سيكولوجية المستضعفين: قراءة في بنية الخوف والتاريخ والهوية

حين تُخفق القوى والأيديولوجيات الكبرى، في فهم سلوك الجماعات المستضعفة، فإنها غالبًا ما تفشل في إدارتها أو احتوائها أو حتى القضاء عليها. السبب في ذلك أن هذه الجماعات لا تتحرك بمنطق المصالح الظاهرية، بل من منطق نفسي أكثر تعقيدًا، يتداخل فيه التاريخ بالذاكرة، والخوف بالهوية، والأمل بالأسطورة. ما يبدو في ظاهره حركة طائفية، أو أقلية، أو فئوية ضيقة، قد يكون تعبيرًا عن ديناميات جماعية عميقة الجذور، تُملي على المستضعفين تصوراتهم عن الذات والآخر والمستقبل.
هذا ما يمكن أن نطلق عليه “سيكولوجية المستضعفين”، وهي قراءة تفكيكية في أنماط السلوك الجمعي التي تنتجها تجربة التهميش الطويل، وتتبلور بطرق متباينة، إلا أن أبرز نماذجها وأكثرها تركيبًا وتجسيدًا تاريخيًا يمكن رصده في التجربة الشيعية، التي تمددت قرونًا على هوامش السلطة، وعاشت على تخوم الخوف، فصاغت عبر ذلك مزيجًا مذهلاً من الطقوس والرموز والفلسفات والاصطفافات، والتي لا يمكن فهمها دون النفاذ إلى الجذر السيكولوجي المؤسس لها.
أولاً: قلق الفناء والهروب إلى الهوية المغلقة
الخوف من الفناء يشكّل جوهر اللاوعي الجمعي لدى الجماعات المستضعفة. هذا الخوف لا يعني نهاية وجودها كعنصر بشري فقط، بل التلاشي الرمزي، أو ضياع الهوية، أو الذوبان في الأغلبية. وفي مقدمة كتابه الشهير “سيكولوجيا الجماهير”، يوضح غوستاف لوبون أن الجماعات حين تشعر بالتهديد الوجودي، تميل إلى الانكفاء والارتداد إلى ما تعتبره “جوهرًا نقيًا” لهويتها، حتى وإن كانت تلك الهوية مختلقة أو منتقاة انتقاءً.
وهذا ينطبق تمامًا على الجماعات المستضعفة، التي غالبًا ما تتصرف كما لو كانت على حافة الفناء، فتبني استراتيجيات بقاء تتراوح بين السرية والانغلاق، أو حتى التصعيد الشرس.
وفي الحالة الشيعية، ساهمت تجربة القمع الطويل ـ من الدولة الأموية إلى العثمانية مرورًا بالعباسيين ـ في تعميق هذا الشعور، فصيغت “الهوية الشيعية” كهوية مضادة، دفاعية، متوجسة، متماسكة خلف جدران الطقوس والمظلومية، ومحمّلة بشعور دائم أن الوجود ذاته مهدد بالذوبان.
وخوف الفناء هذا هو ما يجعلنا نفهم ما قد نشهده أحياناً مما يمكننا تسميته “بالتناقضات الفجائية” في سلوك المستضعفين، كالانفجارات الجماعية غير المتوقعة، أو التراجعات التصالحية بعد عقود من التعبئة، والتي بدت أحيانًا تحركات غير منطقية في سياقها السياسي، لأنها ليست من فعل العقل الاستراتيجي، بل من صنع اللاوعي الجمعي، والإحساس بالخطر الوجودي.
وقد استُخدمت هذه النقطة باحتراف في التعامل مع الشيعة؛ فالسلطات عبر التاريخ، من الأمويين إلى العثمانيين، استغلت هذا الضعف، تارة بالبطش، وتارة بالإدماج الانتقائي الذي يهدد البنية النفسية للجماعة ويدفعها لمزيد من الانغلاق أو التراجع التكتيكي.
ثانيًا: نفسية التطلب ونهم الاستحقاق
ثمة بنية نفسية مزمنة في الجماعات المستضعفة، تتعلق بالجوع الدائم للاعتراف، وهو ما يسميه بعض علماء الاجتماع بالاستحقاق التاريخي المؤجل، فالمستضعف لا يكتفي بالاعتراف الجزئي أو المطالبة بحقوقه في الوقت الحاضر فقط، ومهما أعطي فهو يعيش شعورا الظلم ولا يتوقف نهمه النفسي للمزيد، بموجب مديونية تاريخية مستحقة، فهو -من وجهة نظره- حقه في الماضي الضائع والمستقبل الموعود.
وهذه النفسية كثيرًا ما تتحول إلى دافع سياسي محفّز للتمرد أو رفض التسويات، أو نقد شديد لأي إنجاز مرحلي باعتباره “دون المأمول”، فإن ما فاته لم يكن نتيجة ظروف طارئة، بل هو ظلم متعمد، ولذا فإن أي تسوية حالية تبدو ناقصة في نظره، مهما كانت منصفة أو منجزة.
وتقدم التجربة الشيعية أنموذجاً مثالياً لذلك، إذ إن حالة التمرد السياسي المتكرر، ورفض الانخراط في مؤسسات السلطة، أو التمرد على المرجعيات نفسها في فترات معينة، لم تكن فقط فعلًا سياسيًا، بل ناتجة عن تصور متجذر عن دين تاريخي لم يسدده أحد، وأن العدل لن يتحقق إلا بظهور المهدي، ما يجعل أي مكسب مرحلي غير كافٍ نفسياً وإن كان مرضياً سياسياً في بعض الأحيان بشكل مرحلي.
هذا الشعور بالغبن المتراكم يخلق حالة دائمة من عدم الرضا، وربما يفسر لماذا تستمر بعض الأقليات في المطالبة بامتيازات رغم تحقيق مكاسب كبرى، لأنها مكاسب جزئية في ميزان الظلم التاريخي الذي لا يُعالج بالسياسات فقط، بل بحاجة إلى اعتراف رمزيّ، وتكفير أخلاقي.
ثالثًا: السرية والانغلاق على الهوية
حين تخشى الجماعة على ذاتها من الذوبان، تنكفئ على نفسها. وتبدأ في بناء سردية موازية للأغلبية، وقد تخالفها أحيانًا حتى كنوع من النكايةً والتمايز الهوياتي، ويشرح فروم في كتابه “الخوف من الحرية” كيف أن الجماعات المهددة غالبًا ما تختار الهروب من الحرية إلى الهوية الضيقة، لأنها تمنحها شعوراً بالأمان. وفي حال الجماعات المستضعفة، فإن هذا الاختيار يتجلى في رفض التماهي مع المحيط، وابتكار رموز ومعتقدات تعزز الاختلاف، كأداة للممانعة الداخلية.
مفهوم كالتقية في الفقه الشيعي على سبيل المثال، ليس مخرجًا فقهياً من الإيذاء والاستئصال فحسب؛ بل هو جزء من بناء نفسي خاص، أو كهف أيديولوجي يأوي إليه الشيعي للاحتفاظ بجوهره داخل قشرة توافق المحيط. ولعل هذا ما يفسر التوسع في هذا المفهوم عن الأصل المذكور في سورة آل عمران، والذي يأخذ به عموم المسلمين.
وحتى المخالفات الاعتقادية للمحيط السني، فقد تم تغليفها بوصفها تعبيراً عن “الحق المختلف”، ما أوجد مسافة نفسية مع الآخر، صارت بمرور الزمن جزءًا من العقيدة لا من السياسة فقط، وإلا فانقسام الأمة واختلافها تاريخياً بدأ كصراع سياسي لا اعتقادي، وأن تأسس هذا السياسي على أساس ديني وهو مفهوم “الأحقية بالخلافة” وهو منصب ديني آنذاك قبل أن يكون سياسياً.
ومشكلة هذه الخصوصية والانغلاق أو التمحور حول طقوس وشعائر وممارسات خاصة، أنه كما يعمل كحوصلة أو صدفة واقية؛ فإنه كثيراً ما يستعمل من قبل القوى المهيمنة أو السلطة؛ للتهييج ضد فئة المستضعفين، واتهامها بالشذوذ العقائدي أو الفكري، فيتم استئصالها بدعوى تهديد “عقيدة الأغلبية”، مما يؤدي إلى مزيد من العزلة، وتعميق خطاب المظلومية، والدوران في دائرة الانكفاء والتوجّس.
رابعاً: شراسة التمكين ومرارات الانتقام
يقول مالك بن نبي: “المقهور قد يُصبح قاهرًا حين يمتلك القوة، لكنه يظل أسيرًا لعقلية القهر القديمة”. فحين تتمكن الجماعات المستضعفة، لا تُمحى الذاكرة الجماعية للألم دفعة واحدة، بل تسعى أحيانًا إلى “ردّ الدين”، نقداً أو نسيئة على صورة سلوك انتقامي كاسح، فيتحوّل الضحية إلى جلاّد وهو أحد أعقد التحولات النفسية، إذ تتقمص حركة المستضعفين في هذه الحالة ثياب جلاديها، وتسلك مسالكهم معذورة بالحق الإلهي أو القومي أو الإنساني كما تظن، بينما هي تقلد جلاديها وتنتج ما روضوها عليه في مسالخهم، بحيث لم تألف إلا هذه الصورة.
وكثيراً ما لا يطال هذا “الثأر” الطغاة والمستكبرين أنفسهم بالضرورة؛ بقدر ما يصيب العامة والبسطاء ومن لا ذنب لهم، فلا يميّز الانتقام ـ الأعمى غالباً ـ بين الجلاد الحقيقي والضحايا الآخرين، وربما أخذ أبناء الحاضر البرآء بجريرة آباء الماضي الأشقياء؛ باعتبار هؤلاء امتداداً وراثياً لأولئك!
وهي عملية إفراغ لشحنة غيظ تاريخي راكمته عذابات الخصوم، تتمثل في حالة من الشراسة غير المبررة، لا تُترجم فقط إلى عنف جسدي، وإنما تظهر في العنف الرمزي واللغوي والثقافي.
وتظهر مرحلة ما بعد 2003 في العراق هذا التوتر بوضوح، فعقب سقوط النظام البعثي وتسلُّم المكونات الشيعية لمقاليد السلطة، لم يكن التحول هادئاً أو انتقالياً، بل استُدعيت سرديات الماضي، وتوظيفها للانتقام لا لبناء الدولة الجديدة، ونفس الأمر حدث في سوريا في دعم دول ومجموعات شيعية للنظام السوري تحت نفس العناوين، فلم يكن السلوك الشيعي في الحكم دائماً مجرد خيار سياسي، بل انعكاس سيكولوجي موروث من قرون التهميش.
خامسًا: صناعة الأمل وأبطال الميثولوجيا
تتسم سيكولوجية المستضعفين أيضًا بالحاجة الماسة لصناعة رموز بطولية ملهمة، فبينما تصنع الأمم المستقرة رموزًا واقعية، تميل الجماعات المهمشة إلى تخليق رموز أسطورية، بعضها تاريخي وبعضها منتظر. وهذا الأخير يمثل لجماعة المستضعفين؛ الأمل في المستقبل لكي تستطيع الاستمرار، وتحفظ التوازن النفسي في مواجهة الإحباط.
وفي الحالة الشيعية كما لجأت إلى المبالغات في الشعائر والتعبير عن الأحزان والمظلومية، فإنها كثيراً ما عمدت إلى الغلو في رموزها ومراجعها ورفعهم إلى مصاف أنصاف الآلهة على الطراز الميثولوجي اليوناني، وإضفاء صفات القداسة والتعظيم هذه في مقابل التحقير والإسقاط من الخصوم، بل واضطهادهم وملاحقتهم وقتلهم في كثير من الأحيان.
وساعد على هذا الغلو والتقديس في الحالة الشيعية؛ أن الفقه السياسي الشيعي تأسس على اعتبار أقرب لنظرية “الحق الإلهي الوراثي” باعتبار الأئمة أوصياء، والأمة مكلفة بولايتهم الدينية والسياسية، وهذا ضد نظرية الشورى الإسلامية التي تختار الخلفاء برأي جموع أهل الحل والعقد.
ولعل هذا ما يفسر ما ذكره بعض المفكرين من احتمال مسؤولية بني العباس عن اختلاق فكرة “غيبة الإمام”، بسبب إدراكهم لهذه البنية النفسية العميقة للشيعة. فرغم الخلاف حول مصداقية مولد محمد بن الحسن العسكري، وغيبته أو وفاته؛ وهو الإمام الثاني عشر في الأوصياء حسب اعتقاد الإمامية، فقد كان في تغييبه إخماداً تاماً لثورات الشيعة ومطالبتهم بحق الخلافة، فلا تُقام جمعة ولا جماعة ولا جهاد ولا دولة دون الإمام. ولهذا فلم يكن غريباً اهتمام الناصر لدين الله الخليفة العباسي -الذي ادعى التشيع- ببناء “قبو السرداب” في سامراء، ليصبح مقبرةً للثورة الشيعية نفسها، فتحولت من فعل ميداني هادر إلى حالة جمود تاريخي.
سادساً: طقوس الألم وتروس المقاومة
تشكل بقية الشعائر الخاصة (اللطميات، والتطبير، والزيارات الأربعينية…) ذاكرة سياسية حية، وسلوكاً رمزياً، يعزز الهوية ويمنع الذوبان في الآخر. ولم تكن العقلية الشيعية المؤسسة وكذاك عبر العصور غافلة عن ذلك، فلولا هذه الطقوس والشعائر لمُحي كل أثر لمظالم آل البيت وتضحياتهم، بل ربما حُرفت سيرتهم بحيث صاروا هم الظالمين المعتدين لا أصحاب الحق ودعاته، مما يعني اندثار الوجود الشيعي نفسه لارتباطه بهؤلاء الأئمة وتلك المفاهيم!
وهذا الخوف من الفناء ليس مادياً فقط، وإنما هو خوف من الذوبان وضياع الهوية، ولعل هذا ما يفسر عدم قدرة أحد من المراجع -قديماً وحديثاً- على إيقاف بعض تلك الممارسات رغم رفضهم لها من منطلق شرعي وتحريمهم لها، وعلى رأسهم أحد أبرز المرجعيات الشيعية في القرن المنصرم على الإطلاق؛ وهو آية الله البروجردي، ومن وافقوه على ذلك لاحقاً كالمرشد الخامنئي والشيخ الوائلي خطيب المنبر الحسيني والحيدري وغيرهم.
خاتمة: بين النكبة والبعث
حين نحاول فهم سيكولوجيا المستضعفين، فإننا لا نبحث عن تبرير لممارسات الضحية ولا تبرئة لجرائم الجلاد، بل نحاول فهم الاشتراطات النفسية والسوسيولوجية والسياسية التي تصنع السلوك الجمعي للمستضعفين، كمزيج من الذاكرة الجريحة، والهوية الدفاعية، والخوف من الذوبان، وتحوّل الأقليات أحياناً إلى قوى فاعلة كبرى، تشكلت عبر الاضطهاد والرغبة في البقاء، سواء في لحظة الانتظار أو لحظة الانفجار.
فالطغيان لا يسحق ضحاياه فقط، بل يصنع جيوش أعدائه ويدق مسامير نعشه الأخيرة، بكل ما فيها من رموز، وما لها من تاريخ. ولذلك، فإن التعامل مع هذه المجموعات لا يكون فقط بالأمن أو السياسة، بل بفهم جذورها النفسية، وتفكيك سردياتها، لا بالقمع وإنما بإعادة دمجها واحتوائها ضمن تصور ديني أو وطني أو قومي جامع لا بمحاولة محو وجودها!
والعبرة هنا ليست في إصدار الأحكام عليها، بل في الفهم العميق لهذه البنية النفسية المركبة، التي تتكرر في كل زمان ومكان، من العبيد في روما، إلى الهنود الحمر في أمريكا، أو الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، أو الفلسطينيين تحت الاحتلال، كما تمثل التجربة الشيعية مثالاً حيّاً ومعقداً لهذا النمط، وجميع هؤلاء المستضعفين يصوغون أشكالاً مختلفة من هذه السيكولوجيا، كلٌّ وفق سياقه وتاريخه وخياره.