وصل علي لاريجاني، أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، إلى بيروت في 13 آب/أغسطس 2025، لكن على غير عادة المسؤولين الإيرانيين الذين اعتادوا في زمن ذروة “محور المقاومة” أن يجولوا في لبنان برًا وجوًا بحرية كاملة وثقة مطلقة. فهذه المرّة، وجد لاريجاني، أحد أبرز المخضرمين في السياسة الإيرانية، نفسه أمام مشوار طويل ومعقّد للوصول إلى العاصمة اللبنانية.
فبينما كانت الرحلات المباشرة من طهران إلى بيروت أمرًا عاديًا في السابق، لم تعد قائمة اليوم، كما أنّ المرور عبر الأجواء السورية بات محظورًا، ما اضطره إلى اتخاذ مسار طويل ومرهق للوصول. يضاف إلى ذلك أنّه، بخلاف ما يحدث في الماضي حين كان المسؤولون الإيرانيون يأتون ويغادرون وينجزون مهامهم دون الحاجة إلى مظاهر دعم، احتاج هذه المرة إلى استقبال جماهيري منظّم لإظهار أنّه لا يزال مرغوبًا به، خصوصًا بعد تسريبات سبقت الزيارة وأشارت إلى فتور في الرغبة باستقباله داخل بيروت.
صحيح أنّ الإيرانيين توقعوا شيئًا من الفتور، لكن ليس إلى هذا المستوى من الصدّ العلني. فوزير الخارجية اللبناني، المنتمي إلى حزب “القوات اللبنانية”، لم ينسّق موعدًا مسبقًا مع لاريجاني بسبب مواقفه المتشددة ضد طهران، غير أنّ الصدمة جاءت من رئيس الجمهورية الذي قاطع لاريجاني مرارًا في حديثه عن سلاح حزب الله، في إشارة واضحة إلى أنّ هذا الملف شأن لبناني لا مجال لإيران أن تكون طرفًا فيه.
أما الموقف الأكثر تشددًا فقد جاء من رئيس الحكومة نواف سلام، الذي وجّه خلال استقباله رسائل علنية إلى الوفد الإيراني، شدّد فيها على أنّ لبنان لن يقبل بأي شكل من الأشكال التدخل في شؤونه الداخلية، داعيًا طهران إلى التزام الوضوح في احترام هذه القاعدة. وأكد سلام أنّ تصريحات بعض المسؤولين الإيرانيين، مثل عباس عراقجي وعلي أكبر ولايتي، “مرفوضة شكلًا ومضمونًا” لأنها تمثّل خروجًا عن الأصول الدبلوماسية وانتهاكًا لمبدأ السيادة المتبادلة. وأضاف بلهجة مباشرة: “لبنان لا يحتاج إلى دروس من أحد، وقرارات الحكومة اللبنانية لا يسمح أن تكون موضع نقاش في أي دولة أخرى. مركز القرار في بيروت هو مجلس الوزراء، وقرار لبنان يصنعه اللبنانيون وحدهم الذين لا يقبلون وصاية أو إملاء من أحد”.
في المقابل لم يرضخ لاريجاني، وكان له موقف واضح وصل إلى الإعلام: فبعد لقاءاته، وجّه رسالة مفادها أن إيران تحترم سيادة لبنان ولن تتدخل في شؤونه الداخلية، محمّلًا الولايات المتحدة مسؤولية فرض جدول نزع سلاح حزب الله. وقال: “أمريكا وحدها هي من أتت بهذه الخطة، ونحن نقول للبنانيين: أنتم أسياد قراركم”. وأكد أن أي قرار يتخذه لبنان بالتوافق الداخلي ستلتزم طهران باحترامه بالكامل. كما شدد على أن “المقاومة رأس مال للبنان وللعالم الإسلامي”، داعيًا اللبنانيين في الداخل إلى “الحفاظ على المقاومة وتقديرها عاليًا”.
هذا الموقف الإيراني سبقه وتبعه مواقف أعلى سقفًا من قيادة حزب الله، سواء من الأمين العام الشيخ نعيم قاسم أو من رئيس كتلة “الوفاء للمقاومة” البرلمانية، الذي اعتبر أن التخلي عن السلاح يعني الانتحار، قائلًا: “أن تقول سلّم سلاحك يعني أن تقول سلّم شرفك”. وعلى الخط نفسه، رأى الشيخ نعيم أن “لبنان لن يكون له حياة” إذا مضت الحكومة في اتجاه نزع سلاح الحزب، معلنًا استعداد الحزب لـ “معركة كربلائية” إذا لزم الأمر، وهو ما قوبل برفض من رئيس الحكومة الذي وصف هذه التصريحات بأنها “تهديد مبطن بالحرب الأهلية”.
أما على الصعيد العملي، فقد أثارت حادثة وادي زبقين، التي سقط فيها ستة من جنود الجيش اللبناني أثناء تفكيكهم مخزن للسلاح تابع لحزب الله، كثيرًا من علامات الاستفهام. فقد جاءت مباشرة عقب قرارات الحكومة، واعتُبرت بمثابة رسالة مبطنة من حزب الله إلى الجيش في حال قرر المضي في خيار سحب السلاح بالقوة، خاصة وأن توقيتها جاء مباشرة بعد إعلان الحكومة، وكانت سابقة من نوعها. وحتى الآن، لم تكشف التحقيقات الرسمية الرواية الحقيقية للحادثة أو الجهة المسؤولة عنها.
بالمقابل، وصل الموفدَان الأمريكيَّان توم برّاك ومورغان أورتاغوس في 18 أغسطس إلى بيروت للتشديد على الموقف الأمريكي، في مشهد يتزامن مع خطوات مماثلة في العراق لإنهاء وجود السلاح خارج الأطر الرسمية، أي إنهاء حالة الحشد الشعبي هناك.
الواضح أن المشهد في لبنان اليوم يتمحور حول سعي أمريكي ورسمي لبناني لنزع سلاح حزب الله، يقابله رفض تام من الحزب لأي خطوة في هذا الاتجاه. وفي حين أن رئيس الجمهورية لم يقطع تواصله مع حزب الله يومًا، وسعى إلى صيغة توافقية بخصوص نزع السلاح، إلا أن الضغط الدولي كان أكبر، كما أن موقف رئيس الحكومة جاء أكثر حدّة، ما دفع الأمور إلى اتجاه أكثر تشددًا مع سلاح الحزب.
وبذلك، تفرّقت المواقف في الداخل اللبناني، فيما تتساقط واحدة تلو الأخرى كل الحلول الوسطية التي طُرحت سابقًا: من وضع سلاح الحزب تحت إمرة الجيش اللبناني، إلى دمج السلاح أو المقاتلين داخل المؤسسة العسكرية، وصولًا إلى صياغة استراتيجية دفاع وطني شاملة. كلها طروحات سقطت تباعًا.
لكن في المقابل، يبدو أن حزب الله والدولة اللبنانية ضمنًا يرفضان الصدام المباشر. أحد أبرز المؤشرات هو استمرار مشاركة الحزب في الحكومة، والتشديد على القنوات الدبلوماسية الداخلية. كذلك، جاءت زيارة قائد الجيش العميد رودولف هيكل –المحسوب على رئيس الجمهورية– إلى رئيس مجلس النواب نبيه بري، قبيل الشروع في وضع خطة نزع السلاح، لتؤكد أن لا أحد يريد الذهاب إلى مواجهة مفتوحة، رغم أن المعطيات توحي بأن عملية النزع لن تكون سلسة بسبب الخلاف على الجوهر نفسه.
من هنا، فإن كل لحظة تمر تشهد محاولات حثيثة من الحزب والرئيس بري ورئيس الجمهورية وقيادة الجيش للبحث عن مخارج سلسة. فالحزب يهدف للتأجيل والرهان على الوقت، بانتظار متغيرات إقليمية ودولية قد تقلب موازين اللعبة. لذلك، يدفع حزب الله باتجاه البدء بملف السلاح الفلسطيني في لبنان بالتزامن مع المطالبة بخطوات عملية من إسرائيل، وبالتالي يكون الرفض في هذه الحالة إسرائيليًّا لا لبنانيًّا، كما يربط ضمنًا مصيره بمآلات العلاقات الأمريكية-الإيرانية، سلبًا أو إيجابًا، بين اتفاق يبدو بعيدًا وانفجار غير مستبعد.
في المقابل، ترى الولايات المتحدة أنها أصبحت أمام واقع مكشوف بالنسبة لإيران وحزب الله، ولن تقف مكتوفة الأيدي أمام المماطلة. ومن هنا لا يُستبعد لجوؤها إلى خطوات تصعيدية: اقتصادية، عسكرية، أو سياسية إن رأت في الخطوات اللبنانية تقاعسًا.
وعليه، تبقى الكرة في الملعب: البحث عن المخارج لا يزال قائمًا، لكن النوافذ تضيق تدريجيًّا. وربما يكون المخرج الذي يراهن عليه البعض هو انفجار خارجي يغني عن انفجار داخلي.