أمناستراتيجيسياسيعسكريمقالات

الضربات الإسرائيلية ومعركة الدولة السورية

دمشق تحت النار: انكماش التفاهمات أمام منطق القوة

جاء القصف الإسرائيلي الذي استهدف مبنى وزارة الدفاع السورية والقصر الرئاسي في دمشق في لحظة كاشفة أوضحت تل أبيب من خلالها أن التموضع السياسي الجديد لدمشق لا يدخل في حساباتها الاستراتيجية، وأنها لا تقيم وزنا للجهود الدبلوماسية أو التفاهمات الإقليمية التي نسجتها الإدارة السورية الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع، فالشرعية من وجهة النظر الإسرائيلية لا تمنح إلا ضمن هندسة جيوسياسية ترضخ لمصالح تل أبيب وشروطها الأمنية.

منذ توليها السلطة، سعت الإدارة السورية إلى بناء مشهد داخلي متماسك على قاعدة تفاوضية هادئة مع الفواعل المحلية والدولية؛ تفاوض شمل ملفات معقدة مثل العلاقة مع “قسد”، واحتواء التمرد الدرزي في الجنوب، ودمج الفصائل الثورية داخل وزارة الدفاع، وتحييد بؤر الفلول، إضافة إلى التعامل مع ملف العقوبات والحالة الاقتصادية المتردية. وقد ترافق هذا المسار مع خطاب خارجي عقلاني، محكوم بحرص واضح على الانفتاح الإقليمي واستعادة دور الدولة السورية كشريك نافع لا كعبء أمني أو سياسي.

لكن الإنجازات التي تحققت، رغم رمزيتها وأهميتها النسبية، ظلت محدودة الأثر في ظل تفاقم أزمة الحضور الإسرائيلي العدائي، والذي بقي خارج أي معادلة تفاهم عقدتها الإدارة السورية. فتل أبيب لم تكتف بتقويض القدرات العسكرية السورية، بل مضت في تمركز استراتيجي خطير جنوب دمشق، وأطلقت رسائل سياسية واضحة عبر رعايتها للتمرد الدرزي، ومطالبتها بنزع السلاح في مناطق الجنوب السوري (درعا، السويداء)، في محاكاة لنمط سياساتها في لبنان وغزة، حيث تمارس أقصى تكتيكات العنف والتهديد لإعادة تشكيل البيئة الجيوسياسية والديموغرافية من حولها.

إن الغارات الأخيرة على دمشق، بما تحمله من جرأة في استهداف القلب الرمزي والعملياتي للسلطة السورية، تتجاوز كونها ردا ظرفيا على حراك محلي في السويداء أو لردع السلطة الجديدة، لتتحول إلى فعل تأسيسي ضمن سياق أشمل يعيد تعريف علاقة تل أبيب بمحيطها الجيوسياسي، فالرسالة الإسرائيلية شديدة الصراحة: لا شرعية ولا سيادة لمركز لا يتماهى مع الرؤية الإسرائيلية.

لكن خطورة هذا الموقف تتضاعف بشكل كبير في ظل الدور الأمريكي السياسي وما يمكن وصفه بـ”الازدواجية الأمريكية”، حيث تستمر واشنطن في إدارة تفاهمات براغماتية مع الإدارة السورية، بينما تقف صامتة أمام نسف الحليف الإسرائيلي لهذه التفاهمات في كل مرة. إن هذه الازدواجية لا تعكس مجرد تباين في الرؤى والتكتيكات، بل تكشف عن انقياد أمريكي شبه كامل للإرادة الإسرائيلية التي باتت تتحكم بالخطوط الحمراء الفعلية في السياسة الأمريكية، حتى عندما تدّعي واشنطن خلاف ذلك.

في هذا السياق، لا بد من قراءة الضربة كجزء من تصور إسرائيلي أشمل، يسعى لتفكيك مركزية الدولة السورية كسلطة موحدة، وتعزيز صعود القوى المحلية الهامشية، خصوصا تلك المرتبطة بجهات خارجية. وهي سياسة تهدف إلى إعادة إنتاج الجغرافيا السورية كفسيفساء من السلطات، تفتقد إلى القرار السيادي، لتبقي دمشق مشلولة وغير قادرة على المبادرة أو إعادة البناء.

مأزق الخيارات وضيق الهامش الاستراتيجي:

في ظل هذا الضغط المركب، تجد الإدارة السورية نفسها أمام مفترق حاسم: هل تنخرط في لعبة إسرائيلية محكومة بالتصعيد الأمني والهندسة الجغرافية بالقوة؟ أم تدخل في اللعبة الأمريكية القائمة على التفاهم المشروط؟

 كلا الخيارين محفوف بالمخاطر: الأول يتجاوز قدرات دمشق الحالية، والثاني لا يوفر لها ضمانات سيادية حقيقية، بل يتركها تحت رحمة التناقضات بين واشنطن وتل أبيب.

وفي المقابل تبدو أوراق دمشق فمحدودة، فالقوات السورية مكشوفة وبدون أي دفاعات جوية أو استعدادات ميدانية (أنفاق، تمركزات محصنة، مخابئ) أو أمنية (شبكة اتصالات، حضور استخباري وأمني، رصيد معلوماتي) فضلا عن غياب قدرات عسكرية رادعة كالصواريخ البالستية والمسيرات الاستراتيجية. وبالتالي فهي لا تملك الأوراق اللازمة اليوم لمجاراة الكيان الإسرائيلي في لعبته.

وعلى الجهة الأخرى يمثل المسار الأمريكي الذي يطرح خيار التماهي مع سياساته في المنطقة كمخرج من الأزمة الاقتصادية والأمنية التي تواجهها دمشق، لكنه لن يوفر الكثير فيما يتعلق بالطموح الإسرائيلي، كما أن القوى الإقليمية المتمثلة في الرياض وأنقرة تبدو غير قادرة على الانخراط في مواجهة من أي نوع للطموحات الإسرائيلية.

في ظل المشهد السابق، فإن استمرار تردد الإدارة السورية في بناء خطاب سياسي متماسك تجاه قضية الاحتلال الإسرائيلي لا يمكن أن يصنف كخيار تكتيكي وإنما كثغرة استراتيجية. فالاكتفاء بلغة دبلوماسية باردة وتفاهمات رمادية مع واشنطن بهدف تجنيب الإدارة التصعيد المفاجئ، لن ينتج حماية حقيقية، وسيُفرغ منجزات الإدارة من مضمونها، ويحرمها من القدرة على تحويل هذه اللحظة المفصلية إلى فرصة لتوسيع هامشها السيادي.

إن الخطأ الأكبر يكمن في التعامل مع الصراع مع إسرائيل بوصفه ملفا مؤجلا أو قابلا للاحتواء، بينما هو في الواقع شرط مؤسس للشرعية السياسية، داخليا وخارجيا، فبدون موقف سيادي واضح ومبكر، تضيع الإدارة إمكانيات ثمينة لرسم خطوط حمراء قادرة على تعبئة الأنصار واستقطاب الحلفاء، كما تفرط في أدوات ضغط سياسية كامنة يمكن توظيفها في لحظات إعادة تشكيل التوازنات.

مفهوم المواجهة المرنة: استراتيجية البقاء والسيطرة في ظل التفكك

تواجه الإدارة السورية اليوم سباقا مفتوحا مع مشروع إسرائيلي متسارع يتجه نحو تفكيك سوريا، ويعمل على تثبيت واقع استراتيجي جديد في الجنوب وفي محيط دمشق وهو ما يتطلب مواجهة سياسية وأمنية دقيقة تعيد تعريف شروط اللعبة، وترفع كلفة الاستهداف الإسرائيلي دون استنزاف الإمكانيات. تقوم هذه المواجهة على ثلاث مسارات متداخلة:

أولًا، إعادة بناء الإدراك والخطاب السياسي للإدارة، والخروج من حالة المراوحة القائمة بين انتظار الدعم الأمريكي وتجنب الاستفزاز الإسرائيلي. فيجب أن تبنى سردية سياسية سيادية واضحة، تضع ملف الاحتلال كأولوية وطنية غير قابلة للتأجيل، وتربط استقرار الداخل بسيادة الحدود، ليس عبر التصعيد الخطابي المجرد، بل من خلال وضوح الرؤية السيادية وتحديد الخطوط الحمراء.

ثانيا، استخدام الفوضى المحتملة كورقة ضغط استراتيجية على العواصم الإقليمية والدولية التي ما زالت تتعامل مع سوريا من زاوية الحد الأدنى من الاستقرار، حيث لا بد من إيصال رسائل حاسمة بأن استمرار الانتهاكات الإسرائيلية بلا رد، يعني إعادة فتح الساحة السورية أمام أطراف كانت حتى الأمس القريب في طور التحييد أو الانكفاء، وعلى رأسها إيران، وحزب الله، والحركات الجهادية العابرة للحدود، والفصائل الفلسطينية وعلى رأسها حماس، فالمشهد الذي رأيناه مؤخرا في اجتياح العشائر العربية للسويداء ليس سوى إنذار مبكر لما قد يحدث إذا تركت الجغرافيا السورية مكشوفة أمام مشاريع الاحتلال.

ثالثا، تطوير أدوات التفويض السيادي داخليا، إن هذه المواجهة لا تكتمل من دون إعادة تشكيل داخلية في بنية السلطة السورية نفسها، فالنموذج التقليدي للدولة المركزية لم يعد قابلا للحياة، لا سياسيا ولا إداريا وأمنيا.

المطلوب اليوم هو التحول نحو نموذج لامركزي تحتفظ فيه القيادة المركزية بالقرار الاستراتيجي والسيادي في الملفات الأمنية والخارجية والمفاصل الاقتصادية والحدودية، بينما تمنح السلطات المحلية والمجتمعية هامشا واسعا لتدبير شؤونها الخدمية والتنموية، هذا الترتيب لا يخفف العبء عن السلطة فحسب، بل يرسخ حضورها بوصفها منظومة قيادة لا إدارة، وهي معادلة مثالية في البيئات المفككة.

بالتوازي مع ذلك، لا بد من بناء هياكل أمنية مرنة، تقوم على التدخل الانتقائي والسريع بدلًا من الانتشار الشامل، وتركز على حماية المنشآت والمنافذ والمفاصل الحيوية، بدلا من الاستنزاف في السيطرة على كل الجغرافيا، بهذه الطريقة يمكن صياغة مفهوم جديد أكثر مرونة للدولة، لتصبح عقلا مركزيا يدير التوازنات، ويصوغ الردع من خلال التحكم، وهو مفهوم يخدم هيمنة الدولة في ظل حالة المواجهة واحتمالات تطورها التي قد تضطر القيادة السورية للتخلي عن كثير من مظاهر الحكم القائمة حاليا.

من المهم الانتباه إلى أن الهياكل الأمنية المذكورة هياكل يجب أن تحظى بترويج استثنائي في الانضباط والجاهزية والفعالية، الانضباط هنا ليس مجرد التزام عسكري، بل عنصر من عناصر بناء “الهيبة” التي تغني عن التورط في الصدامات، وتؤسس لحالة ردع أمام الفواعل المخربة فالمطلوب بجوار امتلاك القوة، تصميم صورة ذهنية لهذه القوة تجعل من حضورها كافيا لضبط الميدان.

أخيرا، فإن المواجهة السياسية يقصد بها أن تتضمن خطة استراتيجية لاستعادة المبادرة، وإعادة إنتاج شرعية الدولة في بيئة معادية ومضطربة ومؤهلة للانفجار، وإذا ما أحسنت الإدارة صياغة هذا المسار، فإن ما يراد له أن يكون لحظة انهيار الإدارة السورية، يمكن أن يتحول إلى لحظة تأسيس جديدة للدولة السورية: أكثر مرونة، أكثر وعيًا، وأكثر قدرة على المناورة والسيطرة، سواء من خلال السيطرة على الأرض أو امتلاك القدرة على القيادة من الخلف وامتلاك مفاتيح التعبئة والتصعيد وإنهاك العدو والمناورة السياسية.

يوسف لطفي

باحث وكاتب ليبي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى