المائدة السورية
حاول نظام الأسد أن يأكل من جميع الموائد، لكنه أصبح الآن مائدة يأكل منها الجميع.
في 27 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، انطلقت معركة ردع العدوان لتخرق دفاعات الأسد في ريف حلب الغربي، وفي مشهد شبيه بسقوط قطع الدومينو، انهار جيش الأسد، وسيطر الثوار على حلب وحماة وحمص وصولا إلى دمشق، لتتغير خريطة السيطرة في سوريا جذريًّا.
تركيا تدفع بالجيش الوطني
بدأ التدخل التركي في سوريا تزامنًا مع التدخل الروسي والأمريكي، وحدث من خلال عدة عمليات عسكرية واسعة بدأت منذ 2016، كانت إحداها ضد تنظيم الدولة، والبقية لطرد ميليشيات قسد من شمال سوريا، ما عدا الحملة الأخيرة التي حافظت فيها على منطقة إدلب ومنعت سقوطها تحت سيطرة الأسد وروسيا سنة 2020.
وخلال هذا التدخل شكلت تركيا الجيش الوطني سنة 2018، وهي مجموعات من أربعين فصيلًا سوريًّا مسلحًا، تندرج شكليًّا تحت وزارة الدفاع في الحكومة المؤقتة، لكنها لم تحقق اندماجًا حقيقيًّا، وبقيت تفتقد للتنظيم والانضباط والفاعلية، ولعل تركيا أرادت من هذا الكيان: إضفاء الشرعية على وجودها العسكري في سوريا، وإمساك ورقة المعارضة السورية في يدها.
لم تكن تركيا متأكدة من نجاح عملية “ردع العدوان”، وهذا ما جعل فصائل الجيش الوطني تبقى متفرجة بداية الأمر، لكن عندما استيقنت من انهيار جيش الأسد في حلب؛ شكل الجيش الوطني غرفة عمليات “فجر الحرية”، وخرج من مدينة الباب باتجاه الريف الشرقي والجنوبي لحلب، وسيطر على عدة نقاط عسكرية من بينها مطار كويرس العسكري.
ولأنَّ هذه الفصائل نشأت لتكون رديفًا للجيش التركي؛ يتوقع أن تكون وجهتها الأساس مناطق قسد، فاليوم بدأت معركة منبج، وليست إلا مسألة وقت لتسيطر على عين العرب (كوباني) فتوصل مناطقها في تل أبيض بالباب، وقد يصل الأمر إلى أبعد من هذا، إلى القامشلي، إذا وجدت تركيا الظروف السياسية مناسبة لذلك.
درعا؛ الذراع الخفية لإدارة العمليات المركزية
انسحبت قوات الأسد من مدن الجنوب السوري منذ انطلاق الثورة أواخر سنة 2011، لكن الأسد استطاع استردادها بعد سبع سنوات بفضل مساندة القوات الروسية والميليشيا الإيرانية، ولأنَّ هذه المنطقة قريبة من الحدود الإسرائيلية والأردن؛ فقد شجعت روسيا السكان ومقاتلي المعارضة على البقاء ضمن الفيلق الخامس، وكان ذلك خوفًا من تهجير سكان الجنوب السُّنة واستبدالهم من قبل إيران بمكونات شيعية، وضغط الأردن بهذا الاتجاه أيضًا.
سمح هذا الوضع للعديد من الثوار والمكونات المعارضة بالبقاء في الجنوب والحفاظ على وجودهم، ويظهر أنَّ هيئة تحرير الشام استثمرت هذه الظروف لبناء شبكاتها في الجنوب حتى يحين الوقت المناسب.
وهذا ما يفسر المشهد الذي رأيناه قبل يومين، حيث كشفت إدارة العمليات العسكرية عن وجودها في درعا، وأمرت شبكاتها الأمنية بالظهور والاشتباك مع قوات الأسد، ومع فورة أهل درعا الذين ما زالت الروح الثورية متصلة بهم، استطاع الثوار أن يطردوا النظام من المحافظة، ثم دخلوا دمشق من جهتها الجنوبية بعد سيطرتهم على مدينة الصنمين.
لكن الحراك في درعا تشوبه بعض الشوائب؛ إذ يوجه الأردن الفصائل التي أبقت على الاتصال معه حتى مع وجودها في الفيلق الخامس الروسي، ولعل هذه الفصائل -بتشكيل غرفة “عمليات الجنوب”- ستحاول الآن ملء الفراغ الذي أحدثه انهيار جيش الأسد، وقد تكون منافسًا قويًّا وخصمًا شرسًا لإدارة العمليات العسكرية، باعتبار أنَّ الأردن لا يفضل وجود الفصائل الإسلامية على حدوده.
قوات التَّنف تأخذ موقعها على المائدة.
تدخل منطقة التَّنف ضمن نفوذ التحالف الدولي؛ وهي عبارة عن قاعدة عسكرية ضخمة في البادية السورية على الحدود العراقية، أنشأتها الولايات المتحدة سنة 2015 بهدف مكافحة تنظيم الدولة وعرقلة النفوذ الإيراني والروسي في البادية، وتضم القاعدة بعض فصائل الجيش الحر التي كانت نشطة في البادية السورية، لكنها بقيت ما يقرب من خمس سنوات تعمل تحت حماية الجيش الأمريكي، حتى تحركت الآن ولا نعلم هل كان ذلك بأوامر أمريكية أم بمجرد ضوء أخضر.
شكلت هذه القوات غرفة عمليات “جيش سوريا الحرة“، وبدأت بالزحف على المدن والمواقع المهمة في البادية السورية بعد أن أخلاها الأسد، ولعلها مسألة وقت فقط وتُخضع كل محافظة تدمر، وتصل إلى أرياف دير الزور وأرياف حمص، حيث تقع بعض أهم حقول الغاز ومناجم الفوسفات.
خلاصة المشهد الآن أنَّ إدارة العمليات العسكرية التي يقودها أحمد الشرع (الجولاني) وجَّهت ضربة قاضية لنظام الأسد، وهذا ما جعل الأطراف الإقليمية تسارع إلى ملء الفراغ ونهش نصيبها من المائدة السورية، وتحرك أذرعها المحلية سريعًا قبل استئثار إدارة العمليات العسكرية بكل سوريا.
إنَّ أقرب التحليلات تشير إلى أنَّ غرفة عمليات “جيش سوريا الحرة” ليست إلا امتدادًا للنفوذ الأمريكي الذي بدأ يخترق البادية السورية باتجاه سوريا الغنية، وليست غرفة “عمليات الجنوب” إلا مسارعة أردنية لملء الفراغ في الجنوب، إن لم يكن في دمشق، وليست غرفة عمليات “فجر الحرية” إلا سهمًا تركيًّا يشق طريقه نحو مناطق نفوذ الميليشيات الكردية، ولن نبعد النجعة إن وصفنا جميع الغرف التي ظهرت هذه الأيام بأنَّها ضرائر للغرفة الأصيلة (إدارة العمليات العسكرية)، ضرائر يوشكن أن يسلبن منها النصر، أو بعضه على الأقل، ما عدا الأخيرة (فجر الحرية) لأنَّ وجهتها قسد.
إنَّ دمشق الآن تتحضر لاستقبال صاحب جديد، فمن سيصلها أولًا يا ترى؟ وهل سنشهد حربًا جديدة بين إدارة العمليات العسكرية وبقية غرف العمليات؟ هذا ما ستنبئنا به الأيام القليلة القادمة.