سياسيمقالات

معركة الطوفان وإعلام أكثر واقعية

جاء المنهج القرآني واقعيًّا في تعامله مع حياة الناس ومستجدات أحوالهم، وطبائع أمورهم، واحتمالات مآلاتهم، من أجل هذا كان التنزيل فلم ينزل على رسول الله ﷺ مرة واحدة، قال تعالى: (وقرآنًا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلًا)، والتنزيل هو تفريق وتتابع الآيات بحسب الحوادث والمستجدات في توقيتاتها المناسبة.

وأرسى القرآن الكريم والرسول العظيم ﷺ مبدأ السببية، ومن أجل ذلك وضع البلاء في الأرض في سياق صراع الحق والباطل، فالبلاء هو حقيقة الدين ومتلازمة الدين، ليبلوا الله الخبيث من الطيب، والمؤمن المضحي من المنافق الانتهازي، فلم يكن هذا الصراع أبدًا هينًا ولا خاليًا من التضحية بالنفس والمال في سبيل المبادئ السامية كالدين والأرض والوطن والحق والعدل والخير والجمال.

ولذلك أعد الله المؤمنين لكل الاحتمالات في سياق محدد وهو واقع المعركة ذاتها؛ قال تعالى: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئًا وسيجزي الله الشاكرين).

وقال ﷻ: (يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون)، وواضح بيّن من الآيات أنَّ الله يعد المؤمنين لكافة الاحتمالات، وكل المصائر، فما يعنيهم إن هم عاشوا حياة كريمة أو ماتوا ميتة شريفة!

الاستعداد لكافة الاحتمالات

إنَّ الأمة اليوم كلها وعلى رأسها أولئك المقاتلون هناك بجوار المسجد الأقصى المبارك، ينبغي أن تكون مؤهلة لجميع النتائج، ولعل أكثر من يفهم هذه الحقيقة؛ هم أولئك الواقفون على خط النار هناك، فالعالم كله يكاد يجتمع عليهم، فأما الدول الكبرى فتتحالف جميعًا في إمداد العدو الصهيوني بكل الدعم اللوجستي والعسكري والمالي والغذائي، باعتباره رأس الحربة الغربية في تفتيت هذه المنطقة والهيمنة عليها، ومنع التمدد الأممي الإسلامي الذي اجتاحهم ذات مرة في التاريخ، ألا يعاود الكرة مرة أخرى.

وأما العرب والمسلمون وإخوة العرق والدين والتاريخ، فتحت هيمنة بالوكالة من أنظمة وحكومات وظيفية، هي في حقيقتها محكومة أكثر منها حاكمة، وما يعنينا في هذا الإطار هو إثبات تخاذلها أو حتى ممالأتها لخصوم الأمة وأعدائها المعاصرين في خضم معركة السيادة الأممية والاعتقادية والأيديولوجية.

تغطية إعلامية غير مسبوقة للمعركة

وقد قامت بعض القنوات العربية بتغطية غير مسبوقة في تاريخ الحروب المعاصرة في توثيق وقائع وأحداث وفواجع، بل وتفاصيل ما جرى ويجري في معركة طوفان الأقصى، من المواجهات العسكرية وحتى أدق تفاصيل معاناة الناس.

وهو توثيق مشكور ربما كان من أهم وثائق المحاكمات الجنائية الدولية والتي نشهدها لأول مرة فيما يشبه “شبح العدالة” إن جاز التعبير، كما أنَّها ترفع معنويات المقاومين وذويهم وشعبهم المذبوح من الوريد إلى الوريد، مما استجلب تعاطف العالم أجمع، وبدأ يستفز فيه معاني الإنسانية؛ ويستنفر كوامن الدعم والمعونة لأولئك المستضعفين، الصامدين على أرضهم في سبيل حقوقهم.

وقد برع عدد من المحللين العسكريين والاستراتيجيين في تناول هذه الوقائع بالشرح والنقاش، كما بينوا كثيرًا من مواطن البذل والشجاعة المذهلة للمقاتل الفلسطيني بأقل الإمكانات في مواجهة آلة البطش والاستكبار؛ كما برعت الآلة الإعلامية في إحداث ضجة دعائية هائلة بأدوات بسيطة للغاية لا تعدو آلة تصوير عادية، لا ينقصها غير مقاتل شجاع يحملها ليوثق بها مشاهد النصر أو الشهادة.

قنوات عربية بروح “عبرية

بينما وقفت بعض القنوات “العربية” وللأسف الشديد موقف العداوة من هذه المقاومة، في محاولة لتحجيم آثار الطوفان على بعض الأنظمة الراعية، حتى قامت بدور الخصم غير المحايد لهذه الواقعة التاريخية، بل وكانت أقل حيدة وأشد تحيزًا للعدو، وأبعد عن التغطية المنصفة أو الدقيقة.

وقفة ضرورية

ولكن لنا وقفة يسيرة مع هذا الإطار الإعلامي المؤيد أو المنحاز للمقاومة بمجمله، فالملاحظ أنَّ التغطية تركز على شقين:

الأول هو الضربات العسكرية القوية للمقاومة ضد الطرف الآخر، وما تبثه المقاومة من تقارير مصورة ومسموعة من الناطق الرسمي باسمها.

