أطر نظرية وحركية جديدة للعمل الإسلامي
لا بُدَّ أولًا من التركيز على قضية الإسلام بصورته الأولى في العهد النبوي الشريف ثُمَّ في عصر الراشدين، وهو ما أكد عليه النبي ﷺ، ورغم ما وقع في فترة خلافة سيدنا عثمان -رضي الله عنه- وما تبعه من قتله شهيدًا؛ ثُمَّ وقوع الفتنة في عهد سيدنا علي كإحدى تبعات تلك المحنة، فإنَّ الأصل كان واضحًا عند خاصة المسلمين وعامتهم!
لقد نشأت عن ذلك خيارات اختلط فيها العقائدي بالاجتهادي الفقهي بالسياسي، ثُمَّ تراكم كل ذلك الموروث بما يقبل النظر فيه وما لا يقبل، مثل قضية ولاية المتغلب كفتوى وقبول بالأمر الواقع، إذ الفتوى ابنة واقعها ونتاج بيئتها، لكنها تحولت بعد ذلك عند البعض إلى أصل من الأصول رغم كونها فتوى استثنائية وليست حكمًا أصليًّا!
وقد حاول كثيرون كسر هذا الإطار الذي قُنن بقناعات السلطة، ولإعادة الأمر إلى أصله، وعلى رأسهم حركات آل البيت النبوي الشريف، وثورة ابن الأشعث ومحمد بن نصر الخزاعي وغيرها، بل إنَّ محنة الإمام أحمد تُعدُّ امتدادًا لهذا الخط من بعض الوجوه.
وجاءت انحيازات المد السلفي المعاصر في مجمله إلى الخيار المؤسسي التاريخي، وذلك في أصوله وفروعه المتغيرة بطبيعتها الاجتهادية، وبالتالي في تعامله مع السلطة والمخالفين، والأهم والأخطر تجاه القوى الخارجية إذ يتركز عداؤه وتناحره داخل الأمة بينما ينصرف عن المواجهة الخارجية في أكثر الأحيان، بخلاف المد السلفي الجهادي بطبيعة الحال.
والملاحظ أنَّ مشروع أهل السنة استمر بدافعية قوة الدولة الأولى ومشروعها الرسالي -حكم النبي والراشدين- دون تجديد أو ما يمكن وصفه “بحركة القصور الذاتي”، فمن جاءوا بعد تلك الفترة لم يقدموا مشروعًا حقيقيًّا، واستمرت ممالكهم المتعددة متصارعة، وكان طبيعيًّا أن تضعف تلك العجلة عن الدوران تدريجيًّا حتى تتوقف!
بينما اختزل الشيعة موروث الثورة وكرسوه وقامت لهم به دول، وسقطت لكنه استمر وتطور، إلى أن توقف بقضية غيبة الإمام، إذ لا دولة ولا جهاد ولا جماعة إلا به عند الشيعة، حتى تجاوزوا تلك المعضلة بقضية ولاية الفقيه.
والواجب العمل انطلاقًا من الولاء التام لهذه الأمة بعقيدتها الأصلية في الله والرسول والدين، وخصوصيتها الثقافية وتقاليدها الأخلاقية، مع التفريق بين التشنج والعصبية لهذا الموروث، فالتشنج حالة نفسية ولا تقيم دولة أو تنصر مبدأ، بينما العصبية من مقومات قيام الدول، وعليها فالقائم بعداوتك وعداوة أمتك هو عدوك، ومن خداع الأجيال تنشئتها مستأنسة مستألفة فلا تقوم دولة بغير مفاهيم القوة وامتلاك عناصرها ومقوماتها.
ولتحقيق ذلك بصورة صحيحة، دون جفوة مدمرة ومحاصرة للفئات الحركية الإسلامية فلا بُدَّ من إعادة استحضار خصائص التصور الإسلامي مثل الشمولية والعالمية وغيرها، والتعامل من خلال ذلك مع المخالفين دينيًّا أو مذهبيًّا.
وفي سياق حركة الأمة ككتلة حية وإن تفرقت، ومع حتمية الخلاف بين فرقها وتناحرها، وإذا كان من المستحيل إلغاء وجوك تلك الفرق ولا تجاوز الاختلاف معها، فلا بُدَّ محاولة استثمار تلك الفرق الإسلامية بتجاوز الخلاف ما أمكن في سبيل حماية الأمة والدفاع عنها، بعيدًا عن الفكر التكفيري الشامل لجميع المخالفين لأهل السنة، وليس ذلك مرادفًا للتذويب بالضرورة أيضًا! ولذلك أشار الله في كتابه إلى ذلك باعتباره أمرًا قدريًّا ماضيًا، وبالتالي فهو يأمرنا بتدبر التعامل معه بطريقة صحيحة وعاقلة ونافعة لهذه الأمة.
ويكون هذا التواصل بمد الجسور الحذرة من الاختراق مع الفرق المخالفة خاصة تلك التي تمتلك مشروعًا ودولة، وكذلك أصحاب الملل الأخرى، وذلك بما يمكن أن يعتبر نوعًا من الدبلوماسية الشعبية أو الإنسانية، التي ربما لو استُخدمت أبان احتلال العراق في التفريق بين الشيعة العرب وغيرهم، وبين جمهور عوام الشيعة وبعض قياداتهم؛ لربما أثمرت وضعًا مختلفًا عما صار فيما بعد، من حشد كافة الشيعة عربهم وعجمهم، وعوامهم وقادتهم، ضد أهل السنة وخاصة المجموعات المقاومة للاحتلال الأمريكي آنذاك.
فمن المهم محاولة تحييد أو تجنيد الداخلين في عموم الأمة ثقافيًّا ومواطنة أو المشمولين فيها زمنيًّا ومكانيًّا وهوياتيًّا؛ وبعبارة أخرى تاريخيًّا وجغرافيًّا وثقافيًّا، من أهل الذمة؛ وأهل الكتاب كعقلاء النصارى، وخصوم الصهيونية من اليهود كيهود اليمن مثلًا، وهذا الذي أذهب إليه بعيد كل البعد عن الدعوة الفاسدة لتذويب الفروق بين الجميع اعتقاديًّا أو ما يسمى زورًا “بالديانة الإبراهيمية”!
وفي ظني فقد تجاوزت تجربة المقاومة الفلسطينية كثيرًا من هذه المعادلات الصعبة، لوجودها في واقع صحيح من حيث التصور لأممية المواجهة رغم صعوبتها الشديدة. وبقي الدور على بقية الحركات الإسلامية الواعية لتحديد بوصلتها وأهداف وآليات هذا الاختراق، وتلك الدبلوماسية من أجل مصلحة الأمة ومع الحفاظ على ثوابتها بطبيعة الحال!
ومن المهم بلورة نظريتنا الخاصة من خلال استلهام التجارب التركية والماليزية والطالبانية وغيرها؛ لاستخلاص معالم ومحاور تلك النظرية مع التأكيد على عدم إمكان تكرار إحداها بحرفيتها أو قريب منها، أي استلهام الروحية والأصول أو القوانين العامة لحركة المجتمعات البشرية والتأثير فيها دون محاولة تكرارها أو تقليدها؛ بمعنى أصح لخصوصيتها الثقافية والاجتماعية من جهة، ولسرعة تكيف الغرب ومقاومته لتكرار أي تجربة ذات طابع إسلامي ولائي لهذه الأمة.
وإنَّ الملاحظ في كثير من تجارب التغيير السياسية أو العسكرية؛ هو الانكماش أو الانغلاق النسبي -عمليًّا- للاستعداد للخطوة أو الخطوات القادمة نحو السيطرة على مقاليد الأمور، وهذا الانكماش يشبه “وضعية العداء” الذي يؤخر إحدى رجليه بدرجة كبيرة لتمثل قوة الاندفاع إلى الأمام قريبًا، وتمثل هذه المرحلة ٣ مستويات:
- الأول داخلي: هو الاستعداد الهادئ عمليًّا وسياسيًّا وفكريًّا وماديًّا، دون الدخول في صراعات -كبرى على الأقل- في تلك المرحلة.
- الثاني خارجي: ويعني اشتمال مراحل الإعداد على كل عناصر المواجهة الخارجية بكل مستوياتها بعد التمكن من زمام الأمور حسب التدرج المطلوب للحركة.
- توثيق الصلات والأواصر مع الحلفاء الواقعيين والمحتملين في الدوائر الأضيق والأقرب دون توسع لما هو أبعد من ذلك في علاقات بعيدة إقليميًّا أو متباينة سياسيًّا؛ مما قد يثقل الحراك ويقيد قدرته على الحركة. وهذه النقطة الأخيرة قد تندرج تحت ما أسماه أحمد داوود أوغلو ب “نظرية القوس المشدود”.
كذلك ينبغي للقوى الحية في مرحلة الإعداد تصفير المشكلات في تلك المرحلة، إذ تشكل كثرة الخصوم والأعداء الظاهرين والأخفياء، والكبار منهم والصغار؛ تهديدًا محتملًا يمتد أثره إلى دوائر أوسع من حجم أولئك الخصوم بكثير؛ بما يمثله من رأي عام وفضاء لبث الشائعات وتشويه الصورة، بل واحتمال التدخل لإعاقة الحراك حال حدوثه، إن كان أولئك الخصوم فئات حركية. كما تؤدي كثرة الخصومات والمناكفات إلى معرفة أفراد الحراك المؤثرين والفاعلين ومنظريه الفكريين وقادته الحركيين، وتحديد نسبي للإمكانات العددية والحركية.
ومن المهم الإحكام بين الخطاب الديني بمضمونه السياسي من جهة، والفعل الدعوي الحركي من جهة أخرى، وفي هذا السياق ضرورة دراسة ما قام به تنظيم الدولة الذي أقام بالفعل دولة ممتدة لها كثير من خصائص الدولة رغم قصر عمرها لأخطاء كارثية وأخلال خطيرة كان من الطبيعي أن تؤدي لهذا المصير، ومقارنتها مع دولة كطالبان رغم الفوارق الجوهرية والموضوعية الواضحة بينهما!
فطالبان حركة محلية داخل حدود أفغانستان رغم انشغالها وتضامنها مع بقية قضايا المسلمين، لكنها عمليًّا ركزت خطابها وفعلها الثوري العسكري المقاوم على هذا الهدف، في تواؤم كامل مع محيطها الاجتماعي ومذهبها الديني وأهدافها الوطنية، ورغم طول فترة الكفاح فإنَّها تمكنت من تحقيق أفضل نتيجة ممكنة في النهاية.
بينما دولة التنظيم كانت حركة عالمية أو كونية للبوسها ثوب “الخلافة”، ولتنوع أفرادها عرقيًّا وقوميًّا، ولمفاصلتها على البيعة والولاء للخليفة و”التنظيم الدولة” أو “دولة التنظيم”، وتكفيرها كثيرًا من المسلمين عامتهم وخاصتهم، بل وقتل كثير من المسلمين دون تورع باعتبارهم كفارًا، وغيرها من فروق تتعلق بالظرف التاريخي والطبيعة الجغرافية والتركيبة السكانية.
وينبغي لأي حراك سياسي أن يتعرف مبكرًا إلى أهمية البروباجندا السياسية، التي كثيرًا ما تكون مؤثرة ومحفزة للانتفاضة والتأييد الشعبي أكثر من المضامين الحقيقية أحيانًا! وخذ مثلًا بفترة حكم الإخوان بمصر ومحاولة استرضاء الجماهير بحقائق فعلية وسريعة، دون انتباه كافي لأهمية استخدام هذه الدعايات مع إخماد الدعاية المضادة بشكل كامل، وقد اتضح تأثير ذلك في النتائج الكارثية فيما بعد، بالإضافة لتعقيدات أخرى كثيرة بطبيعة الحال.
وبالرغم من أهمية عدم إهدار مخزون الكفاءات والكوادر والقواعد الإسلامية في أتون مواجهات شاملة مستنزفة مع السلطة تعطيها الفرصة لتجريمها والتحريض عليها عالميًّا ومحليًّا كركيزة استراتيجية؛ فقد يكون من الضروري تفرد واستقلال القوى الإسلامية في لحظة تاريخية ما؛ بحدث كبير يجعلها رقمًا صعبًا في الساحة السياسية، ويقنع الخصوم قبل الحلفاء باستحقاقها لقيادة الواقع، بشرط تقدير قيادات الحراك بلوغ الزاوية الحرجة في مساره، مع وجود رصيد من رأس المال الاجتماعي الذي تحدثت عنه في مقال آخر، والجهوزية الحركية والشعبية لتحمل تكلفة ذلك الحدث، وأعني هنا أن يكون ذلك في أصل البناء الفكري لمجموعات الحراك السياسي والثقافة الحركية لقوى المجتمع الحية.
فأحداث المنصة في مصر مطلع ثمانينيات القرن الماضي؛ كانت مؤثرة على كافة الأصعدة رغم محدودية آثارها في إعادة تشكيل النظام وتغيير خريطة المنطقة في النهاية؛ إلا أنَّها أعطت الريادة للحركة الإسلامية ووجهت الأنظار إليها بقوة في الخارج والداخل، وبدلًا من استغلال ذلك الزخم انشغلت الحركة في معارك استنزاف أدت لتراجعها في النهاية لتقوم ثورات الربيع العربي وهي في أسوأ وأضعف مراحلها.
وفي الختام، من الضروري اعتماد فكرة النقباء من ذوي الإعداد الجيد لنشر مثل هذه المبادئ النظرية ومحاولة نيل التأييد الجماهيري لها، كي تصير ثقافة شعبية أو حركية -أي بين الفاعلين في المجتمع- على أقل تقدير. ومع محاولة إعادة تصدير الخطاب الإسلامي القوي والرصين والشعبي أيضًا والمتصل بجماهير واسعة من الأمة؛ بمعنى ألا يكونوا دعاة محسوبين فقط على فئة أو جهة معينة فقط، وإنما محاولة لإعادة إنتاج نماذج أو رموز جديدة مستحقة تعيد تجربة الشيخ عبد الحميد كشك والشيخ محمد متولي الشعراوي وبدرجة أقل منهما الشيخ عبد اللطيف مشتهري والشيخ فوزي السعيد وغيرهما.