ما زلت أبتسم عندما أتذكر الرؤية المتفائلة التي تداولتها بعض التغريدات: كيف يمكن لسوريا أن تزدهر بأموال الخليج المستثمرة في إعادة الإعمار، والخبرة التركية التي تدفع التنمية، والدعم الدولي من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. وتأتي ابتسامة مماثلة عندما أقرأ مقولات السوريين بأنَّهم لن يصلحوا الشرق الأوسط، وأنَّ مشكلات المنطقة لا ينبغي أن تكون ضمن اهتماماتهم. فبالنسبة لأمة ضربتها لأكثر من عقد طوفان من العنف الطائفي ونصف سكانها مشردين، فإنَّ مثل هذه المشاعر مفهومة، لكن التاريخ والحقائق الحالية ترسم صورة أكثر قسوة. سواء أحب السوريون ذلك أم لا، فإنَّ المنطقة ستلعب دورًا حاسمًا في مستقبل بلادهم لسنوات، وربما لعقود قادمة، ومن الأفضل لهم أن يجعلوا هذا التفاعل لصالحهم وللمنطقة وليس العكس.
يؤكد تاريخ سوريا على مركزيتها الجيوسياسية. فلقرون، كانت تقع عند مفترق طرق الإمبراطوريات – البيزنطيين، والدولتين الأموية والعباسية، والمماليك، والعثمانيين. سواء كانت سوريا والشام مقرًا للسلطة أو ساحة معركة، فقد شكلت الصراعات الإقليمية، وتشكلت من خلالها. ولا تزال هذه المركزية قائمة حتى اليوم، مما يجعل سوريا ساحة رئيسية تتنافس فيها القوى الإقليمية والدولية على النفوذ.
عندما اندلعت الثورة في سوريا ضمن الربيع العربي، أصبحت ساحة معركة بالوكالة. تدخلت جهات فاعلة إقليمية مثل إيران وتركيا، إلى جانب قوى عالمية مثل روسيا والولايات المتحدة، لتنفيذ أجنداتها الخاصة. وفي حين سعى البعض إلى الحفاظ على الوضع الراهن، سعى آخرون إلى توسيع نفوذهم. وقد دمر هذا التدخل الخارجي البلاد وجرد شعبها -وخاصة الأغلبية السنية- من أي حضور مؤثر. وبدلًا من ذلك، كان يُنظر إليهم إما كرعايا يجب قمعهم أو كبيادق في لعبة جيوسياسية أكبر.
أصبح بقاء نظام الأسد حجر الزاوية للعديد من القوى، ومن عجيب المفارقات أنَّ هذه النظرة شملت أولئك الذين اعتبروه حليفًا مثل روسيا وإيران أو حتى أولئك الذين اعتبروه عدوًا مثل إسرائيل والولايات المتحدة.
وبالنسبة للمجموعات السنية المهمشة، لم يمثل إسقاط النظام مجرد شكل من أشكال العدالة فحسب، بل كان أيضًا جهادًا ومعركة لاستعادة حرية وهوية بلادهم. وعندما أطلقت هذه المجموعات حملتها لإسقاط النظام، لم يكن من المستغرب أن تشعر القوى الإقليمية والعالمية، سواء تلك التي تدعم الأسد أو تلك التي تتقرب من نظامه بصدمة.
ومع ذلك فإنَّ سقوط الأسد لن يعني نهاية صراعات سوريا. بل سيفتح الباب أمام مرحلة جديدة من المنافسة فحسب. وحتى قبل تحرير دمشق، بدأت تلك القوى في التدخل لتشكيل نتائج العملية العسكرية. فاغتنمت إسرائيل الفرصة للاستيلاء على ما تبقى من مرتفعات الجولان والأراضي السورية المجاورة لتحقيق موقف تكتيكي واستراتيجي ضد النظام الجديد في دمشق. ودفعت الإمارات والأردن حلفاءهما في الجبهة الجنوبية للدخول إلى دمشق للاستيلاء على السلطة من رئيس وزراء نظام الأسد لمنع الجولاني من الاستيلاء على الحكومة. في غضون ذلك، ضغطت الدولتان، إلى جانب مصر، على واشنطن لمنعها من الموافقة على تغيير النظام في دمشق أو الترحيب به.
القلق الإقليمي
يوفر الربيع العربي رؤى قيّمة حول الكيفية التي قد تستجيب بها القوى الإقليمية. فقد استثمرت دول مثل السعودية والإمارات بشكل كبير في قمع الإسلام السياسي، وخاصة الحركات الإسلامية الديمقراطية. ومن غير الواقعي أن نتصور أنَّ هذه الدول قد ترحب بصعود الجماعات المسلحة في سوريا، وهي دولة تشكل مركزًا للبنية الأمنية في الشرق الأوسط.
وعلى نحو مماثل، لن تظل إسرائيل، التي لا تزال تعاني الصدمة العسكرية الناجمة عن الهجوم الأخير لحماس، مكتوفة الأيدي في حين يعمل النظام السوري المستقل على إعادة بناء البلاد أو ما هو أخطر من ذلك على إعادة بناء جيشه.
إنَّ سوريا الحديثة القادرة عسكريًّا على عتبة بابها ستكون بمثابة كابوس بالنسبة لتل أبيب، وستعمل جاهدة على تجنب حدوث هذا السيناريو، أيًا كان ما يعتقده أو يريده السوريون. وبالنسبة لإيران، فإنَّ سوريا تشكل شريان حياة لحزب الله وعنصرًا حاسمًا في استراتيجيتها الإقليمية. وسوف تقاتل طهران بشراسة لمنع قطع هذه الصلة.
باختصار، سوف تواجه القيادة الجديدة في سوريا بيئة معادية. وحتى لو كانت نواياها مجرد إعادة بناء واستقرار البلاد باستثمارات خليجية ودعم غربي، فستنظر إليها العديد من القوى الإقليمية باعتبارها تهديدًا وجوديًّا. وستدور المعركة من أجل مستقبل سوريا حول التعامل مع هذه التحديات بقدر ما تدور حول إعادة الإعمار.
ومع ذلك، وعلى الرغم من الصعوبات الهائلة، يتعين على السوريين اغتنام الفرصة لتشكيل مصيرهم بأنفسهم. فبعد عقد من إراقة الدماء، لا يمكنهم تحمل السماح بأن تملي الجهات الفاعلة الخارجية عليهم مستقبلهم. وإنَّ إعادة بناء سوريا لن تتطلب إعادة الإعمار المادي فحسب، بل وأيضًا الإرادة السياسية وربما العسكرية ليس فقط لتأكيد الاستقلال، ولكن أيضًا للقيام بالعكس وإعادة تشكيل المنطقة ليس لصالح سوريا فقط، بل الأمة بأكملها على الرغم من الضغوط الإقليمية والدولية، كما أنَّها ستحدد أيضًا مستقبل سوريا.
إنَّ سوريا تحتاج إلى رؤية استراتيجية تعالج حقائق المنطقة المنقسمة في حين تسعى إلى إقامة دولة مستقرة ذات سيادة. وبالنسبة للسوريين، فإنَّ المخاطر لا يمكن أن تكون أعلى. والبديل هو الانضمام إلى صفوف الفلسطينيين والعراقيين والمصريين – الشعوب التي سحقت تطلعاتها أطراف محلية وقوى خارجية تفضل الاستقرار الاستبدادي، حتى لو كان ذلك يعني القمع وسفك الدماء.
إنَّ النهوض من الرماد لن يكون سريعًا ولا سهلًا، لكنه الطريق الوحيد إلى الأمام. وإذا فشل السوريون في تشكيل المنطقة بما يتماشى مع تطلعاتهم، فإنَّهم يخاطرون بجعل المنطقة تشكل سوريا لتصبح قصة أخرى عن الإمكانات الضائعة والأحلام غير المحققة.