وأما الثاني: فالجرائم والدمار والدماء والخسائر الفادحة التي تلحقها الآلة العسكرية الجبانة والمجرمة ضد المدنيين في غزة.

وفي هذا السياق يعمل المحللون على شرح بعض الجوانب الفنية والتكتيكات القتالية للمقاومة، ومدى نجاحها وقوتها إلى غير ذلك من الأمور، وهي حقائق مشهودة لا يستطيع الطرف الإسرائيلي نفسه إنكارها بالكلية، وإن عمد إلى التقليل منها وحجب ما يمكن قدر المستطاع بطبيعة الحال.

ألا تخسر المقاومة أي شيء!

بينما يغيب عن تلك التحليلات بشكل شبه كامل، خسائر المقاومة، واحتمالات النجاح والفشل، ومقدار الضغط الشعبي تحت وطأة وثقل الكوارث المفجعة وأعداد الشهداء، ومعاناة الجرحى، والمجاعة الشاملة.
ويغيب عنها أي تقديرات لتعداد الشهداء في صفوف المقاومين، ومدى تأثير ذلك على مسار المعركة الحالية، والنقطة الحرجة التي ينبغي عندها اتخاذ إجراءات مغايرة، وفي أي اتجاه، وكيفية التقليل من تنازلات التراجع المحتمل، ومدى الانسحاب الممكن وعند أي نقطة تحديدًا.

معركة مؤتة وتعامل مع معطيات المعركة

هذه أمور ينبغي أن توضع في الحسبان في أي معركة، وقد اضطر خالد بن الوليد للانسحاب بالجيش المحدود جدًّا في مواجهة عشرات -أو مئات الآلاف- من جنود الروم، بعدما تبين له خطورة الموقف، واستشهاد القيادات الكبرى المكلفة، وقد اتضح له تفوق قوة الروم المادية رغم شجاعة وبسالة المقاتلين “الصحابة” وقوتهم الاعتقادية، فلم يعد فارق القوى لصالحهم للأسف، وقد فهم بعبقريته العسكرية أنَّ دور القيادة -حديثة الإسلام آنذاك- هو استنقاذ بقية ما معه من هذه القوى المحدودة “الباسلة” في انسحاب تكتيكي لا يقل عن النصر، ليعاود بها الكرة بعد حوالي عقد من الزمان فقط “معركة اليرموك” ويسقط تلك الإمبراطورية العاتية، وليوقف المعركة “غزوة مؤتة” فتصير أقرب للمناوشة الحدودية المحدودة آنذاك.

وقد أجادت قيادة الميدان في معركة “طوفان الأقصى” قراءة معطيات الواقع بل واستوعبت تجارب التاريخ، فقد مثَّل يوم السابع من أكتوبر عبورًا للسياج واقتحام تحصينات العدو، لا يقل عن عبور خط برليف يوم السادس من أكتوبر ٧٣، وإن أمكن للبعض اعتباره نصرًا منقوصًا، لكنه نقص لا يقلل من بطولة وعظمة الحدث على كل المستويات.

ثم مثَّل امتصاص الهجوم الانتقامي الهمجي بعد الاقتحام، ثم التحول مرة أخرى والانتقال من حالة الحرب المفتوحة إلى حرب العصابات واستراتيجية الأنفاق؛ في تجربة شبيهة بحرب الاستنزاف والتي قد تطول، ولعلها يعقبها نصر جديد بعدما تنضج ساحة الضفة الغربية، وتتضح معالم وملامح المواجهة مع العدو هناك.

التحيز وبدائل أخرى

فليس البديل الوحيد لتحيز البعض هو التغطية المتحيزة في الجانب الآخر، ولا أتحدث هنا عن التحيز الاعتقادي فهذا واجب على أي مسلم، بل وكل إنسان عاقل ومنصف لم يفقد إنسانيته بعد، وإنما أتحدث عن تحيز التغطية بما يعمي عن المخاطر الحالية والمحتملة، وبما يرفع المعنويات العربية والمسلمة فيحلق بها إلى عنان السماء، في صورة يغشاها الغبش فلا تبصر ما على الأرض، حتى إذا قدر الله أمرًا لا نرجوه ارتطمت تلك الآمال بأرض الواقع في صدمة مؤلمة قد تؤخر أو تضعف التأييد والدعم لأي تحرك قوي في المستقبل ضد قوى الاحتلال والعدوان.

كما ينبغي أن يكون تحيزنا “عمليًّا” كذلك بجوار التحيز الإعلامي، فعلى كل صاحب فكر أو قلم أو وضعية علمية أو سياسية؛ أن ينتهز الفرصة لرفع سقف المتاح بعقد مؤتمرات ولقاءات وندوات على وسائل التواصل الاجتماعي، وفي أرض الواقع لإحياء قضية الدفع والمقاومة ورفض التطبيع وغيرها من قضايا، خاصة في نفوس الأجيال الجديدة، وعلى الجملة فالمطلوب هو الإبقاء على كل المعاني والقضايا التي أريد لها أن تموت، بل تصعيدها لتأخذ زخمها الصحيح.


محللو الحقيقة لا النكسة

فلا نريد من محللينا أن يلعبوا دور “أحمد سعيد” مذيع النكسة على وقع نغمات “أمجاد يا عرب أمجاد”، ولا أمثاله من إعلاميي ومحللي الأنظمة غير الشرعيين، نعم هناك فارق بين الفريقين فليسا سواء؛ فالصنف الأول يتحمس للحق ويريد أن ينصره ويشكر له حسه الديني وربما العروبي والقومي، ودعمه للمقاومة في معركة حقيقة حققت نجاحات غير مسبوقة، ورفع معنويات الناس والمقاتلين، وكذلك حدبه على الأمة وقضاياها، وأما الصنف الآخر فهو عراب الهزائم وأبو النكسات.

لكن ينبغي أن يكون هناك نوع من التوازن النسبي وهو الذي يؤهل الناس لتحمل كافة النتائج أيًا كانت، فهذه طبيعة أية مواجهة، ولتستمر المقاومة كروح تسري في الأمة كلها فيما بعد وليس في غزة وحدها، فالأمة وإن كانت لا يبدر منها حراك اليوم، إلا أنَّ ارتدادات هذه المعركة سوف تعود بعد فترات يسيرة لتضرب خصومها في كل اتجاه.

الإسناد الإعلامي كدعم ضروري

وعلى هذا فلا بُدَّ من الإسناد الإعلامي لهذه الفئة وهذا الشعب من أمتنا؛ ولكن ما نريده هو الإعلام المتوازن والواقعي، لا الإعلام الذي يبالغ في تضخيم الانتصارات، والتهوين من الخسائر، فعدم الإشارة -الإجمالية- أو التذكير بوجود خسائر بشرية ومادية في صفوف المجاهدين من رجال المقاومة؛ يجعل الناس تغفل أو تنسى عن وجود تلك التضحيات، مما يسهل مهمة الإعلام المعادي أو النفاقي في الحال أو المآل؛ لوصم المقاومة بالتضحية بالمدنيين بينما هم آمنون -خلاف الحقيقة- في الأنفاق!

وكذلك فإنَّ الدعم الإعلامي والمعنوي هو أحد مسارات الدعم المهمة التي لا تقل أحيانًا عن الدعم المادي، والتي يخطئ من يستصغرها، كما يخطئ أولئك الذين يبكتون الأمة دون رسم مسارات الدعم المتاحة والصحيحة لقضية الأرض المقدسة المحتلة.

إنَّ ما ننشده من دعم إعلامي هو ذلك الذي يؤهل الأمة لتحمل مسؤوليتها، وهو الذي يقوم بدور المحرض والدافع لآفاق التغيير مع استغلال الفرصة لتحديد منطلقات فكرية ومادية تنبثق من الطوفان وإن لم تصب في فلسطين، وإعادة بلورة وتأطير مفهوم النصر والهزيمة، وحقيقة الردع التي لا تشترط المساواة في القوى، قال تعالى: (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين).

كما لا ينبغي أن تتخذ التغطية الإعلامية المتوازنة المرجوة، أي صورة من صور التخذيل أو الدعوة للانهزام أو ما قد يفهمه العدو وأنصاره بأنَّه إعلان انسحاب أو إذعان من الأمة بقبول الهزيمة، بل توظف كعلامة جديدة للصمود تحت شعار “الصبر مع الألم”.

كما إنَّ ما نقوله ليس دعوة لطرح أرقام أو خسائر تفصيلية، فما زال العدو يتكتم على خسائره في الأفراد والآليات والعتاد والاقتصاد، رغم إمكاناته الهائلة ودعمه غير المسبوق من حلفائه الغربيين أعداء الإنسانية!

كما أنَّ الإعلام البديل الذي نتطوع به جميعًا سيصب في صالح المقاومة إن أحسنا توظيفه، ولن تتحمل أي أعباء إضافية بسبب أخطائه، بخلاف صدور تصريح واحد خاطئ من شخصية اعتبارية ذات صلة ولو بعيدة بالمقاومة، وهذا ما يحتم وجود مجموعات تابعة للمقاومة تقوم بالتوجيه المعنوي سرًا وجهرًا -بحسب الحال- لأنصارها، بالثناء على بعض الشخصيات أو المواقع المناصرة أو تزكيتها، أو نقل بعض النشريات والمقالات لبعض أصحاب الرأي المناصرين.

إنَّ التغطية المتوازنة ستؤهل المعركة للاستمرار، وستجعل الجماهير أقل إحباطًا أمام أي تطورات -اغتيال د. هنية نموذجًا- أو نحو ذلك من أحداث، كما سيعني في حس تلك الجماهير أنَّ هذه المعركة وجودية تاريخية تحتمل الخسائر والمكاسب؛ والنصر في محطة والتوقف في أخرى، وأنَّ شيئًا من بعض الضربات أو الأوجاع لن توقفها ولن تعني نهايتها، بل بداية مرحلة جديدة.

خالد سعيد

سياسي مصري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى