مقالات

كيف أسس الاتفاق السياسي الليبي للفوضى؟

بعد ثلاث سنوات ونصف تقريبًا من صعود حكومة الوحدة الوطنية للسلطة عبر توافق أعضاء لجنة الحوار السياسي -المنتقين من البعثة الأممية- في جنيف، تخوض ليبيا مجددًا معترك إسقاط السلطة التنفيذية لتعيين حكومة انتقالية أخرى يتوافق عليها معسكر الشرق ممثلًا برئيس مجلس النواب “عقيلة صالح” ومن خلفه قائد “الجيش” خليفة حفتر، مع مكونات المنطقة الغربية ممثلة بالمجلس الأعلى للدولة ومن خلفه القوى السياسية والعسكرية المتنفذة، في تجسيد واضح لاستمرار حالة الانسداد السياسي وتحول الأجسام التشريعية والأطراف العسكرية، التي هيمنت على المشهد عبر العقد الأخير لثابت في المعادلة السياسية.

مقدمات الاختناق

في فبراير 2022 وبعد عام تقريبًا من قدوم حكومة الوحدة الوطنية إلى طرابلس، عقد مجلس النواب في طبرق جلسة أعلن خلالها سحب الثقة من حكومة الوحدة الوطنية -بنصاب غير مكتمل- واختيار وزير الداخلية الأسبق “فتحي باشاغا” رئيسًا لحكومة جديدة، وهو إعلان جاء عقب توافق حدث بين باشاغا الطامح إلى رئاسة الحكومة وخليفة حفتر الطامع في الوصول إلى الخزانة العامة، إلا أنَّ الشراكة بين الاثنين لم تدم طويلًا قبل أن يسحب البرلمان الثقة من باشاغا في مايو 2023 ويختار “أسامة حماد” رئيسًا للوزراء، وذلك بعد فشل باشاغا في مهمته بحشد القوة الكافية في المنطقة الغربية للإطاحة بحكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة.

عقب إسقاط باشاغا اعتمد مجلس النواب مشروع ميزانية بـ 89 مليار دينار كان والعدم سواء، حيث لم يصرف محافظ المصرف المركزي “الصديق الكبير” الميزانية لحكومة حماد الموازية لافتقادها “للشرعية”، في المقابل اعتمد المحافظ برنامج إنفاق مواز تم التوافق عليه مع حفتر وعقيلة صالح ما أتاح للحكومة الموازية الوصول إلى نحو 15 مليار دينار في 2023 صُنفت ضمن تقارير المصرف المركزي على أنَّها “إنفاق موازٍ مجهول المصدر”. على الجهة الأخرى تستند حكومة طرابلس “الشرعية” في إنفاقها على قانون 1\12 وهو قانون يتيح للحكومة الإنفاق التسييري دون اعتماد البرلمان الميزانية وذلك عبر إصدار مرسوم رئاسي يتيح لها الإنفاق عبر الباب الأول: ويخصص للمرتبات والأجور، والباب الثاني: يخصص للمصروفات العمومية.

تسير العملية السياسية في ليبيا على هذا النسق منذ توقيع اتفاق “الصخيرات” السياسي في 2015، حيث تعمل الجهات والمؤسسات الرسمية كأطراف وأدوات في النزاع السياسي بمعزل عن القانون وأحكام القضاء، فمثلًا محافظ المصرف المركزي “الصديق الكبير” الذي رفض لسنوات صرف ميزانية لحكومة حماد استنادًا للقانون والاتفاق السياسي، بحث مؤخرًا مع رئيس مجلس النواب “عقيلة صالح” في القاهرة تنفيذ الميزانية المعدة من قبل حكومة حماد بعد اعتمادها من البرلمان والمقدرة بنحو 179 مليار دينار، وهو تطور يأتي على خلفية احتدام الخلافات بين حكومة الدبيبة والمحافظ، وانتشار تسريبات عن دخول الأخير في صفقة مع صالح تقضي بصرف ميزانية كبيرة تقسم بين حكومة حماد وحكومة طرابلس.

يمر المشهد السياسي اليوم بحالة احتقان، تشعر حكومة الوحدة الوطنية بوطأته أكثر من أي طرف آخر، فالخلاف مع محافظ مصرف ليبيا المركزي أفقد الحكومة امتيازها الأبرز: وصولها للتمويل والإنفاق. وبانضمام “الكبير” إلى خصوم الحكومة وعلى رأسهم تيار “الحزب الديمقراطي” -المنشق عن حزب العدالة والبناء- المتحالف مع حفتر وصالح، عاد الزخم إلى مشروع إسقاط الحكومة خصوصًا مع اقتراب انتخابات المجلس الأعلى للدولة، وهي مساحة صراع أخرى يسعى خصوم الدبيبة إلى التمدد إليها عبر إعادة الرئيس الأسبق للمجلس “خالد المشري” لكرسي الرئاسة.

التأسيس للفوضى

رغم تعدد الحوارات والمبادرات السياسية منذ إسقاط المؤتمر الوطني العام في 2015 لإنهاء الانقسام وتوحيد المؤسسات تحت سلطة واحدة، ورغم المبادرات المتكررة لإنجاز الاستحقاق الانتخابي، فإنَّ المشهد السياسي الليبي ما زال مبعثرًا ودون وجهة، وما زالت الأجسام السياسية والسيادية تسبح في فلك من التناقضات، فالبرلمان الليبي المنحل بحكم المجلس الأعلى للقضاء وبحكم انتهاء صلاحيته -18 شهرًا- ما زال هو الجهة المخولة باعتماد الحكومات والميزانيات وإصدار التشريعات، في المقابل يستمر محافظ مصرف ليبيا المركزي في عمله رغم إصدار البرلمان قرار إقالة بحقه في 2014، ويستمر حفتر في استقبال السفراء والبعثات كطرف أساسي في العملية السياسية رغم صدور مذكرات اعتقال بحقه صادرة من النيابة العامة في 2014 ومن الإدعاء العسكري العام في 2019.

منذ توافق البرلمان والبعثة الأممية إلى ليبيا مع أعضاء من المؤتمر الوطني، على تجاوز أحكام القضاء والانخراط في عملية سياسية “عاجلة” من تصميم البعثة، دخل المشهد السياسي نفق التيه السياسي وفوضى الشرعية، فصارت كل الأجسام السياسية والسيادية على الساحة معلقة باتفاق سياسي معطل عمليًّا وغير معترف به من عدد من الأطراف الفاعلة، ومع تعطيل مشروع الدستور ولجنة الستين -وهي جسم منتخب بشكل مباشر من قبل أكثر من مليون ومائة ألف مواطن ليبي لصياغة الدستور- تحول الاتفاق السياسي إلى الوثيقة الدستورية العليا التي تمنح الأجسام السيادية حق الوجود وشرعيتها.

اليوم وبعد مرور نحو تسع سنوات على توقيعه لم يعد الاتفاق السياسي حاضرًا في الجدال السياسي، فقد أدى تراكم النزاعات والانتهاكات المختلفة للقانون وأحكام القضاء، أدى إلى تجاوز الاتفاق السياسي بحكم الأمر الواقع، وقد صرح رئيس مجلس النواب عقيلة صالح مؤخرًا أنَّ الاتفاق السياسي “قد عفا عنه الزمن” في إشارة واضحة إلى مدى الفوضى والعبث اللذين عما العملية السياسية.

تكمن أزمة المشهد السياسي في تحول مصدر الشرعية من الداخل للخارج وتولي السلطات المختلفة مهمتي القاضي والجلاد، وانهيار شرعيتها وقدرتها على التوافق على وثيقة مرجعية (دستور) تؤسس لعملية سياسية تنهي حالة الفوضى، فكل محاولات التوافق على ما يسمى بالقاعدة الدستورية لإنجاز الانتخابات أجهضت، وكل محاولات التوافق على سلطة تنفيذية موحدة وميزانية موحدة أفشلت، ومع كل فشل في التوافق تلفت الأنظار للسلطة التنفيذية التي تعد الحلقة الأضعف لمحاولة تصفير المشهد والمجيء بسلطة انتقالية جديدة للتحضير لانتخابات رئاسية وبرلمانية لن تُعقد.

الفوضى كسلم صعود

ترسم التطورات المذكورة صورة عبثية للمشهد الليبي، لكن وسط الفوضى برز خليفة حفتر كنموذج قادر على توظيف الفوضى وإدارتها لخدمة مشروع أكبر من المكاسب المادية والآنية التي تشغل عقول خصومه. وبالنظر إلى المدة الممتدة من فشل هجومه على طرابلس في 2019 وصولًا إلى 2024؛ سنجد أنَّ موقفه بعد هزيمته أقوى مما كان عليه قبلها، حيث استطاع توظيف النزاع في المنطقة الغربية عبر جر فتحي باشاغا إلى الرجمة ودفعه إلى حشد حلفائه في الغرب لإسقاط الحكومة، في الوقت الذي كان يجري فيه تفاوضًا مع الحكومة بشكل موازٍ فيما عرف بمفاوضات دبي، التي استطاع من خلالها انتزاع رئاسة المؤسسة الوطنية للنفط عبر تعيين ممثله “فرحات بن قدارة”.

اعتمد حفتر هذه المقاربة في معظم “تحالفاته” المؤقتة السابقة، فقبيل غزو طرابلس اعتمد على عدد من زعماء الميليشيات في المنطقة الغربية لتحقيق اختراق مكنه من مداهمة جنوب وغرب طرابلس عبر مدينتي الزاوية وترهونة، وفي عهد حكومة الوفاق استغل الاتفاق السياسي والتقارب مع رئيس الحكومة “فايز السراج” في التضييق على خصومه في طرابلس ثُمَّ انتزاع الحقول النفطية والتمدد إلى سرت والجفرة والجنوب الغربي (فزان) قبل أن ينقلب البرلمان على حكومة السراج قبيل العملية السياسية الجديدة في جنيف، وأخيرًا يستغل حفتر حالة الشقاق بين أطراف الحكم في الغرب الليبي لمد الحبال لكل الأطراف الطامعة في الحكم والغنيمة.

يوفر البرلمان اليوم الغطاء “الشرعي” لقائد الانقلاب خليفة حفتر، ويعطيه مدى وصول وتأثير “شرعي” في المشهد السياسي، فاعتماد الحكومة أو الميزانية، أو سحب الثقة من الحكومة المعتمدة أو تشكيل حكومة موازية، كلها إجراءات ومناورات في يد قائد الانقلاب -بحكم الاتفاق السياسي الذي لا يعترف به-، وبسيطرته على معظم منشآت تصدير وإنتاج النفط، بالإضافة للمؤسسة الوطنية للنفط، يقدم حفتر نفسه للاعبين السياسيين “كجوكر” قادر على الحسم، وهو اليوم يقترب وللمرة الأولى من الوصول إلى الميزانية العامة بطريقة “شرعية” بعد توافق الكبير مع صالح، ما يعزز فرص خصوم الدبيبة وينعش مشروع “الحكومة والميزانية الموحدة” مع حفتر.

يوسف لطفي

كاتب ومحلل سياسي متخصص في الشأن الأفريقي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

انظر أيضا
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى