تبكيت الأمة أم البحث عن حلول؟
تكشف النوازل الكبرى عن حقيقة الواقع دون رتوش، فتُختبر التصورات والأفكار عمليًّا، وتظهر مدى صلابة الحلفاء والأصدقاء، ويتضح الفارق بين الوعود المعسولة والجدية في الدعم والإسناد. فالمبالغات الكلامية لا تغني في وقت النزال، وقد كان خالد بن الأعلم الخزاعي أول من فر من المشركين في غزوة بدر بينما ردَّدَ قبلها: فلسنا على أعقابنا تدمى كلومنا.. ولكن على أقدامنا تقطر الدما.
فمع طول أمد الحرب على غزة، واتساع نطاق المجازر في محصلة هي الأكبر من نوعها في تاريخ الصراع مع العدو الصهيوني، وبالتزامن مع انبطاح عربي رسمي، ورد فعل شعبي دون مستوى الأحداث، بدأت تتصاعد الأصوات التي تنعي الأمة الإسلامية، وتنوح على ضعف تفاعلها، وتشدد على أنَّ الرهان عليها خاطئ، وصولًا في بعض الحالات إلى توجيه السباب ضمن رد فعل عاطفي ونفسي يضر أكثر مما ينفع، والأهم أنَّه لا يغير من الواقع شيئًا.
فعند ظهور أزمة، لا بُدَّ أن يتعامل معها المنتصبون للشأن العام بعقل بارد رغم نزيف الدماء، وذلك لرفع الواقع بشكل دقيق بعيدًا عن الأماني، ولتحليل جذورها، والبحث عن حلول لها، فالبكاء على اللبن المسكوب لن يجدي، ومواصلة إهراقه ستعمق المشكلة دون حلها.
الواقع يختبر التصورات
إنَّ حصيلة لقاءات وندوات خلال السنوات الماضية مع رموز فلسطينيين تطرقوا فيها إلى قراءتهم للواقع العربي خلاصتها حسب رؤيتهم هي أنَّ فلسطين القضية الأولى، وأنَّ من المهم تصفير المشكلات مع الأنظمة العربية قدر الإمكان، وبالأخص في دول الجوار، فضلًا عن أهمية إعادة بناء العلاقة مع نظام الأسد لإسناد المقاومة الفلسطينية انطلاقًا من الساحة السورية، وأنَّ العديد من تلك الأنظمة مستبدة لكنها وطنية تهدف لما فيه صالح بلادها، مع إشارات ضمنية بأنَّ الرهان على الشعوب أثبت عدم جدواه على وقع نتائج ثورات الربيع العربي وما تلاها من ثورات مضادة.
جاء طوفان الأقصى ليختبر التصورات سالفة الذكر، فلم يحرك نظام الأسد ساكنًا، وأنى له أن يتحرك، وهو الذي تلقى مئات الضربات الإسرائيلية خلال الأعوام الماضية دون أن يرد عن نفسه، فضلًا عن إدراكه بأنَّ كلفة الاشتباك مع إسرائيل تعني تقويض بقايا حكمه، وربما تكلفه رأسه ذاته بعد أن أمعن في التنكيل بشعبه.
أما أغلب الأنظمة العربية الأخرى، وبالأخص في دول الجوار، فعلاقتهم مع إسرائيل عميقة، وعدوهم واحد. فقد أثبتت حقبة الربيع العربي لهم أنَّ الشعوب هي الخطر الأول على كراسيهم، وفي القلب منها الإسلاميون. ولذا تحولت علاقتهم بإسرائيل إلى شراكة استراتيجية عنوانها وحدة المصير، فسقوط أنظمة الاستبداد يعني تحرر الشعوب وبروز مخاطر وجودية على المشروع الصهيوني، كما أنَّ اهتزاز مكانة إسرائيل على يد المقاومة الفلسطينية، يجرئ الشعوب ويقنعها بأنَّه لا يوجد مستحيل، وبالتالي ستحدث يقظة جماهيرية تهدد استمرارية أنظمة الجور التي تعتمد في بقائها على أجهزتها الأمنية والجيوش والدعم الخارجي؛ لا على القبول الشعبي وحب المواطنين.
أما الدول الإسلامية التي لديها أنظمة حكم أكثر استقلالية، فقد شاهدت الحشود العسكرية الأمريكية والغربية في المنطقة، واستمعت بعناية لتحذيرات بايدن التي كررها ثلاثًا “لا تتدخلوا، لا تتدخلوا، لا تتدخلوا”. بل إنَّ طهران التي هدد وزير خارجيتها مرارًا بتوسيع نطاق الصراع إقليميًّا في حال استمرار العدوان، فقد ضغطت بنفسها على الفصائل العراقية الموالية لها لوقف الهجمات على القواعد الأمريكية في سوريا والعراق، بعد أن تسبب هجوم شنته في الأردن بمقتل ثلاثة جنود أمريكيين وإصابة العشرات، مما جلب رد فعل أمريكي عسكري رافقته تحذيرات بأنَّ أهداف داخل إيران ستطالها الموجات اللاحقة من الغارات ما لم تضبط طهران وكلائها.
الأمة المنهكة
هنا تبقى الدور المنتظر من الأمة بامتداداتها، ومن التنظيمات والجماعات التي أحدثت ضجيجًا لعقود، لكن الصمت سيطر على المشهد. وهو غياب له أسبابه التي تحتاج لدراسة وعلاج، أكثر من احتياجه لتأنيب وتبكيت، وإن كان مستحقًا. فالعقدان الماضيان شهدا حروبًا وصراعات طاحنة، استشهد فيها على الأقل مئات الآلاف من الكوادر الفاعلة، فضلًا عن أعداد كبيرة من القيادات الوازنة، واعتُقل أضعافهم، بينما تعرضت مناطق بأكملها لتهجير وتغيير ديموغرافي، وصار المتبقون مطاردين وشراذم أفلتت من المطحنة.
ففي سوريا وحدها، سقط مليون قتيل، ونزح اثنا عشر مليون مهجر، بينما في مصر 60 ألف معتقل على الأقل فضلًا عن بضعة آلاف من الشهداء، بينما السودان غارق لأذنيه في حرب الجيش والدعم السريع، واليمن فقد نحو 300 ألف ضحية، وتعاني مناطق بأكملها فيه الحصار والجوع، كما يقبع جمع غفير من الدعاة والمصلحين في سجون جزيرة العرب، والعراق تعرض لحصار ثُمَّ غزو أمريكي ضمن تحالف غربي أسفر عن سيطرة مكونات طائفية على الحكم بدعم من المحتل، وتحول البلد ذات الحضارة العريقة إلى دولة مليشياوية تتصارع فيها الفصائل المسلحة على السلطة بواجهات سياسية.
الشاهد هنا، أنَّ إيران لن تخاطر من أجل فلسطين بفقد ما حققته خلال العقود الأخيرة في المنطقة من نفوذ، ولا النظام السوري سيخاطر بوجوده، ولا فصائل المعارضة السورية ستستدير تاركة جبهاتها لتجعل معركتها مع المحتل الصهيوني، ولا الجيش السوداني سيترك معارك الخرطوم وبحري وأم درمان ليناوش الاحتلال في البحر الأحمر، ولا الأنظمة العربية المطبعة ستفك شراكتها مع تل أبيب كي توقف المذبحة.
قاطرة الرهان
نستخلص مما سبق، أن الرهان المستقبلي المتاح، وربما الوحيد، هو على الأجيال الشابة من الأمة، والتي تعاني حاليا من التغييب والنشأة في بيئة تعرضت لتجريف كامل، وهو ما يتطلب من مؤسسات الخارج في فصائل المقاومة فتح مسارات عمل متوازية، تعاد فيها رسم دوائر الأصدقاء والحلفاء بواقعية بعيدًا عن التصورات الحالمة، والإقدام على فتح مساحات جديدة لاستيعاب الشباب الراغب في الفعل والمشاركة، ولتوجيه جهود الراغبين في نصرة فلسطين ضمن تيارات قابلة للتدفق عبر تجميع القطرات في مسارات موجهة بدلًا من تركها تتبخر سدى أو تسير بشكل عشوائي على غير هدى.
إنَّ تقسيم مسارات العمل إلى ملفات مطلوب ومهم، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
- ملف للعلاقات، يبتعد عن الاستغراق في الأنشطة الشكلية، ولا يُستنزف في علاقات غير منتجة مع جهات مشلولة أو لا تملك قرارها. فتُبني شراكات مع الجهات الجادة ضمن مشاريع محددة ومتنوعة من الاقتصاد إلى اللوجستيات، ومن السياسة إلى العسكرة، حيث تُوضع لها أهداف وميزانيات وبرامج، وتُراجع دوريًّا لإيقاف غير المثمر منها، والضخ في الفاعل حتى لو كان صغيرًا، فالصغير يمكن أن يكبر ما دام يقف خلفه من لديهم الإرادة والمثابرة ورجاحة العقل.
- ملف رعاية الموهوبين، لانتقاء وتفعيل أصحاب المهارات النوعية، مع تحديد العقبات والتحديات المطلوب منهم التغلب عليها لسد الثغرات، وربطهم بالمسارات التي يمكنهم الإفادة فيها.
- ملف تربوي، تُحصر فيه المشاريع التربوية الناجحة الممكن التعاون معها، وتُدعم بأوجه الدعم المختلفة، لإيقاظ الجماهير من الغفلة، وتشجيعها على البذل والتضحية ورجاء الآخرة، وتخاطب الأمة بلغات متعددة، مع ربط المتفاعلين والمستجيبين بمسارات العمل المناسبة لهم.
- ملف إعلامي يركز على وسائل التواصل الاجتماعي، وتفعيل الوصلات مع المؤسسات الإعلامية وذوي التأثير، للتركيز على القضايا ذات أولوية، وتوجيه الشارع، وتصدير رموز منتقاة في المجالات محل الاهتمام. فمجتمعاتنا تتأثر في أغلبها بالرموز الملهمة أكثر من تأثرها بالعمل المؤسسي.
قد يجادل البعض بأنَّ تلك الأمثلة غير آنية، وتحتاج وقتًا لجني ثمارها، وهذا صحيح لكنها ضرورية، فالمعركة طويلة، وتتطلب استراتيجيات مناسبة تؤهل لمراكمة الانتصارات في الجولات القادمة عبر الرهان على أطراف راغبة في العمل، دون الاكتفاء بالمراهنة على جهات لديها حسابات سياسية معقدة تراعي مصالحها، مع مراعاة الاستفادة بالطبع من التقاطعات المتاحة وتعزيزها لكن دون الركون لها والاعتماد عليها بشكل رئيسي.
وللعمل على ما سبق، من الضروري الابتعاد عن الرموز المزيفة التي تهوى الصدارة واللقطات الإعلامية دون بذل حقيقي، والتنقيب عن الأفراد الراغبين في العمل للقضية لا التكسب منها، فمن أبرز العوائق في الحقبة الحاليَّة بذل الوقت مع شخصيات شهيرة لكنها فارغة أو قرارها ليس بيدها، وتتحكم بها جهات حريصة على مواصلة المراوحة في المكان، مع إطلاق مشاريع كل فترة تهدف فقط لاحتواء الواقع والتحكم في خيوطه.