنين الفرنسيين للتساؤل عن سبب وجود قواتهم في أفغانستان، وذلك للهروب من شبح تكرار تجربة الجيش الفرنسي في الجزائر.
ضعف القدرات العسكرية
بجوار الحساسية السياسية تجاه حدوث خسائر بشرية، أشار والتز إلى ضعف القدرات العسكرية لدى أغلب جيوش الناتو في ظل محدودية الإنفاق العسكري آنذاك مما انعكس على نقص المعدات وعدم تطورها مقارنة بالقوات الأمريكية. وضرب أمثلة للتوضيح، فبينما تواجدت في جميع المركبات الأمريكية أجهزة اتصال عبر الأقمار الصناعية تتيح لمستخدمي المركبة التحدث مع مسرح العمليات بأكمله والاستماع للآخرين من رفاقهم، والتواصل مع الطيران لطلب الدعم، فضلًا عن امتلاك كل جندي أمريكي وبالأخص عناصر القوات الخاصة لجهاز اتصال لاسلكي، امتلكت عناصر القوات الخاصة الفرنسية أجهزة رؤية ليلية قديمة الطراز، ولم يملك كل جندي منهم جهازًا لاسلكيًّا إنما تواجد جهاز واحد مع كل مجموعة قتالية. وفي المحصلة يذهب والتز إلى القول بإنَّ تنوع قوات الناتو مثّل عبئًا ميدانيًّا أكثر من تمثيله لإضافة، وهو ما ساهم في فشل الناتو ميدانيًّا في تحقيق الأهداف المطلوبة منه.
تحليل للأخطاء
خلص والتز إلى أنَّ تجربة حلف الناتو في أفغانستان اتسمت بعدة سلبيات، من بينها:
- عدم وضوح استراتيجية شاملة للنجاح فيما اقتصر التخطيط على فترة تتراوح من سنة إلى ثلاث سنوات على أقصى تقدير في حرب طويلة بلغت عقدين.
- النقص المزمن في الموارد اللازمة للانتصار حسب تقديره في ظل توجيه أغلب الموارد الأمريكية إلى العراق.
- النفور من المخاطر في تنفيذ العمليات، وعدم القدرة على التعامل مع ملاذات حركة طالبان في باكستان.
- وأخيرًا إعلان موعد انسحاب مبكر منذ عام 2014 مما أثر في معنويات حكومة كابول التي شعرت بأنَّ الأمريكيين يتخلون عنها، فيما بدأ عناصر الجيش والأمن والمواطنون في التحوط من الانسحاب الأمريكي عبر اتخاذ مواقف أكثر تفاهمًا تجاه طالبان.
كذلك يشير والتز إلى أنَّ قوات الناتو تأسست للدفاع عن الأراضي الأوروبية ضد غزو سوفيتي محتمل، وبالتالي تدربت على الدفاع الثابت، وليس على العمل على بعد آلاف الأميال ضمن تضاريس صعبة وسط بيئة معادية، ومن دون بنية تحتية داعمة.
وقد شرح والتز في كتابه العديد من أسباب فشل حلف الناتو في أفغانستان لكنه تجاهل نصف الصورة الآخر المرتبط باستراتيجيات طالبان، والتي نجحت في تحقيق أهدافها.
ملاحظات والتز وشخصيته
حرص والتز على التطرق للجوانب الثقافية التي شاهدها خلال عمله بأفغانستان، حيث ذكر في كتابه ملاحظات من واقع معايشته للقوات الإمارتية من بينها “أنَّ للعرب نفوذًا أيديولوجيًّا وماليًّا بين الشعوب المسلمة غير العربية”، واعتبر أنَّ المساهمات العسكرية العربية بأفغانستان، وبالتحديد من البحرين ومصر والأردن والإمارات وفرت أداة تواصل استراتيجية قوية مع المجتمع الأفغاني.
ورغم خبرة والتز الميدانية، وملاحظاته العسكرية الثاقبة، فإنَّه تماهى مع غرور القوة الأمريكي الذي أوقع بلاده في أخطاء استراتيجية، فكان من مؤيدي غزو العراق حيث قال بلغة ملطفة “لم تكن لدي أي اعتراضات أخلاقية على غزو العراق”، وردد حجة امتلاك العراق أسلحة دمار شامل وفق التقارير التي اطلع عليها بمكتب ديك تشيني نائب الرئيس بوش الابن.
كما تظهر ملامح من شخصيته المتعجرفة المتبنية لتفوق العرق الأبيض في ثنايا كتابه، فحين يتحدث عن قتل قواته لطفلة أحد قادة طالبان، يعقب في نهاية حديثه عن مفاوضات لتعويض قبيلتها ماليًّا قائلًا “يمكن أنَّ حياة الإنسان، ولا سيما حياة النساء، لم تكن ذات قيمة نسبيًّا في مثل هذا المكان القاسي من العالم”.
وفي الختام، يُفترض أن يتولى والتز في منصبه الجديد التنسيق بين وزارتي الدفاع والخارجية ومؤسسات أخرى من أجل تنفيذ سياسات الأمن القومي بما فيها السياسات الأمنية والعسكرية لترامب. وربما لا يُعمر والتز كثيرًا بمنصبه مثلما حدث لأسلافه في فترة ترامب الأولى، مايكل فلين، وهربرت مكماستر، وجون بولتون. فقد كان مكماستر أحد أبرز مفكري الجيش الأمريكي، وصاحب خبرة ميدانية كبيرة بالعراق، لكن لم يمكث في منصبه سوى سنة واحدة في ظل كثرة الخلافات بينه وبين ترامب. وهو مصير قد يجابه والتز سريعا، بالأخص في حال مخالفته لتوجهات ترامب.