اختبار نظرية وحدة الساحات
تعرضت قضية فلسطين لمحاولات تقزيم من كونها قضية إسلامية وعربية لتصويرها على أنها قضية محلية فقط، ثم بدأت محاولات تجزئتها محليا إلى ملفات منفصلة تنقسم إلى ملف غزة وحصارها، وملف الضفة الغربية والاستيطان والسلطة الفلسطينية، وملف تهويد القدس، وملف عرب 48 وحقوقهم المهدرة في ظل قانون يهودية الدولة، وفي مواجهة ذلك برزت مؤخرا نظرية “وحدة الساحات” التي تعزوها تل أبيب إلى صالح العاروري نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، وتقوم على التنسيق بين عدة جبهات بهدف خوض حرب مطولة ضد إسرائيل تستنزفها عسكريا واقتصاديا في ظل اعتمادها على جيش مكون من قوات الاحتياط، ويجعل المدن الإسرائيلية عرضة لقصف صاروخي وهجمات متنوعة مما يضغط على الإسرائيليين للهجرة بالخارج، ويشتت رد الفعل الإسرائيلي على أكثر من جبهة.
وحدة الساحات الفلسطينية في جولة مايو 2021
برزت أولى تطبيقات تلك النظرية بشكل محدود في معركة “سيف القدس” التي بدأتها حركة حماس ردا على الانتهاكات الصهيونية بالقدس، فبجوار إطلاق الصواريخ من غزة تجاه تل أبيب، اندلعت تظاهرات واحتجاجات من الفلسطينيين داخل أراضي 48 تخللتها اشتباكات دامية، بينما تصاعدت حالة المقاومة في الضفة الغربية، وهو ما ربط بين غزة والقدس والضفة وداخل الخط الأخضر. لكن هذا الارتباط ظل مقتصرا على الداخل الفلسطيني، ولم تبرز مساهمات أخرى انطلاقا من دول الجوار، فكانت “وحدة ساحات” على المستوى الفلسطيني فقط.
وحدة الساحات الإقليمية في جولة إبريل 2023
جاء التطبيق الثاني لنظرية وحدة الساحات أثناء جولة قتال قصيرة اندلعت في إبريل 2023، إذ بدأت عقب اعتداء قوات الاحتلال على المرابطين في المسجد الأقصى، واعتقال المئات منهم، وتصويرهم بشكل مهين. وردا على ذلك أطلقت المقاومة في غزة ما يزيد عن 50 صاروخا باتجاه سديروت ومستوطنات الغلاف، فيما أُطلق 34 صاروخا من جنوب لبنان، و6 صواريخ من جنوب سوريا، كما أسقط الجيش الإسرائيلي طائرة مسيرة انطلقت من لبنان، وأخرى انطلقت من سوريا، فيما قُتل 3 مستوطنين في منطقة الأغوار، ونفذ عربي من كفر قاسم عملية دهس في تل أبيب. وفي المقابل شن الجيش الإسرائيلي غارات جوية على قطاع غزة، وجنوب لبنان، وسوريا، ولكن جاء الرد الإسرائيلي على الهجمات متواضعا مقارنة بالردود المعتادة على هجمات بهذا الحجم، وبدا أن نتنياهو منشغل بخلافاته الداخلية، وحريص على تجنب خوض معركة متعددة الجبهات آنذاك.
في نهاية تلك الجولة نشر حزب الله صورة للقاء بين أمينه العام حسن نصر الله مع قائدي حماس إسماعيل هنية وصالح العاروري في بيروت، وذلك في رسالة ضمنية بأن القصف من لبنان حدث بتنسيق بين الجانبين، فيما زعمت وول ستريت جورنال أن قائد فيلق القدس إسماعيل قاآني اجتمع مع قادة حماس وحزب الله والجهاد الإسلامي في السفارة الإيرانية ببيروت للتنسيق بخصوص المواجهات، وتُعد تلك الجولة بمثابة أول تطبيق لنظرية وحدة الساحات على مستوى فلسطين ولبنان وسوريا، وإن كان على نطاق ضيق للغاية.
الاختبار الجاد لوحدة الساحات
مع إطلاق كتائب القسام لعملية بعنوان “طوفان الأقصى” صباح يوم 7 أكتوبر، والتي أسفرت عن مقتل 1400 إسرائيلي على الأقل، وأسر نحو 230 شخص، انهارت نظرية الأمن الإسرائيلية التي تقوم على الردع والتفوق الاستخباري، وتبخرت مقاربات “كي الوعي” و”جز العشب” التي بُنيت عليها الاستراتيجية الإسرائيلية في التعامل مع قطاع غزة منذ سيطرة حماس عليه عام 2007، وهي المقاربات التي عبر عن هدفها العميد عميت ساعر رئيس قسم الأبحاث في شعبة الاستخبارات بالجيش قائلا ” إن التعامل الأفضل مع غزة يتمثل في الحفاظ على الهدوء قدر الإمكان، ومحاولة إطالة الفترات الفاصلة بين المواجهات”.
ردا على عملية طوفان الأقصى، بدأت تل أبيب عملية عسكرية باسم “السيوف الحديدية ” تسعى لتحقيق 3 أهداف، وهي: القضاء على حكم حماس في غزة، وتفكيك القدرات العسكرية لحركة حماس وبقية فصائل المقاومة في غزة، والإفراج عن الأسرى الإسرائيليين. وقد حشدت تل أبيب للعملية نصف مليون جندي، واعتمدت في مرحلتها الأولى على قصف جوي غير مسبوق لتدمير كل ما له صلة بحماس من منازل أعضاء ومقرات حكومية ومؤسسات اجتماعية فضلا عن الانتقام الجماعي من السكان عبر إحداث مقتلة ودمار هائل بين صفوفهم بالتزامن مع حصار مشدد يشمل منع المياه والطعام والوقود والكهرباء عن سكان القطاع، وتهديم البنية التحتية تمهيدا لشن عملية برية.
في ظل تلك الأهداف الإسرائيلية الطموحة التي يتطلب تحقيقها إحداث دمار هائل في غزة، فضلا عن حصيلة ضخمة من الضحايا ناهز عددها 8 آلاف شهيد حتى الآن، فقد تدخلت أيضا الولايات المتحدة بشكل مباشر عبر إرسال مجموعتين قتاليتين بحريتين رفقة حاملتي طائرات إلى شرق البحر المتوسط، وأوفدت 2000 جندي أمريكي لتقديم الدعم والمشورة للعملية البرية الإسرائيلية، ودشنت خط إمداد جوي بالذخائر والعتاد، فضلا عن تقديمها دعما سياسيا مفتوحا بلغ ذروته بزيارة بايدن لإسرائيل وحضوره جلسة لحكومة الحرب التي شكلها نتنياهو، كذلك وضعت ألمانيا طائرتين مُسيّرتين من طراز هيرون في خدمة إسرائيل، وتوالى الدعم من الغرب، وبالأخص من بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا.
تلك التطورات وضعت نظرية “وحدة الساحات” في اختبار حقيقي، فالمعركة الحالية معركة مفصلية تستهدف من الجانب الإسرائيلي القضاء على المقاومة في غزة، وهو ما يختبر ما أطلق عليه خلال السنوات الماضية بمحور المقاومة، هل سيعمل بشكل متكامل أم سيكتفي بالمناوشة والإشغال دون الانخراط في المعركة بما تتطلبه.
المعضلة الإيرانية
في بداية المعركة تلقت طهران رسائل مباشرة من واشنطن تحذرها من الانخراط في القتال وتطالبها بضبط النفس وتجنب توسعة نطاق الصراع، وهي تحذيرات عضدتها واشنطن بحشودها العسكرية التي أرسلتها للمنطقة بهدف معلن وهو منع أي طرف ثالث من الانخراط في القتال. ولرفع العبء عن طهران صرحت إدارة بايدن بأن تقييم وكالة المخابرات المركزية الأمريكية يرجح عدم تورط إيران بشكل مباشر في هجوم 7 أكتوبر، وهي نفس الرسالة التي ردد نتنياهو في مؤتمر صحفي يوم 28 أكتوبر إذ قال ” إيران تؤيد حماس وتدعمها ماليا لكن لا يمكن أن أقول إنها كانت وراء التخطيط للهجمات”، وهي تصريحات تهدف لتجنب الالتزام برد مباشر حاليا على طهران يمكن أن يشعل حربا إقليمية لا تريدها واشنطن وتل أبيب.
في المقابل تدرك طهران أن الرد الإسرائيلي لن يقتصر على غزة إنما يعتبرها الجولة الأولى ضمن جولات يخطط لها الاحتلال للتخلص لاحقا من تهديد حزب الله قبل أن يتعامل مباشرة مع التهديد الإيراني، وهو ما عبر عنه صراحة وزير الخارجية الإيراني حسين عبداللهيان قائلا ” قادة المقاومة لن يسمحوا للكيان الصهيوني أن يفعل ما يريد في غزة ثم ينتقل للحرب في مناطق أخرى”، ولكن واقعيا تدرك طهران أنها محصورة بين خيارين أحلاهما مر:
الأول: أن تتخلى عن المقاومة في غزة سعيا للحفاظ على النفوذ الذي بنته في المنطقة بعد احتلال العراق عام 2003، وهو ما يجنبها خوض صراع مباشر مع إسرائيل ستتدخل فيه واشنطن عسكريا مما سيمس المشروع النووي ويهدد بقاء النظام الإيراني ذاته، مع إدراكها أن هذا الخيار يقضي على سردية وجود “محور مقاومة”، وسيبرهن على تخلي طهران عن حلفائها وقت الشدة، وأن مصالحها المباشرة لها الأولوية حتى على حساب قضية فلسطين التي تتغنى بها منذ اندلاع الثورة الإيرانية عام 1979.
الثاني: المواجهة المتدرجة: وضمن هذا الخيار تكثف طهران جهودها الدبلوماسية بهدف الضغط لإدخال مساعدات إنسانية، وعقد هدنة لتجنب اجتياح غزة بريا، وذلك بالتزامن مع تفعيل بعض الجماعات الموالية لشن هجمات محدودة ضد الجيش الإسرائيلي انطلاقا من لبنان، وضد الجيش الأمريكي في سوريا والعراق. وسعيا للتلويح بالجدية دخل المرشد الإيراني على الخط قائلا ” إذا تواصلت الجرائم في غزة فإن صبر المقاومة والمسلمين سينفد ولا يمكن لأي طرف أن يقف أمامهم”. ولكن بخصوص هذا الخيار فقد صرح قادة من حماس مثل خالد مشعل وغازي حمد وموسى أبو مرزوق بأنه غير كاف، وبأن المنتظر من حزب الله في لبنان تحديدا أكبر من ذلك.
نهج المواجهة المتدرجة
في لبنان بدأ حزب الله في العمل عسكريا ضمن نطاق يهدف لتجنب خوض حرب واسعة مع إسرائيل، في ظل التهديدات الأمريكية، والتلويح الإسرائيلي برد يفوق ما حدث في حرب 2006 التي شهدت تدمير الضاحية الجنوبية ببيروت بأكملها، فضلا عن وجود أزمة اقتصادية عميقة بلبنان، وتربص العديد من الأطراف الداخلية بالحزب، والتي ستجد في إضعافه عسكريا فرصة ذهبية لتقليص نفوذه الذي تمدد خلال العقدين الأخيرين.
لذا ميدانيا، شن حزب الله سلسلة من العمليات المحسوبة التي تستهدف مركبات وتحصينات وأفراد الجيش الإسرائيلي، وأجهزة المراقبة والرصد على الحدود، كما سمح للتنظيمات الفلسطينية مثل حماس والجهاد الإسلامي بشن عمليات قصف ومحاولات تسلل انطلاقا من جنوب لبنان، كذلك دخلت كتائب الفجر الجناح العسكري للجماعة الإسلامية في لبنان على الخط عبر تنفيذ عمليات قصف لمستوطنات في الشمال الإسرائيلي، ودفعت تلك الهجمات تل أبيب إلى تفعيل خطة لإخلاء سكان 28 مستوطنة تبعد عن الحدود اللبنانية مسافة 2 كم، قبل أن تتوسع في عمليات الإخلاء لاحقا إلى مدى أكبر يبلغ 5 كم. وفي المقابل يتحمل الحزب رد الفعل الإسرائيلي المحسوب أيضا، والذي أسفر حتى الآن عن مقتل نحو 50 فردا من عناصره.
أما سوريا والعراق، فيتواجد في الأولى 900 جندي أمريكي، وفي الثانية 2500 جندي أمريكي، وتشهدان هجمات بطائرات مسيرة وقصف صاروخي ضد القواعد الأمريكية مما أسفر حتى الآن عن وفاة متعاقد أمريكي بأزمة قلبية، وإصابة 24 جنديا أمريكيا، فيما اكتفت واشنطن بقصف مخازن أسلحة تابعة للحرس الثوري في البوكمال، مع تأكيدها على رغبتها بتجنب توسيع الصراع، بل وتشديدها على أن ردها العسكري لا يرتبط بالتطورات في غزة إنما يرتبط بتعرض قواتها لهجمات في العراق وسوريا.
وقد جاء التطور الأبرز من اليمن، فقد رفع الحوثيون منذ سنوات شعار “الموت لإسرائيل” دون أن ينخرطوا في أنشطة تعزز صدقية الشعار، واكتفوا سابقا برسائل رمزية، إذ عرضوا في يناير 2021 إجراء عملية تبادل أسرى لطيارين سعوديين مقابل الإفراج عن 60 معتقلا من حماس في السعودية. ولكن مع اتساع نطاق العدوان على غزة هدد عبدالعزيز بن حبتور رئيس حكومة الحوثيين باستهداف السفن الإسرائيلية في البحر الأحمر حال استمرار العدوان على غزة، ثم تبع ذلك في 19 أكتوبر إسقاط السفينة الحربية الأمريكية كارني المتواجدة في البحر الأحمر 3 صواريخ و١٥ طائرة مسيرة انطلقت من اليمن تجاه إيلات، فيما أسقطت السعودية صاروخا رابعا، وبعدها بأسبوع سقطت طائرة مسيرة على مستشفى طابا بمصر قرب إيلات، ثم في صباح اليوم التالي أسقطت مقاتلة إسرائيلية طائرة مسيرة قادمة من اليمن فوق خليج العقبة وتناثر حطامها فوق جبال نويبع.
إن باستطاعة الحوثيين تهديد المصالح الإسرائيلية والأمريكية في البحر الأحمر، كما أنهم يملكون طائرات مسيرة وصواريخ بعيدة المدى تطال إسرائيل برؤوس حربية ثقيلة تصل إلى طن واحد للصاروخ، وهو ما يرهق قدرات الدفاع الصاروخي الإسرائيلية التي تعمل على أكثر من جبهة، كذلك يمكن انطلاقا من اليمن إعادة بناء خط الإمداد بالعتاد إلى غزة عبر السودان ومصر- بالأخص بعد عودة العلاقات السودانية الإيرانية رسميا في أكتوبر 2023- وهو ما سيخدم الاستراتيجية الإيرانية دون تحمل تكلفة الانخراط المباشر في القتال. ولكن يظل الانخراط الحوثي بشكل عميق في القتال محل فحص.
آفاق وحدة الساحات
حتى الآن لم تنخرط أطراف ما يُسمى بمحور المقاومة في عمليات تناسب مستوى الهجوم الدموي على غزة، وهو ما يضرب نظرية “وحدة الساحات” في مقتل. ولكن يظل من المحتمل أنه مع اتساع العملية البرية الإسرائيلية في غزة، قد يضطر حزب الله والجماعات الموالية لإيران في سوريا والعراق والحوثيين إلى زيادة وتيرة هجماتهم لإشغال الجيش الإسرائيلي في الجبهة الشمالية، والضغط على واشنطن عبر تهديد مصالحها، وهو ما سيدفعها بالمقابل لتوجيه ضربات للمليشيات الشيعية.
لا يترجح أن تدخل إيران كطرف مباشر في الصراع، إذ تتجنب منذ حربها مع العراق “1980-1988” خوض حروب مباشرة تدفع فيها كلفة عالية، وتعتمد على شبكة الجماعات الحليفة لها في إزعاج خصومها ومد نفوذها، وهي الشبكة التي بدأت أصوات إسرائيلية تدعو إلى تفكيكها والقضاء عليها، فالجنرال جابي سيموني أحد المنظرين للأمن القومي الإسرائيلي نشر مقالا في ٢٢ أكتوبر بصحيفة معاريف، دعا فيه إلى “تحويل غزة بأكملها إلى أرض خراب أمام أعين العالم لاستعادة الردع، ثم الانتقال لمواجهة حزب الله اللبناني في المرحلة الثانية بهدف نزع سلاحه وتفكيكه، ثم استهداف النظام الإيراني في المرحلة الثالثة عسكريا، وذلك لإعادة بناء نظام إقليمي جديد يعتمد على التطبيع الإسرائيلي مع السعودية والإمارات” . إن أطروحات سيموني تتماشى مع الحشود العسكرية الأمريكية القادمة للمنطقة، وتشير إلى أن رأس طهران يقترب من المحك، فإما أن تبادر لإفساد الطبخة أو تنتظر دورها، فيما تخضع نظرية “وحدة الساحات” لاختبار جاد وكاشف وفاصل.