الفكر الحركي لدى نتنياهو
يُعد نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي الأطول بقاء في مقعد الحكم، وهو الذي يقود تل أبيب في الحرب الحالية. وفيما ينقل الإعلام الغربي أخبارا متواترة عن ضغوط أمريكية بشأن ضرورة صياغة إسرائيل لخطط ما بعد الدخول البري إلى غزة وسط تجاهل من نتنياهو وإصرار على صياغة تلك الخطط لاحقا وفق تطورات الأحداث، نجد أن مذكرات نتنياهو التي نشرها في أكتوبر 2022 بعنوان “بيبي: قصتي” تشرح نمط عمله، والأطر الحركية التي يعمل وفقها، ومن بينها ما يفسر بعض قراراته في الحرب الحالية. وقبل التطرق لها سأستعرض جوانب من السيرة الشخصية لنتنياهو، وبالأخص بيئته التي نشأ فيها، والتعليم الذي تلقاه في شبابه.
جذور عائلة نتنياهو، ودور الأب في نشر الصهيونية
يوضح بيبي – الاسم لمختصر لبنيامين- أن جذور عائلته تعود من جهة الأب إلى الحاخام ناثان ميليكوفسكي المولود عام 1879 في بيلاروسيا قبل أن ينتقل إلى بولندا لينجب بنزايون والد بيبي عام 1910، ثم غير ناثان اسمه إلى نتنياهو بعد وصوله إلى فلسطين حيث أقام في جنوب القدس إلى أن توفى فيها بالتيفويد عام 1935.
أما والدة بيبي، فقد هاجر جدها إبراهام ماركوس من أمريكا إلى ليتوانيا حيث أنجب عام 1867 جد بيبي لأمه، ثم هاجر إبراهام مجددا في عام 1896 إلى فلسطين للعمل في مجال الزراعة، وبها وُلدت أم بيبي في عام 1912، ثم سافرت لاحقا إلى الولايات المتحدة خلال الحرب العالمية الثانية لتعيش في مأمن، حيث تزوجت هناك بنزايون، ثم عادا لينجبا بيبي في فلسطين المحتلة عام 1949.
تأثر بنزايون الأب بأفكار المنظر الصهيوني جابوتنسكي، وبالأخص مقاله “الجدار الحديدي” الذي نشره عام 1923، وخلص فيه إلى أن صلح العرب مع الصهاينة لن يحدث إلا عندما تصبح الدولة اليهودية قوية لدرجة تدفع العرب للتخلي عن أي أمل في القضاء عليها.
التقى بنزايون بجابوتنسكي في عام 1939 بلندن، ونصحه بنقل أنشطته منها إلى الولايات المتحدة باعتبارها قوة عالمية صاعدة، كما أن لديها جالية يهودية كبيرة مؤثرة، ولذا قال لجابوتنسكي (اقنع أمريكا، وسوف تجبر بريطانيا على تغيير سياساتها تجاهنا). كما شجعه على إنشاء جيش يهودي لمساعدة الحلفاء ضد النازيين بهدف منح اليهود قوة عسكرية خاصة بهم للمرة الأولى منذ قرون، ولتمهيد الطريق لإقامة دولة يهودية في نهاية المطاف.
سافر جابوتنسكي إلى نيويورك حيث توفي بها في عام 1940، وشارك بنزايون في حمل نعشه، ووصف شعوره آنذاك بأنه تعرض للصدمة حيث (ذهب الراعي وتناثرت الأغنام). وبحسب بيبي، فإن والده بنزايون نجح في التغلغل داخل دوائر الحزب الجمهوري عبر مغازلة المشاعر المؤيدة للصهيونية التي غرسها الإنجيليون الأمريكيون. وساهم في تبنى الحزب الجمهوري أثناء مؤتمره السنوي لعام 1944 برنامجًا يدعو إلى دعم الهجرة اليهودية غير المقيدة إلى أرض فلسطين وإقامة دولة يهودية هناك، وهو ما دفع الحزب الديموقراطي بعد بضعة شهور لتبني نفس الموقف.
التقى بنزايون الأب وزير الخارجية الأمريكي دين أتشيسون، والرئيس المستقبلي أيزنهاور في عام 1947 حيث شرح له كيف أن الدولة اليهودية المنتظرة ستكون بمثابة حصن أمريكي ضد المحاولات السوفيتية للسيطرة على الشرق الأوسط. كما يشير بيبي إلى أن والده تعرف على القس جون رايس، ومن خلاله تعرف بيبي على الابنة كوندليزا التي أصبحت لاحقا مستشارة للأمن القومي الأمريكي ووزيرة للخارجية في عهد جورج بوش الابن.
دراسة إدارة الأعمال، ومعركة العلاقات العامة
سافر بيبي رفقة أسرته إلى أمريكا في عام 1957 لمدة سنتين، وهو السفر الذي تكرر لاحقا منذ عام 1963 إلى 1967، وقد التحق في دراسته الجامعية بكلية الهندسة المعمارية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT). لكنه قطع دراسته للمشاركة في حرب 1967، وعاد لاحقا إلى الولايات المتحدة لإكمال دراسته، حيث انتقل بعد سنتين من دراسة الهندسة المعمارية إلى كلية إدارة الأعمال بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. وبعد تخرجه عمل خلال الفترة من 1976 إلى 1978 في مجموعة بوسطن للاستشارات. وفيها تعلم بيبي أن الشركات الخاصة لن تدفع مقابل العروض التقديمية الغامضة التي لا تقدم أهدافًا محددة ولا تضيف قيمة، واعتنق قاعدة تقول (قل شيئًا واضحًا أو لا تقل شيئًا على الإطلاق).
وجد نتنياهو أن الطلاب العرب في الولايات المتحدة يوزعون منشورات معادية لإسرائيل، وهو ما دفعه للانخراط في حملة دعاية مضادة. ويوضح أنه اعتمد أولا على تقديم حجج تعتمد على المنطق حسب زعمه، لكن والده قال له (إذا نجح خصومك في تصوير قضيتك على أنها غير عادلة، فسوف يقوضون موقفك تدريجيًا. لا يهم إذا كانت قضيتك أخلاقية حقًا إذا لم تقدمها على هذا النحو، فبعض أعظم المعتدين في التاريخ صوروا أنفسهم على أنهم عادلون وأن ضحاياهم ظالمون). ولذا بدأ نتنياهو يزعم أن إسرائيل تمثل المجتمع الغربي المنفتح والليبرالي الذي يمقته العرب، وأن السبب الجذري لحروبها مع العرب هو رفضهم الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية. كما زعم أن العرب يزورون التاريخ، حيث تواجد اليهود في فلسطين قبل العرب بآلاف السنوات قبل أن يطردهم الرومان. وهو نفس النمط الذي يستخدمه نتنياهو إلى الآن حيث يتحدث عن أن الحرب الحالية هي صراع بين الحضارة التي يزعم أنها يمثلها وبين البربرية.
كذلك يوضح نتنياهو مقاربة أخرى تعلمها من والده في العلاقات العامة خلاصتها (أنه يجب أن تركز في حملتك بشكل أساسي على المصالح المشتركة مثل: ما الفائدة التي ستعود على الولايات المتحدة لدعم موقف إسرائيل؟). لذا روج نتنياهو آنذاك رسالة مفادها (إن سياسة الولايات المتحدة المتحفظة تجاه إسرائيل ستضعف الحليف الوحيد الموثوق لها في الشرق الأوسط، وهو ما يضعف جهود واشنطن للتصدي للمحاولات السوفيتية للسيطرة على المنطقة).
قواعد الفكر الحركي لنتنياهو
على مدار مذكراته يورد نتنياهو العديد من القواعد والأفكار الحركية التي تبناها، ومن أبرزها:
- (أحيانًا تكون الحركة في اتجاه واضح، حتى وإن لم تكن منظمة تمامًا أفضل من الركود. الأشياء تفرز نفسها ويتم إجراء التصحيحات كلما تقدمت). ففي هذه القاعدة يوضح نتنياهو أن المهم هو تحديد الاتجاه والبوصلة، والتحرك ضمن التوجه دون انتظار الكمال في التخطيط وامتلاك الأدوات وغيرها من متطلبات النجاح، ثم يُصحح الوضع دوريا مع ظهور الثغرات وأوجه الخلل أثناء الحركة، أما طلب الكمال في البدايات فقد لا يعني سوى الركود بانتظار تحقق الوضع المثالي الذي لن يأتي عادة. وهو ما يتمثل بجلاء في حربه الحالية على غزة دون وجود تصور محدد لنهايتها أو مخطط مرسوم لكيفية إنهائها.
- 2- (ارفع رأسك من وقت لآخر لترى ما يفعله خصمك)، إذ يصف نتنياهو تلك الجملة بأنها نصيحة أفادته في الجيش وفي السياسة، حيث الانشغال بالذات فقط قد يجعل المرء غافلا عما يدبره له خصومه. وهو ما فشل فيه عمليا، حيث تفاجئ بهجوم 7 أكتوبر الذي أثبت أنه عانى من عمى استخباري كامل.
- (الشغف والقناعة هي أساس القوة، وهو ما يبحث عنه معظم الناس في القائد.. في أوقات عدم اليقين، يحتاج الناس إلى رؤية قادتهم والاستماع إليهم). فأسوأ القادة هم من يختفون وقت الأزمات، ويظهرون فقط وقت جني المكتسبات، إذ تتزعزع ثقة الناس فيهم.
- من الدروس التي لقنها له والده (لا يمكنك الدفاع عن انتصار عسكري دون انتصار سياسي؛ لا يمكنك الدفاع عن نصر سياسي بدون انتصار في الرأي العام. ولا يمكنك كسب الرأي العام دون اللجوء إلى العدالة. إذا نجح خصومك في تصوير قضيتك على أنها غير عادلة، فسوف يقوضون موقفك تدريجيًا).
- كتابة مهام اليوم التالي في مفكرة صغيرة ومتابعة إنجازها، ويضيف نتنياهو (معظم الأشخاص الذين أعرفهم ممن يحققون أهدافًا كبيرة يتابعون التفاصيل الصغيرة).
- “اخرج من الفخاخ الخطرة بأسرع ما يمكن”، “القائد الجيد يحقق المهمة بأقل قدر من التضحية أو بدون تضحية، لا تخاطروا بأي شخص في مهام غير ضرورية أو حروب غير ضرورية”. وهو ما ينعكس أثناء الحرب على غزة في تردد نتنياهو في تنفيذ عملية الاجتياح البري لعدة أسابيع خوفا من تكبد خسائر فادحة.
بجوار ما سبق نجد أن نتنياهو قال لجاريد كوشنر حسب مذكرات الأخير (أخبرني نتنياهو أنه في بداية حياته السياسية تعلم أن أهم شيء هو الزخم. كلما سقط يبحث عن أي أخبار جيدة ويجعلها أكبر شيء. في السياسة تولد الانتصارات المزيد من المكاسب). وهو ما يحاول نتنياهو فعله في الحرب الحالية عبر البحث عن إنجازات ميدانية تعوض الإخفاق الاستراتيجي صبيحة 7 أكتوبر، على أمل استثماره سياسيا حين يحين وقت محاسبته على فشله الأمني والسياسي الذي أوصل تل أبيب لهذا المزنق.
إن السطور السابقة تهدف إلى الاستفادة من المشترك الإنساني، فالحكمة ضالة المؤمن، وإن معرفة أنماط عمل الخصم ومنطلقاته تساهم في استشراف سياساته وردود أفعاله مما يساعد على إلحاق الهزيمة به.