إدارة العلاقة بين الأمن والحريات في أجهزة الاستخبارات: توصيات عملية

تنص الأدبيات المتعلقة بالرقابة على الاستخبارات على ضرورة معالجة العلاقة بين واجب حماية الأمن وضرورة احترام الحريات عبر مراعاة معايير الضرورة والتناسب، ووضع ضوابط لتشغيل المصادر البشرية والتقنية والرقمية وفق قوانين واضحة.

لكن القانون وحده لا يكفي في هذا المسار حيث يمكن توظيفه أو تفسيره بما يخدم التحيزات النفسية أو الفئوية، ما يوجب الجمع بين الاعتبارات القانونية والأخلاقية والسياسية معًا. لذا، يجب وضع حدود أخلاقية لا يتجاوزها العاملون في الاستخبارات، توازيًا مع إجراءات استثنائية محدودة زمنيًّا في حالات الطوارئ. ولضمان الالتزام بالقواعد القانونية والأخلاقية، تبرز الحاجة إلى عملية إشراف تشمل الرصد قبل تنفيذ المهام والمتابعة خلال التنفيذ والمراجعة والتقييم بعده.

وسائل الإشراف والرقابة

للإشراف على عمل أجهزة الاستخبارات أهمية خاصة، تشمل:

  • الحفاظ على هيبة القانون.
  • منع التجاوزات.
  • مساءلة المتجاوزين.
  • تعزيز ثقة الرأي العام بمؤسسات الدولة.
  • الحفاظ على كفاءة وفعالية أجهزة الاستخبارات.

ينطوي الإشراف على تفعيل مدونات سلوك أخلاقية داخلية يلتزم بها العاملون في الاستخبارات، إلى جانب تفعيل مؤسسات إشراف برلمانية وقضائية وخارجية على النحو التالي:

  1. اللجان النيابية، وهي على قسمين:
  • لجان مختصة: تتكون عادة من خبراء استخبارات وقضاة ومدعين عامين، حيث تُحصر حلقة المعلومات بأعضاء تلك اللجان دون سائر أعضاء مجلس النواب.
  • لجان عامة في مجلس النواب.
  1. المفتش العام، وقد يكون شخصًا منفردًا أو هيئة تفتيشية، ومن وظائفه:
  • تدقيق الحسابات الداخلية لمكافحة الهدر والفساد.
  • تلقي الشكاوى والتحقيق فيها.
  • ضمان نشر المعلومات أمام الرأي العام، وفق ضوابط للنشر.
  1. القضاء، ومن أدواره:
  • الموافقة على طلبات مسبقة من جهاز الاستخبارات لتطبيق إجراءات التحقيق الخاصة، كالتنصت، أو رفضها، أو مراجعتها بعد تطبيقها.
  • الإشراف على تحقيقات الأجهزة.
  • ترأس محاكم جنائية تُعنى بتجاوزات الاستخبارات.
  • ترأس لجان الإشراف المختصة.
  1. مؤسسة أمناء المظالم: مؤسسة مستقلة عن السلطتين البرلمانية والتنفيذية، تستقبل الشكاوى وتحقق فيها، ولها صلاحية الوصول إلى المعلومات المتعلقة بالشكاوى المقدمة إليها.

ورغم الإيجابيات التي يدعمها الإشراف من ناحية تجنب الإخفاقات والتجاوزات، إلا أن مسؤولي الاستخبارات يتحسسون من إجراءاته خشية الكشف عن الأخطاء حين تحصل أو تعرضهم للمساءلة والمحاسبة. ولذا، فمن الأهمية بمكان وضع القوانين التي تحمي عملية الإشراف من التسييس والتوظيف لقطاع الاستخبارات، إلى جانب التأكيد على فصل السلطات والهيئات الإشرافية لتمكين نزاهتها وإنصافها.

دورة الإشراف على الاستخبارات

تبدأ عملية الإشراف على عمل أجهزة الاستخبارات مع بداية وضع القواعد الضابطة لعمل الاستخبارات، وتمتد لتصل إلى تقييم عملها في مراحل لاحقة، وفق المسار التالي:

  1. الإشراف المسبق: عبر وضع القوانين والموازنات المالية والتصريح بالعمليات الاستخبارية الحساسة.
  2. الإشراف الجاري: عبر مراجعة عمل الاستخبارات الجاري وإعداد تقارير منتظمة ودورية حوله.
  3. الإشراف اللاحق: عبر مراجعة الوقائع الحاصلة والسياسات التي اتبعت حيالها وتقييمها، فضلًا عن التعامل مع الشكاوى.

ومع تغير الظروف الأمنية والسياسية والاجتماعية، فإنه تجب مراجعة نُظم الإشراف بشكل دوري للتأكد من فعاليتها وتلافي الأخطاء وتعديلها بما يحقق كفاءة أفضل، فضلًا عن مراجعة تقاريرها وأحكامها من قبل هيئة قضاء عليا مستقلة للتأكد من نزاهتها وحياديتها.

عقبات أمام الإشراف

لكي تحقق الهدف الذي أنشئت لأجله، يجب أن تُعطى الجهات المشرفة الصلاحيات اللازمة للرقابة والتحقيق وإصدار الأحكام الملزمة. بيد أن ذلك تعوقه عقبات عديدة، حيث يتردد أعضاء مجلس النواب في الأنظمة قيد التشكل في مساءلة مسؤولي الاستخبارات، كما قد يعانون من قصور في فهم وظائف وأساليب الاستخبارات. إلى جانب ذلك، يحد ضعف الثقة بين الجانبين من تبادل المعلومات وإجراءات المساءلة، ويمنع هيئات الإشراف من الوصول إلى الأماكن والشخصيات والسجلات السرية.

والعقبة الأهم هي التحيزات الفئوية التي تعاني منها الدول ذات التركيبة المتنوعة، فالحزبية والطائفية والعشائرية والقومية كلها نزعات تدفع نحو التحيز لها مما يؤثر على العمل الإشرافي والمساءلة.

بين السرية والشفافية

يقوم عمل الاستخبارات غالبًا على السرية، بينما تطمح المجتمعات النابذة للاستبداد لتحقيق أكبر قدر من الشفافية بين الدولة وشعبها. وفي سياق تعزيز الثقة ضمن عالم يتجه أكثر فأكثر نحو الانفتاح المعلوماتي، فإن الشفافية يجب أن تكون هي الأصل بينما السرية استثناء في حالات خاصة ووفق الضرورة، مثل:

  • هوية أعضاء أجهزة الاستخبارات دون الرؤساء.
  • هوية المخبرين.
  • التفاصيل التقنية والتشغيلية لعمل الاستخبارات.
  • تفاصيل حماية الشخصيات البارزة.
  • العمليات والتحقيقات الجارية.

وهذه معايير نسبية تخضع أيضًا للمصلحة والمفسدة العامة المترتبة على الإفصاح عن هذه المعلومات أو كتمانها، حيث يجب توخي الحذر من المناسبات والظروف السياسية التي قد تتأثر بتقارير الإشراف المعلنة أمام الرأي العام.

في الختام، يجب إدارة العلاقة بين المتطلبات الأمنية من جهة والحريات المدنية من جهة أخرى دون تغليب أحداها على الأخرى، فلا يمكن إدارة دولة ناجحة تبعًا للمتطلبات الأمنية على حساب الأخلاقيات والقواعد والقوانين التي تصون حريات المجتمع وكرامته، فتستباح بذلك حقوق المواطن وتطلعاته.

ومن جهة أخرى، لا يمكن إبطال جميع المتطلبات الأمنية والمخاطرة بالأمن القومي للدولة ومصالحها الاستراتيجية في سبيل نقل المجتمع إلى فضاء من الحريات لا حدود له، فمن شأن هذا أن ينشر الفوضى ويقوض استقرار الدولة ويعرض أمنها للخطر.

من هنا جاءت الضرورة الملحة لإدارة العلاقة بين الأمن والحريات وفق ضوابط قانونية وأخلاقية، تتسم بالنسبية والمرونة لا الجمود، وتراعي التقدم الرقمي المتسارع، وتتعامل مع التحديات الأمنية المتجددة بموضوعية دون مبالغة أو تسييس أو تفريط.

العلامات:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

ذات صلة

تبرز مشكلة اندماج الفصائل الثورية وغير الثورية في سورية بعد انتصار الثورة ....

شهدت مناطق الساحل السوري مواجهات عسكرية بين فلول النظام السابق، وقوات الإدارة ....

“أصبح العالم الناطق باللغة العربية فضاءً معلوماتيًّا واحدًا…ويمكن للأحداث في جزء معين ....

عادت محافظة السويداء لتتصدر واجهة الأحداث والأخبار في الأيام القليلة الماضية، عقب ....

قد يعجبك أيضا

بينما انتظرت جموع السودانيين استعادة الجيش لولاية الجزيرة الاستراتيجية من يد الدعم ....

تبرز مشكلة اندماج الفصائل الثورية وغير الثورية في سورية بعد انتصار الثورة ....

لم تكد طهران تستفيق من ضربات ديسمبر، إلا وتعرضت لضربة ثقيلة ....

شهدت مناطق الساحل السوري مواجهات عسكرية بين فلول النظام السابق، وقوات الإدارة ....

زر الذهاب إلى الأعلى