استراتيجيمقالات

الفرصة الضائعة في إدلب

يقول المثل إن فرصة العمر تأتي مرة واحدة، فهل الثورة السورية تعيش فرصة عمرها الآن؟

عادة ما تتأثر ساحات الحرب بالتغيرات الدولية، فهي التي تسعر الحرب أو تطفئها، والسياسة الدولية هي التي تصنع الدمار أو تبسط السلم، وأشد ما ينطبق هذا على الثورة السورية؛ فاللاعبون الدوليون فيها أكثر من أي ساحة أخرى، والأطراف المتحاربون فيها مكبَّلون بمواقف الدول الإقليمية والقوى الكبرى، فتارة تكون هذه المواقف لصالح الأسد، وتكون تارة أخرى لصالح خصومه.

التوازنات الدولية ترجح كفة الأسد سنة 2016.

تلقى الأسد ضربة موجعة في مارس/آذار 2015، إذ سقطت حاميته في إدلب على يد جيش الفتح القوة المنظمة التي اكتسحت الساحة وغيرت موازين القوة، ففُتحت محافظة إدلب وانهارت أهم حصون الأسد فيها: معسكرات وادي الضيف والحامدية، ثم مركز المحافظة، ثم قواعد المسطومة والقرميد، فجسر الشغور وأريحا ومدن سهل الغاب، في مشهد قريب من سقوط حبات الدومينو. في هذه المرحلة، لم يعد للأسد جيش يقوى على الوقوف -ولو مدة يسيرة- أمام حملات جيش الفتح، ولم يكن سقوط حماة ومدن اللاذقية والساحل أمراً مستبعداً.

في ظل هذا الوضع بدأت استغاثات الأسد تعلو خطاباته السياسية، وراح يحذر العالم من موجات الإرهاب التي ستغزو البلدان الإقليمية والغربية إن سقط النظام، وحذر إسرائيل من مغبة انتصار الإسلاميين، وتعلق بأستار حلفائه روسيا وإيران، وطلب تدخلاً جدياً، وإلا فإن الانهيار وشيك، وقد صرح لافروف فيما بعد قائلا إن دمشق كانت ستسقط في أسبوع أو أسبوعين لولا التدخل الروسي.

دخلت روسيا في الحرب بثقلها نهاية 2015، وظهر جلياً أن موازين القوى قد مالت لصالح الأسد، واستطاعت الحملات الروسية تأمين أرياف اللاذقية سنة 2016 حيث معاقل الطائفة الحاكمة، وفي السنة نفسها استرد النظام حلب وهجّر أهلها، ثم سقطت درعا والغوطة الشرقية وأرياف حمص سنة 2018، وأدت آخر حملة للاحتلال الروسي على شمال سوريا سنة 2019 إلى استرداد طريق حلب-دمشق الدولي وتقليص سيطرة الثوار إلى 10% فقط بعد أن كان نفوذهم يشمل أغلب مساحة البلاد.

وبسبب تغير موازين القوى أثناء تلك الحملات لم يستطع الثوار وقف التقدم الروسي، وخسروا جولات القتال في كل مرة، ولم يوقف الزحف نحو إدلب سوى تدخل القوات التركية في عملية درع الربيع سنة 2020 وما تلاها من اتفاق الرئيسين التركي والروسي على هدنة مؤقتة.

التوازنات الدولية تصرف الاهتمام عن سوريا بداية من سنة 2020.

في الوقت الذي كانت فيه روسيا وتركيا تتفقان على تفاصيل وقف إطلاق النار في إدلب وآلية تسيير الدوريات على الطريق الدولي (m5)، استعرت الحرب الليبية فاتجهت اهتمامات الطرفين إليها، وتدخلت تركيا دعما لطرابلس وروسيا كحليفةً لبنغازي، وهذا ما صرف الاهتمام عن سوريا إلى حين. وما إن استقرت الأوضاع في ليبيا حتى انفجرت الحرب الآذرية الأرمينية أواخر سنة 2020، فاتجهت الاهتمامات الدولية إليها، وانخرطت فيها تركيا وروسيا لمدة سنة تقريباً، ثم ما لبثت أن انطلقت الحرب الأوكرانية سنة 2022، ومنذ ذلك الوقت وروسيا تلقي بثقلها فيها.

وهكذا فإننا نجد في السنوات الأخيرة أن حلفاء الأسد الذين أنقذوه سنة 2015 من السقوط انشغلوا بملفات أخرى، فروسيا تخوض حرباً على حدودها مع أوكرانيا بشكل مباشر ومع حلف الناتو بشكل غير مباشر، ولن تخرج منها أو تتعافى من آثرها في الزمن القريب.

أما إيران فقد أشغلها صعود طالبان وحركات انفصال إقليم بلوشستان على حدودها الشرقية، واستعادة أذربيجان لإقليم قرة باغ على حدودها الشمالية الغربية، وصراع النفوذ بينها وبين إسرائيل في الشرق الأوسط بعد حرب غزة، هذا غير التوترات الاجتماعية الداخلية.

حاجة الثورة إلى المبادرة 

يبدو أن الأسد بعد انشغال حلفائه فقد الإرادة العسكرية، واتجه إلى الرضا بالأمر الواقع محاولا الحفاظ على مكتسباته الميدانية بالأدوات السياسية، فهو حاليا يسعى إلى التطبيع مع العالم العربي، ويبحث عن سبل لإنقاذ اقتصاده وإعادة الإعمار ورفع العقوبات، ولا يُبدي جيش الأسد أي مؤشر على اهتمامه بالهجوم، وكان رده خجولاً حتى عندما تلقى ضربة موجعة في حادث الكلية العسكرية في حمص بالطائرات المسيرة ومقتل العشرات من ضباطه، وكل خياراته التكتيكية الآن دفاعية، ومن بينها اعتماده مؤخرا على الطائرات المسيرة الانتحارية التي تعد وسيلة إشغال واستنزاف فقط ما لم يقترن معها هجوم بري.

أما الثوار فإنهم على ما يبدو لا يفكرون في أخذ المبادرة، ويعتمدون على تكتيك دفاعي واشتباكات خفيفة بهدف الاستنزاف ورفع المعنويات لا السيطرة على الأرض، وحتى الأعمال النوعية التي تتالت في السنوات الأخيرة فإنها تبقى دون جدوى ما لم توضع في إطار هجومي أوسع وهدف يحقق السيطرة على الأرض ولو تدريجياً.

ويظهر للمراقب أن إدارة الثوار في إدلب تتجه إلى دعم الاستقرار والحوكمة والتنمية الاقتصادية والمرافق الخدمية أكثر من التفكير في القتال في الوقت الحالي. ولعل وجود القوات التركية في إدلب وانصراف الاهتمامات الدولية قد أغرى قادة الثورة بالاستقرار، لكن هذا الاستقرار يرتكز على تغير التوازنات الدولية.

إن التاريخ يعلمنا أن من يغتر بالتغيرات الدولية ويقضي فترة السلم لدعم الاستقرار والحوكمة يخسر الحرب فيما بعد، والطرف الذي يقضي فترة السلم استعداداً لخوض الحرب فهو من يحقق النصر، ولنا في الحرب الآذرية والأرمينية عبرة وعظة، وكيف حصدت أذربيجان ثمرة إعدادها للحرب سنوات طويلة.

كيف يمكن اغتنام الفرصة؟

إن الحديث عن الاستراتيجية العسكرية والتكتيك المناسب لانتصار الثورة السورية في هذه المرحلة يحتاج أكثر من هذه المقالة، لكن الخطوة الأولى التي يمكن لقادة الثورة الانطلاق منها هي الخروج من وهم الدولة المستقرة، فإدلب ساحة حرب ومرحلة انتقالية وليست حالة نهائية، وإن الأولوية ينبغي أن تكون للقوة العسكرية، أما المجالات الخدمية والاقتصادية فإنها لا بُدَّ أن تُقضى بالحد الأدنى، وإن من يصنع مؤسسات الدول المستقرة في ساحات الحرب ليس إلا كمن يضع القيود على جسده ويكبل بالسلاسل حركته، فكيف لثورة مسلحة أن تحقق سرعة الحركة في الهجوم وتكسب المبادرة أمام العدو وتحقق المرونة في الحرب، إن كانت مقيدة بقوانين المؤسسات البيروقراطية وأحلام تداول السلطة ومخاوف الشركات التجارية وحرص المؤسسات الإعلامية المستقلة على الشهرة.

إن من يطالب إدلب الآن بأن تكون دولة متقدمة مثل أمريكا وبريطانيا وفرنسا ينسى أن إدلب ليست إلا حالة مؤقتة وجبهة حرب كامنة قد تنفجر في أي لحظة، بل ينسى أن تلك الدول ما أصبحت كذلك إلا بعد مئات السنوات من النضوج والتدافع.

إذاً أول خطوة نحو المبادرة هي استحضار حالة الحرب، وجعل الأولوية للهجوم والإعداد العسكري وبناء القوة الحربية وإدارة ما تبقى من مجالات بالحد الأدنى.

أما الخطوة الثانية بنظري فهي: تحديد استراتيجية عسكرية واضحة، والأفضل -تماشياً مع أدبيات الحروب الثورية- أن يكون الهدف الاستراتيجي هو التمدد على الأطراف قبل المراكز، والتوسع في المناطق النائية قبل الحاضرة، والسيطرة على الأرياف قبل المدن، إذ ما زال العدو قادراً على شن حملات كبرى، ثم إن الهجمات على المراكز مثل حلب والساحل قد تستفز الأطراف الدولية وتصرف الأنظار من جديد نحو الساحة السورية.

أما الخطوة الثالثة فهي إيجاد التكتيك المناسب لتحقيق الهدف الاستراتيجي الذي سبق ذكره، وأفضل تكتيك الآن هو تطوير العمليات النوعية ليصبح الهدف منها السيطرة على الأطراف، وتوسيع المناطق الرمادية بين الثوار وقوات الأسد. بحيث لا يكون هدف العملية النوعية تدمير العدو ورفع معنويات حاضنة الثوار فحسب، بل لا بُدَّ من تكثيفها وتوسيعها وتكرارها، لإجبار قوات العدو على التراجع التدريجي عن الأطراف والتخلي عن المواقع النائية، وبذلك تزداد الجبهة الضبابية بين قوى الثورة والعدو، وتنفتح محاور أخرى للعمليات العسكرية، ويتسع مجال الحركة، مع تجنب الدخول في معارك حاسمة مادام العدو محتفظا بالعواصم المهمة، وبذلك يتحقق الخروج أيضاً من جمود خطوط الرباط التقليدية التي أصبحت شبيهة بخط ماجينو الفرنسي في الحرب العالمية الثانية.

أسامة عيسى

باحث في الدراسات العسكرية والشأن السوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى