
تعيش الأمة الإسلامية اليوم مرحلة هي الأكثر هشاشة وتعقيداً فيما يمكن أن نسميه بـ “الترهل الحضاري”، حيث تتجلى أبرز علاماته في غياب مشروع جامع، وعجز الذات الجمعية عن التجدد، وفقدان القدرة على الاشتباك الفعال مع التحديات الوجودية والنهضوية بروح التجديد والمواجهة، وتنعكس هذه الأزمة في تفكك الهويات، وانهيار النظم السياسية، واستعصاء الحركات الإسلامية على التحول إلى قوى تغييرٍ مجتمعي شامل.
إنها مرحلة “الشيخوخة الحضارية” التي تستدعي قراءة معمقة لأسبابها، والتفتيش عن أداة النهوض التي تتجاوز المعالجات السطحية. ولعلّ أبرز ما تفتقر إليه الأمة في هذه المرحلة هو غياب الأيديولوجيا بوصفها العنصر الأخطر في الوعي الجمعي الإسلامي، لا كبديل للعقيدة، بل كجسر بين العقيدة والفعل، بين الفلسفة النظرية والتحول التاريخي، وبين الرؤية المستقبلية والتحرر.
ولا ترجع أسباب هذا العجز إلى غياب الإيمان، أو انهيار العقيدة، أو انعدام الطموح إلى النهضة بالضرورة، بل يعود إلى فراغ أيديولوجي حقيقي، إضافة إلى خلو المجال العام من تصور عملي مترابط، يفسّر الواقع ويوجّه الفعل ويجمع الناس على فكرة كلية، ويزيل الانفصال بين الفكر والحركة، ويمنع التنكب عن مواجهة الأسئلة المصيرية، وعلى رأسها: كيف نُحدث النقلة الكبرى؟
ولم يعد يكفي لتعويض هذا العجز؛ مجرد خطاب وعظي أو تنظير عقائدي، فنحن أمام أزمة شيخوخة حضارية تتمثل في تحجر الفاعلية وتكرار الخطاب وانعدام الدافع والحافز، ولعل أول خطوة للخروج من هذا المأزق تتمثل في العودة إلى السؤال الأيديولوجي، لا بوصفه رفاهية فكرية، بل كأداة مركزية لإعادة بناء الفعل التاريخي الجمعي.
أولاً: العقيدة والأيديولوجيا
يظن كثير من الإسلاميين أن الأيديولوجيا نقيضُ العقيدة أو انحراف عنها، بينما يثبت الواقع أن العقيدة ـ مهما بلغت من الصفاء ـ تحتاج إلى وسيط عمليٍّ تاريخيٍّ يُعبِّر عنها، ويُجسِّد مقاصدها في الواقع، ويتولى ترجمتها جماهيرياً إلى رؤية كلية تُجسد الارتباط العضوي بين الفهم والموقف، والتحليل والتطبيق، فتقدم خطاباً تعبوياً واعياً، وتمارس سلوكاً سياسياً ومجتمعياً متماسكاً، بغية تشكيل قوةٍ تغيير اجتماعي، وهذا ما تفتقر إليه غالبية الحركات الإسلامية المعاصرة، التي تحولت ـ في أكثر التجاربـ إلى أنوية مغلقة، تكرر مفرداتها الأولى دون تطوير أدواتها أو خطابها.
إن غياب الأيديولوجيا ـ لا العقيدة ـ هو الذي يفسر عجز الحركات الإسلامية عن بلورة مشروع مجتمعي متماسك، يجعل من الإسلام قاعدة اشتباك مع الواقع، لا مجرد مادة وعظية معزولة عنه، فقد تحول الإسلام بفعل غياب الأيديولوجيا إلى منظومة روحية وعظية معزولة عن مسارات التاريخ. فالعقيدة، وإن كانت مصدرا أساسيا للشرعية ومضمونا للإيمان، إلا أنها بحاجة إلى وعاء عملي، يترجمها إلى تصور شامل للعالم، وسلوك جماعي، وقدرة على التفاعل مع الواقع بوعي لا يعيد إنتاجه، بل يتجاوزه.
ثانياً: العبور من الفلسفة الاجتماعية إلى الحركية الأيديولوجية
تبدأ التحولات التاريخية الكبرى من تساؤلات فلسفية عميقة، تسخر أدوات الفكر لتفكيك الواقع، وتسلط عليه أدوات الاستفهام؛ حول الإنسان والمجتمع والمصير والسلطة، وتشير دراسات مثل “الأيديولوجيا الانقلابية” لنديم البيطار إلى أن التحولات الكبرى في التاريخ لم تكن تبدأ من برامج حزبية أو ردود أفعال، بل من فلسفات اجتماعية جديدة تطرح تساؤلات وجودية كبرى حول هوية الإنسان، وطبيعة المجتمع، وحدود النظام القائم، وهذه المرحلة أي “تبلور الفلسفة الاجتماعية” هي التي تنشأ فيها فكرة المشروع، ويُعاد فيها النظر إلى الواقع، لا كإطار معرفي فقط بل كنواة لفعل تغييري.
لكن هذه الفلسفات لا تكفي وحدها لدفع حركة الجماهير وصناعة التغيير، فقد لا يدرك تعقيداتها الفكرية وجوهرها التغييري إلا النخبة؛ ولذلك لابد أن تتحول إلى أيديولوجيا جماهيرية أو شعبية تعبّر عن تلك التساؤلات بلغة وجدانية تبسيطية، وتُعيد صياغتها في شعارات، وتُحمّلها طاقة وجدانية قادرة على التعبئة وحشد الجماهير حول فكرة كلية تتجاوز التناقضات، وتُنتج طاقات هائلة من الفاعلية التاريخية، بحيث يصح التعبير عنها باسم “الأيديولوجيا الانقلابية”، وهذا ما نفتقده اليوم: غياب المرحلة الوسيطة بين التحليل المعرفي والحركة الجماهيرية.
ثالثاً: ملامح الأيديولوجيا الانقلابية المطلوبة
تمرّ كل أيديولوجيا انقلابية بثلاثة أطوار: تبدأ بفلسفة اجتماعية تُسائل النظام القائم أسئلة وجودية، ثم تتحول إلى أيديولوجيا حركية، وأخيراً تتحجر في صورة “لاهوت سياسي” يمنع النقد ويكرّس الجمود.
دور هذه الفلسفة هو رفض حالة الموات والركود للواقع المقيت، والعمل على إحياء الأمة من خلال بعث أيديولوجي جديد يتفاعل مع روحها ويلبي تطلعاتها، وهذا البعث لا يعني استيراد أيديولوجيات وتصورات غربية منهكة، ولا اجترار مقولات قومية أو ليبرالية مستهلكة، أو الركود عند قوالب أو صورسياسية قديمة، بل إنتاج رؤية انقلابية إسلامية أصيلة، وتحقيق درجة عالية من الوعي بطبيعتها ومآلاتها بحيث تكون:
- تستند إلى الوحي وأصول العقيدة الإسلامية.
- مرتبطة بواقع الأمة ومعضلاتها الحديثة.
- قادرة على التبسيط دون ابتذال.
- تواجه الواقع بلغته وهمومه بتفكيكه وإعادة بنائه من منظور مبدئي واستراتيجي.
- تمتلك خطابًا شموليًا يعالج الأسئلة الحرجة المتعلقة بالحكم والشرعية، والهوية، والموقف من الدولة القُطرية، وشكل النظام الاقتصادي الإسلامي، والعلاقات الدولية، والتعامل مع الغرب، والعدو الوجودي الأول، وهل العنف ضرورة تكتيكية أم فكر مبدئي، وضعية الأقليات، ودور المرأة في مجتمع التغيير.
وليس المقصود هو تصنيف هذه القضايا اعتقادياً ولا معالجتها فقهياً فهذه قضايا محسومة من حيث الأصل؛ وإنما تكييفها واقعياً في ضوء هذه الثوابت ذاتها.
ومن طبيعة الأيديولوجيا الانقلابية المنشودة؛ أن تكون قادرة على تقديم إجابات شاملة مُبَسّطة مُقنِعة، ورسم خارطة طريق لا على مستوى البرمجة الفنية، ولكن بما يناسب مستوى الفهم الشعبي والانطباع الجمعي كذلك. وبينما تقوم الفلسفة الاجتماعية ببلورة الصياغات النظرية المثالية، تقدم الأيديولوجيا الانقلابية “خطاب التعبئة” الذي يربط الماضي بالحاضر بينما هو يصنع المستقبل، كما أن المقصود بكونها “انقلابية” هنا ليست الفوضى أو الانفعال، بل الرغبة الواعية الجادة في التغيير الجذري للواقع المهترئ.
رابعاً: الجمود الأيديولوجي والفكري أخطر من الهزيمة
في واقعنا المعاصر فشلت عدة مشاريع للتغيير لأنها افتقدت هذا الإطار الجامع، فالحركات التي لا تملك رؤية كلية، تسقط في فخ التنظيم كغاية، أو تتحول إلى ورطة بدون مشروع ولا رؤية حقيقية، ولا تجيب عن الأسئلة الكبرى، وهذا يفسر التناقض الظاهر في كثير من الحركات الإسلامية المعاصرة التي تُمارس العمل السياسي دون امتلاك تصورٍ واضحٍ للدولة، وتخوض معارك إعلامية دون سرديةٍ مُقنِعة.
إن التكلس الأيديولوجي ليس مجرد جمود فكري، بل هو سبب رئيسي في انكفاء الحركات الإسلامية، وتحولها إلى ردود أفعال أو طقوس اجتماعية، ومع غياب المشروع، يتمدد “الحاضر” بوصفه مركز الثقل، ويتراجع الحلم المستقبلي إلى هامش الرؤية.
وحين تفقد الأيديولوجيا فاعليتها وتتخلى عن ديناميكيتها وتساؤلاتها الحية؛ أو تخون واقعيتها لتغرق في الترف النظري، وتغدو عقيدة مغلقة تمنع الأسئلة وتُحرّم النقد، حينئذٍ تتوقف حركة التاريخ عند نقطة الجمود. وذلك حين تنفصل الفكرة عن الواقع، وتنكفئ القوى المنوط بها التغيير على ذاتها، ويغيب المشروع الجامع الكبير، وتُختزل الحركة الإسلامية إلى هويات محلية أو انتماءات تنظيمية، فتصير كيانا محافظا يسعى للبقاء لا للتغيير، ويُكرر شعارات الماضي دون حيوية.
إن الأيديولوجيا الانقلابية المنشودة هي وحدها القادرة على مواجهة هذا التكلس، فقط حين تكون أصيلة غير مستوردة، وعبر طرح بدائل كلية، والعمل على تثوير الجماهير لا النخبة فقط. كما أنها تؤسس للفعل السياسي والمجتمعي، وتُعيد رسم علاقة الفرد بالجماعة، والداخل بالخارج، والسلطة بالشرعية، وتعبئة الطاقات المجتمعية، وكسر احتكار الأنظمة للرؤية، وإعادة تعريف معنى الدولة، والشرعية، والعدالة.
خامساً: الشباب ركيزة في مشروع التحول
يعاني كثير من الشباب المسلم من القطيعة بين الإيمان والفعل، بين الشعور بالانتماء الحضاري والإحساس بالعجز العملي. ودور الأيديولوجيا الانقلابية أن تقدم لهؤلاء الشباب إجابة عملية ووجدانية، فليسوا مطالبين بأن يكونوا فقهاء أو مفكرين أو على مستوى إيماني وديني معين، بل أن ينخرطوا بصفتهم “مسلمين” فقط؛ في مشروع تحرري متكامل، يجمع بين المعنى والجدوى، وبين الرسالة والحركة.
ولذلك، فإن إعادة بناء الوعي الأيديولوجي تتطلب خطابًا جديدًا، يقدّم الإجابات لا الأعذار، ويخاطب أعماق الأزمة لا ظواهرها، ويعيد تعريف الانتماء للأمة لا عبر الدم أو اللغة، بل عبر الرؤية والرسالة.
سادساً: التجاوز الحضاري يبدأ من تجاوز الحاضر
إن كل أيديولوجيا انقلابية تبدأ من رفض الحاضر لا من التنظير له، بمعنى نقض الحاضر باسم الممكن، فلا يمكن إحداث تحول حقيقي دون وعي بأن الواقع الراهن ـ بكل ما فيه من أنظمة وتصورات ـ يمثل جوهر الانحطاط، وأن تجاوزه ضرورة لا ترف.
وإن مشروع التحرر الإسلامي بحاجة إلى ما هو أعمق من ردود الأفعال، إنه إعادة توزيع للزمن السياسي والفكري والاجتماعي، عبر حشد المجتمع حول فلسفة اجتماعية تحليلية واعية، تترجمها وتعبر عنها أيديولوجيا انقلابية تُبسط المفاهيم، وتطلق الشعارات، وتعيد تشكيل الولاء الجمعي حول فكرة تستحق التضحية كأن تكون وعدا تاريخيا جديدا.
