استراتيجيمقالات

فاغنر كأداة إقناع: تشاد والسودان نموذجًا

تتسم العلاقات الروسية مع تشاد بالتداخل، ففيما تبدو موسكو حريصة على التقارب مع النظام التشادي، تشير معطيات أخرى إلى أنَّها تعمل على الإطاحة به، في غموض يتطلب تفكيك النهج الروسي في التعامل مع تشاد، حيث يلاحظ استخدام نفس الأسلوب الروسي مع السودان.

انقلاب لم يكتمل

لقد أشارت معلومات مسربة نشرتها صحيفة الواشنطن بوست نقلًا عن وثائق للمخابرات الأمريكية في أبريل 2023 إلى وجود مخطط روسي لإسقاط رئيس المجلس العسكري الانتقالي آنذاك “محمد إدريس ديبي”، حيث عملت مجموعة فاغنر الروسية -التي أعيد تسميتها بالفيلق الإفريقي- على تدريب وتسليح مجموعات المعارضة التشادية المسلحة المتمركزة في ليبيا وإفريقيا الوسطى لتنفيذ مخطط انقلاب على ديبي الابن الذي تولى قيادة البلاد عقب مقتل والده في اشتباكات مع المعارضة التشادية على الحدود الشمالية للبلاد بعد حكم دام نحو 30 عامًا، وهدف مخطط الانقلاب لجذب تشاد بعيدًا عن فرنسا والولايات المتحدة وتشكيل اتحاد كونفدرالي يجمع بين تشاد، بروكينا فاسو، مالي، غينيا، إريتريا، النيجر، والسودان.

لقد عملت موسكو منذ 2019 على بناء علاقة مع المجموعات التشادية المتمردة مثل اتحاد قوى المقاومة (UFR)، وجبهة التغيير والوفاق (FACT) وغيرها، عبر تقديم الدعم والتدريب عن طريق ما بات يعرف اليوم بالفيلق الإفريقي، وأثمرت هذه العلاقة بمشاركة جزء من هذه المجموعات مع الفيلق الإفريقي في الحرب التي أطلقها الجنرال الليبي خليفة حفتر على العاصمة طرابلس في ابريل 2019، بالإضافة إلى إطلاق هذه المجموعات لهجوم واسع على شمال تشاد انطلاقًا مع الأراضي الليبية قبل أن توقفه طائرات الميراج 2000 الفرنسية بقصف عنيف.

بحلول عام 2022 ظهرت بوادر تمدد روابط موسكو بالأطراف التشادية بداية من مكونات المعارضة إلى دوائر السلطة، مستغلة حالة التوتر الداخلي التي خيمت على أروقة القصر عقب استيلاء ديبي الابن على الحكم، حيث واجه ديبي معارضة صامتة من أعمامه وإخوته غير الأشقاء وأطراف داخل الجيش، وقد أفادت مصادر دبلوماسية غربية موجودة بتشاد، بفتح “يفني بريجوزين” القائد السابق لفاغنر قنوات تواصل مع شخصيات أمنية وأخرى سياسية، كان أبرزهم الأخ غير الشقيق لمحمد إدريس ديبي الرئيس السابق للشركة الوطنية للنفط والمحروقات (سيد ديبي)، الذي التقى مع بريجوزين خلال زياراته المتكررة لروسيا خلال عامي 2022-2023.

منذ وقت ظهور تلك التسريبات وحتى بروز الفيلق الإفريقي لروسيا وتحويل مجموعة فاغنر لكيان رسمي يشرف عليه نائب وزير الدفاع الروسي “يونس بك إيفكوروف”، شهدت المنطقة عدة تغيرات -لعبت فيها موسكو دورًا بشكل أو بآخر- كان أهمها اندلاع الصراع في السودان في أبريل 2023 وانقلاب النيجر في يوليو 2023 وطرد القوات الفرنسية والأمريكية منها، الذي سبقه طرد القوات الفرنسية من مالي وبوركينا فاسو في 2022 و2023، وهو ما عزز الاتجاهات المناوئة للغرب في منطقة الساحل ووضع ديبي أمام ضغوط مختلفة، فالصراع في السودان وسياسة ديبي تجاهه بفتح الطريق لدولة الإمارات لدعم قوات الدعم السريع عبر مطار منطقة أم جرس شرق تشاد -مقابل الدعم المالي- عزز حالة الاحتقان الداخلي والسخط على ديبي من قيادات قبيلة الزغاوة داخل الجيش، كما أنَّ التحول في مواقف محيطه الإفريقي وضعه أمام مشهد جيوسياسي جديد، فعلى حدوده الشرقية توجد قوات الدعم السريع وعلى حدوده الشمالية تقبع مجموعات التمرد التشادية، وهي مجموعات تتعاون مع الفيلق الإفريقي وتحظى بدعمه، وعلى الحدود الغربية والجنوبية توجد كل من قيادة المجلس العسكري الجديد في النيجر وقيادة إفريقيا الوسطى المنحازتين إلى موسكو.

المشهد كان واضحًا، فروسيا صارت تمتلك مدى وصول وتأثير أعمق من ذي قبل، وتتقدم على حساب فرنسا -حليف ديبي الأول- في المنطقة بشكل متسارع، في ظل جمود أمريكي، وهي تسير في طريق تقويض الوجود الغربي في القارة وإسقاط القيادات المرتبطة بهذا الوجود، ما يجعل منها التهديد الأكثر حضورًا وتأثيرًا.

موقف معاكس

في ظل الظروف والمعطيات السابقة التي جعلت من المجموعة العسكرية الروسية اللاعب الأكثر نشاطًا وفاعلية في القارة وفي منطقة الساحل خصوصًا، بَنَت موسكو موقفًا رسميًّا موازيًّا ومعزولًا تمامًا عما يجري على الأرض، فحافظت القيادة الروسية على قنواتها الدبلوماسية مع أنجامينا، لتسخرها في اللحظة “المناسبة” لإحياء العلاقات الرسمية من جديد، حيث افتتح بوتن عام 2024 بدعوة محمد ديبي لزيارة موسكو، في خطوة جاءت بمثابة حبل نجاة لنظام مقبل على انتخابات رئاسية في ظروف صعبة، حيث يواجه خطر تحدٍ داخلي قوي لشرعيته وتحديات اقتصادية وأمنية كبيرة تحيط به من كل جهة.

ربما تكون موسكو قد حاولت سلك مسار مختلف عما انتهجته أو أنَّها كانت تنوي فعلًا المضي قدمًا في مخطط انقلاب، لكن في المحصلة النهائية وظفت موسكو الهالة الإعلامية التي أحاطت بتحركاتها الأمنية وما مثله وجودها في المنطقة من خطر محتمل على حكم ديبي لدفعه لأحضانها، وربما يمكننا القول إنَّ موسكو “هددت” ديبي بابتسامة على وجهها، وذلك عبر مزيج من الإجراءات الأمنية والبروباجاندا والدبلوماسية.

ذات النهج مع السودان

كررت موسكو هذا النموذج مع الجيش السوداني، فمع استمرار تقدم قوات الدعم السريع في الجنوب الشرقي في سنار، وفي الشمال الغربي في شمال دارفور وتعثر الجيش في الخرطوم وخسارته للمنافذ البرية الأساسية مع تشاد وإفريقيا الوسطى وجنوب السودان وليبيا لصالح الدعم السريع، وأخيرًا الصعوبة التي تواجهه في الحصول السلاح والذخائر، في ظل هذه الظروف الصعبة التي يعيشها الجيش السوداني وعقب فشل مباحثات جدة وتذمر الجيش السوداني من موقف واشنطن المتذبذب، استغلت موسكو هذه الظروف لتوجيه وفد عسكري ودبلوماسي في مايو الماضي، ترأسه المبعوث الروسي للشرق الأوسط وإفريقيا “ميخائيل بوغدانوف” لزيارة رئيس مجلس السيادة “عبدالفتاح برهان” وقيادة الجيش.

وحسب مصادر عسكرية سودانية فإنَّ المباحثات التي قادها بوغدانوف مع قيادة الجيش طرحت عدة ملفات تلخصت في: إحياء اتفاق القاعدة الروسية على البحر الأحمر ووضع حد لتعاون الجيش السوداني مع أوكرانيا، مقابل إنهاء دعم الفاغنر لقوات الدعم السريع، بالإضافة إلى تسليح الجيش وإمداده بالمساعدات العسكرية. وقد تبع زيارة بوغدانوف، زيارة نائب رئيس مجلس السيادة “مالك عقار” رفقة وفد رفيع مكون من وزير الخارجية، وزير المالية، ووزير المعادن إلى روسيا ولقائهم بالرئيس الروسي ونظرائهم من المسؤولين، لبحث ملحقيات الصفقة التي جرى التفاهم عليها في مباحثات مايو الماضي.

زيارة بوغدانوف لبورتسودان شابهت في بعض جوانبها دعوة ديبي لزيارة موسكو، رغم أنَّها كانت مباشرة وأكثر صراحة في أجندتها، فإنَّها مثلت بدورها حبل نجاة مدته موسكو لسلطة غارقة في أزمات حادة ومحاطة بتهديدات خطيرة تلعب فيها موسكو دورًا مباشرًا.

تلعب الخصوصيات الجغرافية والجيوسياسية لكل بلد دورًا في تحديد موقعه على خارطة أهداف موسكو، ففي حين تُرجمت زيارة بوغدانوف ومباحثات الجيش السوداني معه إلى اتفاق مباشر يخدم روسيا على مستوى استراتيجي، فإنَّ زيارة ديبي وتفعيل العلاقات بين البلدين لا يستهدف اتفاقيات بعينها وإنَّما جذب تشاد بعيدًا عن فرنسا والولايات المتحدة وتقريبها من الكتلة الروسية الناشئة في المنطقة، وهو هدف يتطلب بناءً تدريجيًّا مع استمرار جهود تقويض ركائز وجود القوى الغربية وتفكيك علاقاتها بالزعامات والنظم المحلية.

يوسف لطفي

كاتب ومحلل سياسي متخصص في الشأن الأفريقي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

انظر أيضا
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى