أمنمقالات

الإشراف على أجهزة المخابرات: بين الضرورة والواجب

لا غنى لأي دولة أو كيان عن جهاز أمن، يبصِّرها بالمعلومات عن الأعداء-وعن الأصدقاء- ويحمي صفَّها الداخلي، ويقيها مكائد أجهزة الاستخبارات الأخرى، ويغطي فجوة الإمكانات والصلاحيات لدى الجيش والشرطة.

لكن في الدول العربية عامة وسوريا خاصة باتت الاستخبارات هي الأداة الرئيسة لقمع الشعب وإخضاعه واستعباده وتخويفه، وتسخير كامل مقدرات الدولة لخدمة النظام ومصالحه، ولا يعود هذا إلى أنَّ النظام اتخذ من الشعب عدوًا أوليًّا، وتحالف ضده مع دول وكيانات ومليشيات أجنبية فحسب، بل لأنَّ تلك الأجهزة ظلت لعقود طويلة بعيدة عن أي محاسبة، منفلتة العقال، لا تُحاسَب على مال أنفقته، ولا حيواتٍ أزهقتها، ولا حرمات انتهكتها.

ولعل ارتباط صورة الاستخبارات وأجهزة الأمن في الأذهان بأعمال التعذيب والانتهاكات، رغم أنَّها في الأصل أجهزةٌ تسهر على حماية الأمن القومي؛ هو نتيجةٌ للدرك الذي وصلت إليه أجهزة الأمن في سوريا بعد سنوات من العمل في أجواء من السرية والغموض، وتسخير القانون لمصلحة الأسد، أو انتهاك القانون دون خوف من عقاب.

وبعد الإخفاق الذي مُنيَ به جهاز الأمن العام في المناطق المحررة في التعامل مع ما اشتهر باسم (أزمة العملاء)، وَثَبَت إلى الأذهان تلك الصورة البشعة لأجهزة الأمن والاستخبارات التي هوت إليها أجهزة نظام الأسد الأمنية والاستخبارية، وأخص خصائصها الإخفاء القسري والتعذيب حتى الموت، وعملت بعض وسائل الإعلام على التشبيه بين الحالتين وكأنهما سواء، متناسين الفروق الشاسعة بين الجهازين، والبيئتين اللتين أفرزتهما، وفارق الخطأ كمًّا ونوعًا.

الحل ليس في حل الاستخبارات بل في الإشراف عليها

إنَّ الفيصل دونَ انزلاق أجهزة الاستخبارات إلى ما وصلت إليه في الدول المستبدة والمتخلِّفة هو خضوعُها للإشراف والمساءلة والمحاسبة التي تحرص الدول المتقدمة على الالتزام بها، بينما تحرص الدول المستبدة على إهمالها وعلى إباحة خصوصية الناس وكرامتهم وحيواتهم في سبيل مصلحة النظام الحاكم، بل وفي سبيل مصلحة الدول الداعمة له.

يُعرَّف الإشراف على أجهزة الاستخبارات بأنَّه تدقيق الأنشطة الاستخبارية ومراجعتها قبل الشروع بتنفيذها، والرصد المستمر والمراجعة بعد تنفيذها، إضافة إلى التقييم والتحقيق.

أما الجهات التي يمكن أن تُنفِّذ الإشراف في مناطق محررة مثل إدلب فهي: مديرو الأجهزة الأمنية بمعونة مسؤولين تنفيذيين وقضاة ومختصين، ومؤسسات ونقابات حماية الحقوق مثل نقابة المحامين وغيرها، ومؤسسات الرقابة العامة، والرقابة المالية، ووسائل الإعلام، والأفراد الفاعلون في المجتمع المدني مثل وجهاء العشائر والعوائل.

والغاية من الإشراف مساءلةُ أجهزة الاستخبارات عن سياساتها وأعمالها فيما يتعلق بـ:

  • القانونية: هل الأعمال مطابقة للشرع والقانون والنظم الداخلية؟
  • الملاءمة: هل هي مبررة أخلاقيًّا؟
  • الكفاءة: هل تحقق أهداف الأمن؟
  • الفاعلية: هل تُحقق نجاحًا بأقل الموارد؟

 وتمر المساءلة بثلاث مراحل هي: جمع المعلومات عن أنشطة الأجهزة الأمنية من خلال رموزه أو المتضررين منه أو وسائل الإعلام، ثُمَّ إقامة حوار مع مسؤولي هذه الأجهزة عبر الوسائل المتاحة، ثُمَّ إصدار النتائج والتوصيات.

عقبات الإشراف على أجهزة الأمن

أول عقبة تظهر عند التفكير في إجراء الإشراف على أجهزة الأمن في المناطق المحررة هو أنَّ هذا الإشراف ينتهك أخص خصائص العمل الاستخباري والأمني؛ ألا وهي السرية. فلهذه السرية دواعٍ وجيهة، فهي التي تحول دون حصول العدو على معلومات حساسة عن الثوار، وتقي من معرفة الخصوم بأساليب عمل مؤسسات الثورة.

والسرية ضرورية لحماية حياة العسكريين وأفراد الأمن والمخبرين وضمان أمن الشخصيات البارزة، إلى غيرها من المزايا، خاصةً وأنَّ منطقة مثل إدلب توجد في ساحة حرب ويتربص بها العديد من الأعداء والخصوم الدوليين والإقليمين.

لكن المعضلة تكمن في هوس أجهزة الأمن بالسرية (الحس الأمني) لأنَّها تضفي عليها هالة من الغموض وتمنحها مكانة نخبوية مرموقة، ويصل الأمر إلى إخفاء المعلومات عن هيئات الإشراف المكلَّفَة والمُجازة بالاطلاع على المعلومات، بدعوى أنَّهم غير مدرَّبين ولا مؤهلين للحفاظ على سرية المعلومات، وذريعة هذه الأجهزة أنَّ الشفافية في مسائل غير حساسة ستؤدي دون شك إلى الانفتاح في المسائل الحساسة.

وإنَّ التاريخ حافل بالوقائع التي تثبت كيف أنَّ أجهزة الاستخبارات المُنغَلِقَة على الإشراف والمحاسبة والمتابعة أدعى للانزلاق إلى استغلال السلطة وانتهاك الحقوق، أما الأجهزة التي يغلب عليها الانفتاح على الإشراف الكفء من الإعلام والمجتمع والمؤسسات التشريعية؛ فتسودها بيئة تساعد على كشف أعمال انتهاك القانون وسوء السلوك وما يتبعه من ثقافة الإفلات من العقاب.

إذًا ما تحتاجه إدلب هو تحقيق التوازن المناسب بين السرية والشفافية، لكن هذا ليس كافيًا، فلتحقيق الحكم الرشيد وعصمة الدماء والأموال؛ ينبغي أن تكون السرية استثناءً يتطلب تبريرًا مقنعًا في كل حالة، ولا تكون السرية هي القاعدة والانفتاح هو الاستثناء.

متى يكون الاستثناء؟

هنا يبرز السؤال: ما الأساس المناسب لسرية الأمن كاستثناء من الشفافية؟ غالبًا ما تكون الإجابة: مقتضيات الأمن القومي، لكن تثبت التجربة أنَّها إجابة غير سليمة، بسبب مطاطية مفهوم الأمن القومي والتباسه كمبدأ، إذ يمكن تفسير الكثير من الأمور على أنَّها تمس بالأمن القومي، فتُصنَّف على أنَّها سرية، مما يفرغ مبدأ الشفافية كاستثناء من مضمونه.

وبدلًا من أن تُعزى السرية إلى مفهوم غير محدد، من قبيل الأمن القومي أو المصلحة العامة، يجب أن تستند إلى درء أذى واضح ومحدد قد ينشأ عن كشف المعلومات العامة، ويجب أن تنحصر في المجالات التي يؤدي فيها الكشف إلى أذية واضحة تنال حياة الأفراد وأجهزة الدولة كلها، ويشمل ذلك: هوية أفراد أجهزة الاستخبارات (عدا رؤساء أجهزة الاستخبارات)، وهوية المخبرين، والتفاصيل التقنية للأساليب التشغيلية، وتفاصيل حماية الشخصيات البارزة والمنشآت الحساسة، والعمليات الجارية والتحقيقات، والهوية والبيانات الشخصية للأشخاص تحت المراقبة.

عيوب ومزايا الشفافية

رغم كل ما سبق؛ يجب التسليم بحقيقة أنَّه لا يمكن لأي حكومة تجنب كل الأذى الناتج عن نشر المعلومات الحساسة، لذا يجب السماح بالتعرض لبعض الضرر، لأنَّ المخاطر الناتجة عن السرية تعرض الحكم الرشيد الذي تصبو إليه الثورة ذاته للخطر، إذ قد تحوِّله هذه السرية مع الأيام وتراكم الأخطاء والتغاضي عنها إلى حكم استبدادي.

 كما سيكون لتقليل درجة السرية أثر جيد على جهاز الأمن نفسه، فالنظام الذي يبالغ بتصنيف المعلومات يفتقر للمصداقية ويكون مُسرِفًا، ويكرِّس الكثير من الوقت والجهد لتصنيف وحماية معلومات غير خطرة، وقد يكون ذلك على حساب معلومات حساسة فعلًا، فيما تساعد زيادة الشفافية على الحدِّ من شك الشعب بهذه الأجهزة وتعزيز الثقة بها، ما يسهِّل الحصول على المعلومات من الأفراد والمجتمعات عبر علاقة تعاونية بعيدًا عن الترهيب والإكراه والقمع.

وأولى المعلومات التي يجب على لجان الإشراف الحصول عليها: الأولويات الاستخبارية والسياسات التنفيذية وتقييمات الاستخبارات والموازنات والتقارير المالية وتقارير المؤسسات العليا لتدقيق الحسابات حول أجهزة الاستخبارات، وأي تحقيقات في سلوك أجهزة الاستخبارات.


أسوة بأي دولة أو كيان لا يمكن للثورة التخلي عن مهام أجهزة الاستخبارات والأمن، غير أنَّ هذه الأجهزة لا ينبغي أن تُترك دون إشراف، لأنَّها بطابعها السري وبالصلاحيات التي تمتلكها قانونًا مُعرَّضة للانحراف والعمل خارج النطاق الذي وُضِعت لأجله، لذا يجب خضوع هذه الأجهزة للإشراف؛ حتى لو كان هذا على حساب بعض السرية التي يجب أن تصبح استثناءً له مبررات محددة واضحة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى