
تبرز مشكلة اندماج الفصائل الثورية وغير الثورية في سورية بعد انتصار الثورة ضرورةً مُلِحَّةً، فمتطلب أساسي لأي دولة وحدةُ البندقية، وبناء الجيش الموحَّد على أساس الولاء للبلد وليس للقبيلة أو المذهب أو الإثنية أو لدول أخرى. وفي المقابل، فإن تشتت البندقية وتفكك القوة العسكرية هو المؤشِّر الأول على تفتت الدول وانهيارها.
ومن اللافت للانتباه أن كلمة “اندماج” كانت من أكثر الكلمات تكرارًا خلال الثورة السورية، ومن أقلها تطبيقًا، لدرجة أن الغالبية العظمى من فصائل الثورة السورية حملت أسماء أفادت معنى التوحد، أو نشأت عن مشروع اندماجي. وكثيرًا ما فرضت ضغوط الحاضنة الشعبية والبيئة العملياتية توحُّد بعض الفصائل لخوض بعض المعارك، ثم سرعان ما تفعل عوامل التفكك فعلها فتعود هذه الفصائل للتشظي.
وبعد سقوط نظام الأسد، حُلَّت العديد من المشكلات التي حالت دون التوحُّد، كخشية التصنيف الدولي، وعدم وجود شرعية وطنية جامعة، فَرُفِع التصنيف، وانتُزِعَت الشرعية الإقليمية والدولية من أوسع أبوابها، لكن محليًّا برزت تحديات داخلية أعاقت نمو الدولة واستقرارها، وإحدى أبرز هذه التحديات هي “بناء المؤسسة العسكرية الجامعة”، خصوصًا في ظل العديد من العوامل التي أعاقت اندماج الفصائل في جيش موحَّد، منها المادي، ومنها الأيديولوجي، ومنها ما يتعلق بالتدخل الخارجي، ونتناولها في هذا المقال تفصيلًا.
أولًا: الفجوة بين الأهداف والواقع
رغم إصدار الجيش لمذكرات سلوك تعزز الجانب القيمي والأخلاقي، فإن هذه السلوكيات لم تلقَ بعد ما يكفي من التلقين والتعزيز والغرس في سلوك أفراد الجيش الجديد. ويرجع هذا لحداثة سن وتجربة الكثير من المنتسبين الجدد، فقد وجدت قيادة الجيش الجديد نفسها مسؤولة عن حماية دولة شاسعة بعد أن كانت مسؤوليتها لا تتعدى محافظة صغيرة، فاضطرت للتساهل في معايير التجنيد والإعداد، ومنه الإعداد المعنوي والسلوكي الذي يستغرق ترسيخه سنوات طوال وجهودًا مضنية في جيوش الدول المستقرة.
ورغم ارتكاب عدد من أفراد الجيش لانتهاكات في مناطق مثل الساحل والسويداء، لم نشهد محاسبة جادَّةً حتى الآن لهذه الانتهاكات. وحتى بعد تشكيل لجان تحقيق أقرت بوقوع الانتهاكات وأوصت بملاحقة مرتكبيها، فإن عملية المحاسبة لم تأخذ مجراها، ولم تُنشر أنباء تفيد بالقبض على الجناة أو محاكمتهم. ولعل من أسباب هذا تخوُّف السلطة من إثارة نقمة حاضنتها الشعبية المثقلة بالرغبة الجامحة في الانتقام من جرائم النظام وفلوله. إلا أن هذا يفتح فجوة كبيرة بين ما تَعِدُ به الدولة الجديدة وما تنفّذه من هذه الوعود، ويعيق دخول جميع أفراد المجتمع السوري في الجيش الجديد باعتباره جيشًا وطنيًّا لا يميِّز بين أبناء الوطن الواحد، ويزيد من حالة التشكك القائمة بين بقية المكونات ونواة الجيش الجديد.
من ناحية أخرى، وجدت الإدارة السورية نفسها أمام اعتباراتٍ عدّة في التعيينات القيادية، تستدعي مراعاةً دقيقةً لارتباط بعض القادة العسكريين بقوى خارجية حليفة (كفصائل الجيش الوطني المتحالفة سابقًا مع تركيا)، أو بمناطق وفصائل تشكِّل ثقلًا محوريًّا في الجغرافيا السورية (كتشكيلات دمشق وريفها وبعض فصائل الجنوب السوري). وقد حال هذا دون اندماج هذه الفصائل بشكل كامل في المنظومة الجديدة، واستمرار ولاء أفرادها للقيادات التي حافظت على هيمنتها على رأس هذه التشكيلات على حساب المؤسسة العسكرية.
ثانيًا: أحداث الساحل والسويداء وانعدام الثقة المتجذِّر
تتشكك الفصائل -خاصة الكردية والدرزية- من الجيش الجديد، بسبب تاريخ الصراعات الداخلية مع “هيئة تحرير الشام”، وهيمنة الفصائل الإسلامية على المناصب العسكرية العليا. فقد انبثقت هيئة تحرير الشام عن جبهة النصرة التي خاضت في سني الثورة الأولى اشتباكات مع بعض الفصائل الكردية والمجموعات المحلية الدرزية. وسواء كان الطابع الأيديولوجي هو الذي صبغ تلك الاشتباكات بفعل طبيعة الفصائل المُشكَّلة على أسس عقائدية ومناطقية، فقد ترسخ عبر السنين توجُّسُ الأقليات من الفصائل الإسلامية وشعاراتها، أعلامًا وهتافات ومظاهر، ومن قادتها الذين باتوا يشكلون السواد الأعظم من قادة الجيش الجديد. ثم جاءت أحداث الساحل والسويداء لتعزز هذه العقبة وتعمق حالة الشك.
وسادت لدى هذه الفصائل وقادتها مخاوف التهميش بعد الدمج. فالرابطة الرئيسة للفصائل العسكرية هي الثقة المتراكمة عبر سنوات، وهذه الثقة ترتبط بشخص القائد ذاته، فهو مصدر المال والامتيازات، وهو مصدِّر الأوامر المُطاعة، ومتصدِّر المشهد ممثِّلًا عن فصيله، يكاد لا يُعرف سواه من فصيله. ويخشى هؤلاء القادة من تحوّل منظومة الولاء من آلية الولاء الشخصية إلى منظومة الولاء المؤسسية التي تضبط الرواتب والواجبات والحقوق، وتنتقص من هالة ومكانة قادة الفصائل.
كما تبرز خشية بعض القادة أو عناصرهم من الملاحقات القضائية لانتهاكات سابقة كعاملٍ هامٍ لعدم الانصهار الكامل في الجيش الجديد. فقد غلبت على الحرب السورية ردودُ الفعل العنيفة، لفصائل تفتقر للتدريب والانضباط، وتغلي فيها روح الثأر والانتقام، وتجهل أو تتجاهل القوانين الدولية وأعراف معاملة الأسرى، لذا فقد وقعت انتهاكات عدة ارتكبها عناصر الفصائل وقادتهم، أو أمروا بها أو تغاضوا عنها.
ثالثًا: التسليح والتدريب
تواجه المؤسسة العسكرية نقصًا كبيرًا في التسليح، بعد أن دمَّرَت إسرائيل معظم السلاح والبنية التحتية العسكرية لجيشٍ متهالكٍ أصلًا بعد سنوات من حرب مُضنية. وبينما اعتمدت الفصائل التي نشأت إبان الثورة على معدات خفيفة ومتوسطة وبعض الأسلحة المُصنَّعَة محليًّا، مثل عربات خفيفة التصفيح ومسيَّرات بدائية، حيث كانت هذه المعدات مناسبة للحالة الثورية وعقيدتها القتالية، إلا أن اتساع نطاق عمل الجيش الوليد ليشمل كافة الأراضي السورية، أورثه مهام جديدة لا تفي معها هذه المعدات بهذه المهام، مثل حراسة الحدود الممتدة، وتعدد الأعداء والخصوم في الداخل والخارج. ما يفرض على الدولة الجديدة أعباءً مالية كبيرة، صعب توفرها قريبًا، لشراء معدات جديدة وترميم البنية التحتية العسكرية المدمَّرة. وهذا يشكِّل بيئة نابذة للعسكريين المولعين بالأسلحة المتطورة، بعيدًا عن بدائية التسلح السابق.
أما الدعم الدولي الموعود، فلم يُطبَّق بعد. فقد أحجمت تركيا حتى الآن عن تقديم مساعدة عسكرية نوعية تسليحًا وتدريبًا، وتريَّثت في إنشاء قواعد عسكرية لها في سوريا، بعد التهديدات الإسرائيلية الصريحة التي أوضحت استعدادها للاصطدام بالجيش التركي إذا ما تجاوز خطوطها الحمراء التي تمتد بعيدًا عن حدودها.
كما تمسَّكت بعض الفصائل بمصادر تمويلها الذاتي القادمة من موارد متعددة، مثل المعابر الدولية والمشروعات الاقتصادية، وتتباطأ في تسليم مواردها للدولة الجديدة. فيما اعتمدت قسد على موارد النفط إلى جانب الدعم الأمريكي، ولا تريد مشاركة الموارد النفطية السخية مع الدولةَ السورية، بعد سنوات من استفرادها بجباية أموالها وإنفاقها.
من ناحية أخرى، تبرز مشكلات التدريب والتأهيل مع الانتساب الجديد للجيش، سواء من المجتمع المدني أو الفصائل التي تتفاوت أصلًا في إمكانات أفرادها وتشكيلاتها، ما أعاق تشكيل بنية متماسكة في ظروف معقدة وغير مستقرة.
رابعًا: تأثير التدخل الخارجي
غزت القواعد الأجنبية لعدة دول الجغرافيا السورية، وتدعم كل منها فصائل محددة. وعلى رأسها القواعد الأمريكية التي تدعم قوات سوريا الديمقراطية حتى اليوم. رغم خطابات المبعوث الأمريكي الداعية لدمج هذه القوات ضمن الجيش السوري الجديد، فإن وجود القوات الأمريكية يعزز الموقف الكردي الرافض للاندماج، مستفيدًا من وجودها كحاجز محتمل ضد أي تصعيد أو ضغط عسكري.
أيضًا، تمتلك روسيا هي الأخرى قواعد عسكرية كبيرة، ولم تنأى بنفسها عن أحداث الساحل والتي قادها فلول النظام البائد الذين حاولوا تشكيل ميليشيات متمردة. بينما لم تغيِّر تركيا من خريطة وجودها في الشمال السوري بعد رغم تغيُّر الأسباب المُوجِبة لهذا الوجود وشكله ومواقعه، فلم تبادر للتفريط في القوى التي يُمكن أن تعتمد عليها في سوريا مستقبلًا، لحفظ الأمن القومي التركي في مواجهة المشروع الانفصالي لحزب العمال الكردستاني. كما تتطور التوغلات الإسرائيلية في سوريا باستمرار، ويدعم جيش الاحتلال الفصائل الدرزية في جنوب سوريا ويعيق أي انتشار عسكري وسيطرة كاملة للدولة الجديدة في الجنوب السوري الذي بقي منزوع السلاح حتى اليوم.
من ناحية أخرى، يرفض المانحون الدوليون دعم جيش يضم فصائل مصنفة “إرهابية”، فلا تزال بعض الدول تنظر إلى بعض التشكيلات السورية كفصائل لم تُرفع عنها التصنيف كجماعات إرهابية، عدا عن العقوبات الغربية التي طالت بعض الفصائل السورية، على خلفية أحداث الساحل، مثل فصائل العمشات والحمزات التي خضعت لعقوبات الاتحاد الأوروبي مؤخرًا.
خامسًا: الخلافات الأيديولوجية
تتنوَّع المرجعيات الفكرية للفصائل التي نشأت في خضم الثورة، ويتراوح هذا التنوّع ما بين الفصائل الإسلامية بتدرجاتها إلى الفصائل العلمانية، ومن الفصائل المناطقية إلى الفصائل التي تعد نفسها تابعة لدول أخرى، ما يجعل دمجها في مؤسسة واحدة أمرًا صعبًا. فليس من السهل أن يعمل أفراد من فصائل ذات مرجعية إسلامية مثل “فيلق الشام” و”حركة أحرار الشام”، وفصائل قومية مثل “فرقة السلطان مراد”، وتنظيمات ذات هوية مناطقية مثل “جيش الإسلام” الذي ينحدر معظم مقاتليه من الغوطة، وفصائل درعا في الجنوب السوري التي لدى بعضها علاقات خارجية مع الأردن والإمارات، وكذلك الفصائل المرتبطة بالقوات الأمريكية مثل “جيش سوريا الحرة”.
كما تتعارض رؤيتان للدولة بين دمشق وبعض الفصائل. فالرؤية الأولى، وتتبناها “هيئة تحرير الشام” والفصائل المتحالفة معها، ترى أن النموذج المركزي هو النموذج الملائم لسوريا الجديدة. فيما تدافع “قوات سوريا الديمقراطية” والميليشيات الدرزية عن النموذج اللامركزي القائم على الفيدرالية.
ختامًا
رغم كل العقبات المذكورة، أنجزت وزارة الدفاع السورية بعض الخطوات المهمة، وإن كانت بطيئة نوعًا ما، عبر دمج بعض التشكيلات ضمن فرق محددة، وإقرار الهيكل التنظيمي للجيش الجديد، والنجاح في استيعاب بعض الفصائل الكبرى وقادتها ضمن تشكيلاتها. فيما تبقى بعض الأسباب الخارجية والداخلية عائقًا أمام بناء المنظومة بشكل كامل.
ويبقى الأمل قائمًا بأن تدرك كافة الأطراف السورية أنه لا استقرار ولا بناء لدولة حديثة دون جيش وطني جامع يعكس تنوع المجتمع ويحمي جميع مواطنيه دونما تفرقة. ويبدو أن طريق الاندماج طويل، لكن ثمار النجاح فيه، من وحدة وأمن وسيادة، تستحق الجهد والصبر لتحقيقها، خاصة بعدما عانته سوريا من ويلات الانقسام والصراع.