سابعاً: العنف في المشروع الأيديولوجي، بين الحاجة والانزلاق
لا توجد أيديولوجيا انقلابية دون اشتباك مع السلطة القائمة، لكن الاشتباك لا يعني العنف دائماً. والفرق كبير جداً بين الحاجة إلى ممارسة العنف والانزلاق في مخاضته، فالعنف ليس قيمة في ذاته، بل هو أداة تُستخدم حين يختل التوازن، وتُغلق أبواب الإصلاح، وتتحول الدولة إلى أداة لقهر جموع الناس والصدّ عن سبيل الله.
فالأيديولوجيا الانقلابية لا تنكر الصراع، لكنها تُعيد تعريفه ضمن شروط مبدئية، لا ضمن فوضى الدم أو فقه الانتحار. وبينما يغيب هذا التوازن عند بعض الحركات الارتجالية، فإن المشروع الإسلامي بحاجة إلى صياغة واضحة لموقفه من حيث: طبيعة العنف المشروع، وحدود التمرد، وأدوات الردع، وشرعية المواجهة. وتبرز الحاجة إلى خطاب يُعيد تصحيح الانحرافات دون تفريغ المشروع من محتواه الصدامي والرافض للهيمنة، ويحقق بذلك ما يسميه البيطار: “التمرد المنتج”، لا التمرد العدمي.
ويبدو أن أحد أخطر المزالق الفكرية عند بعض المشاريع الإسلامية هو الحدية المهلكة، بين تقديس العنف عند البعض وتجريمه عند آخرين، بدلاً من تحليله وتوجيهه. فالمطلوب هو إدماج “فقه الاشتباك” في المشروع العام لا أن يصير هو مشروعاً مستقلاً بذاته، دون أن يُفسد القيم أو يُسقط الأخلاق أو يُهدر الطاقات.
ثامناً: معادلات جديدة في المواجهة مع العدو
تكشف تجارب الواقع ـ لا سيما في فلسطين واليمن والعراق ـ أن القوة الفاعلة لم تعد حكراً على الدولة، بل صارت الأيديولوجيا هي المحرّك الأكبر للقوة، بمعنى أننا قد دخلنا بالفعل إلى مرحلة “ما بعد الدولة” من حيث جدوى التحليل السياسي التقليدي، وصرنا بحاجة ماسة إلى أيديولوجيا تتجاوز منطق التنظيم الهرمي، وتؤسس لعمل مقاوم متعدد المستويات، عابر للحدود، قادر على إنتاج الفعل لا فقط إدارته.
والدرس الأهم المستفاد؛ هو أن الأيديولوجيا وحدها هي التي تدفع الأفراد إلى التضحية دون مكاسب مباشرة، وتحوّل المشاريع المحدودة إلى ظواهر تاريخية ممتدة، وتفتح إمكانات الاختراق في منظومات مغلقة. إنها مصدر القوة الرمزية التي تسبق القوة المادية.
خاتمة: الأمة من الشيخوخة إلى البعث الجديد
إن علاج شيخوخة الأمة لا يكون بالتنظير المجرد، ولا برامج تقنية أو مواعظ أخلاقية، بقدر ما يحتاج إلى وعي جمعي يؤدي إلى بعث أيديولوجي جديد، يرتكز على فلسفة اجتماعية تحليلية، تستوعب روح الدين وجوهر العقيدة، دون جمود عند الأطر التقليدية أو تهرب من أسئلة العصر، بحيث تتمخض عن مشروع تعبوي جماعي، يربط بين العقيدة والعمل، وبين التساؤل والرؤية، وبين الجمود والحركة. فالتاريخ لا تصنعه الانفعالات، أو انتفاضات الغضب غير الموجهة، بل تصنعه المشاريع الكبرى، القادرة على تحويل التساؤلات إلى أفعال، والوعي إلى مسار.
وهذا المشروع لا يولد من الصدفة، بل من وعي نقدي بأزمة الواقع، وشجاعة معرفية لتفكيكه، وإرادة تنظيمية لتغييره، وليس ثمة ما يمنع الأمة من بعث جديد، إلا غياب هذا المشروع.
إنه زمن البعث الأيديولوجي، لا من خلال تنظير مثالي، بل من خلال إنتاج مشروع يعبر عن روح الإسلام في قوالب لغوية ومعرفية واجتماعية تعيد للأمة موقعها ووزنها. فالأيديولوجيا ليست بديلاً عن العقيدة، بل هي جسر العبور منها إلى الفعل التاريخي، وحين تكون انقلابية، فإنها لا تساوم على المبادئ، لكنها تُحسن المناورة بها في ساحة الاشتباك السياسي والمعرفي والرمزي.