الإحكام والانفكاك كضرورات للفهم والتعامل مع الواقع
إنَّ إحدى أشد معضلاتنا هي تصدر من لا علم له ولا دراية في كافة المجالات، وكثير ممن هم ليسوا كذلك لم تكن بداياتهم العلمية ولا مناهجهم وطرائقهم صحيحة، كما لم يكن لأكثرهم سماع من أهل العلم المتمكنين، وخاصة في علوم الغايات، وأصول الشريعة ومقاصدها.
ولذلك ترى كل هذا الخبط الأعوج من كثير من رواد الإنترنت ومن منتسبي وعموم جمهور الإسلاميين، وإن أمكن تمرير ذلك في الظروف العادية ولو قبولًا بالحاصل؛ إلا أنَّه لم يعد ممكنًا في قضايا الأمة الكبرى وأحداثها الجسام، إذ يكتفي أولئك الهواة؛ بما قرأوه وطالعوه في الفراغ، ومع كثرة الإغراق والتركيز على صياغات جامدة وطرحها كمسلمات؛ بل وكأصول كبرى؛ تصير لهم دينًا وليست بشيء أصلًا!
والأدهى من ذلك هو أن تتخذ بعض تلك الجماهير من أولئك رؤوسًا تصدرهم أو يتصدرون للحكم في أمور الأمة المهمة اعتقاديًّا وسياسيًّا، والإفتاء في باب الأسماء والأحكام -التكفير والتبديع- لتخرج بكل بساطة جماهير وفئات وفرق كبرى من هذه الأمة.
كما تفصل تلك الشخصيات في منازعات طائفية وأمور واقعية قد تودي بالأمة إلى مزيد من التمزق والحروب، وتسلط العدو الكافر المحارب لاحتلال ديارها واستئصال شأفتها، ويستعينون في ذلك بقشور من فتاوى قديمة أو معاصرة -صحيحة أو خاطئة- تضاد الشرع حينًا وتصادمه أحيانًا، يصدق فيهم قول رسول الله ﷺ: (يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم). فهم يأخذون منه ما يوافق أهواؤهم أو يؤالف ما اعتادوا عليه من لقيمات معلبة من العلم لا تغني ولا تسمن من جوع، ذلك مبلغهم من العلم وإن يتبعون في ذلك إلا الظن.
ولذلك فإنَّه من الضروري العودة لأصولنا الشرعية، وتصدر أهل العلم بالشرع والواقع للفصل في تلك المنازعات واستلام زمام المبادرة وتحمل المسؤولية بحيث تذعن لهم الأمة وتنفي أولئك المتهوكين الغلاة.
ضرورة الإحكام بين الأبعاد النظرية والأبعاد العملية للمنهج
من القواعد المهمة التي دندن حولها بعض العلماء؛ ضرورة الإحكام بين الأبعاد النظرية والعملية في المنهج الإسلامي!
ففي مراعاة الأبعاد العلمية النظرية فحسب؛ تجاوزًا للواقع، وفي اعتبار الأبعاد العملية الحركية فقط؛ افتيات على الشرع.
ومن تأمل هذه القاعدة المتينة وجد فيها أجوبةً لكثير من معضلات الواقع اليوم، فالإحكام ينبغي أن يكون في المنهج العلمي نفسه بإعمال كافة قواعده وأصوله، وبالجمع بين أطراف الأدلة، كما يكون بمراعاة اصطلاحات العلماء وإجرائها على معانيها ودلالاتها الصحيحة.
كما يجب أن يكون الإحكام بمراعاة المآلات، وتقدير المفاسد والمصالح والتغليب بينها، واستعمال القوة أو السياسة، ومواجهة المخالفين في موطن اعتداء منهم، أو مسالمتهم في موضع آخر، ومراعاة القدرة من عدمها، ومدى قدرتهم على المقابلة بالمثل في بلاد أخرى وأثر ذلك على المستضعفين.
وأمثلة ذلك كثيرة جدًّا؛ كالنهي عن القتال في العهد المكي، والأمر بعدم سب الذين كفروا فيسبوا الله عدوًا بغير علم، والنزول على الصلح في الحديبية والكف عن القتال لئلا يطأ المؤمنون رقاب إخوانهم المسلمين سرًا بمكة فتصيبهم منهم معرة، وعدم قتل المنافقين في عدة مواطن ومواقف لئلا يقال إنَّ محمدًا ﷺ يقتل أصحابه وغيرها من حكم عميقة تمثل الإحكام العملي الواجب ولا يتسع لها المقام منفردة.
ومن أهم مظاهر الإحكام بين الأبعاد العملية والعملية هي قاعدة “إمكان الانفكاك” وقاعدة “إمكان التلافي” وهي ما سنتناولها في مقال آخر إن شاء الله.
قاعدة انفكاك الجهة
هي قاعدة غاية في الأهمية يمثل غيابها مع غيرها من مفاهيم أصولية خطورة بالغة، وهي قاعدة منطقية يتناولها علماء الكلام، وأصولية يبني عليها علماء الأصول.
ويعني انفكاك الجهة أنَّ الفعل الواحد بالشخص قد تتعدد جهاته غير المتلازمة على محل واحد، ويكون حكم كل جهة منهما مختلفًا، بحيث يقع واجبًا حرامًا.
ومعنى ذلك أنَّ الفعل الواحد من جهتين بحيث يمكن الإتيان بأحدهما منفكًا عن الآخر كالصلاة في الأرض المغصوبة، فهو مشروع من وجه محظور من وجه آخر.
ولك أن تتصور اطراد تلك القاعدة حتى في الأحكام والعقائد رغم أنَّ الأصوليين أعملوها في الفروع الفقهية معنى أو لفظًا بصورة أوسع، في مباحث البطلان والفساد، والحظر والوجوب، وأقسام الحرام، وفي النهي وأقسامه ودلالاته ومقتضياته، وفي اجتماع الأمر والنهي.
وهو أصل ضلت فيه خوارج الأمس واليوم، إذ لا يتصورون الإيمان إلا حدًا واحدًا فمن ناقضه بكبيرة كفر، بينما منهج أهل الحق أنَّه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ويبقى أصله.
كما ضلت فيه المرجئة فلا يكاد يخرجون من مسمى الإيمان أحد، فهو عندهم حد واحد ومن دخله ولو بكلمة لم يخرج منه، وبعضهم لم يشترط الكلمة وادعى التصديق القلبي كافيًا دون دليل من قول أو فعل عليه!
ومن تطبيقات هذه القاعدة -إمكان الانفكاك- في النازلة الجارية المتمثلة في الصراع بين السنة والشيعة في بعض بلدان المسلمين، والتحالف أو التقارب بينهما في مناطق أخرى، والدعم الحقيقي من إيران الشيعية وحلفائها لفصائل المقاومة السنية في فلسطين، وانشغال البعض بتكفيرهم واستدعاء العداء معهم على خلفية ذلك، ومناقشة اعتقاداتهم للتحذير منها “خوفًا على العقيدة” بزعمهم، ويعمدون في هذا إلى نفي الواقع، وتكذيب حقائقه، بل ويظهرون أو يبطنون تفضيل انتصار العدو الصهيوني وداعميه من الصليبيين الجدد!
ويتناسون في ذلك أنَّ المقدس عندهم -أرض فلسطين والقدس- هو مقدس عندنا كذلك، وأنَّ الجهاد “المقاومة” هو فعل تقريبي بطبيعته للأمة، كما أنَّ غيابه وشيوع حالة البطالة فيها هو قطيعة أرحام الإسلام، وظهور الفساد في الأرض بالفتن ومنها الطائفية.
١- الانفكاك العملي
فلا يشترط تكفير المعتدي من المخالفين لبعض جرائمه الإنسانية في الصراع السياسي العسكري، وهذا المزلق هو ما أنشأ في سبعينيات القرن الماضي؛ جماعة خارجية غاية في الخطورة عمت بلدًا هو الأكبر في محيطه كمصر لعدة سنوات، بل تعدته إلى خارجه، فقد جعلت جماعة المسلمين “شكري مصطفى وأتباعه” كل من عذبوهم وآذوهم وسجنوهم وقتلوا منهم؛ كفارًا خارجين عن ملة الإسلام وجماعة المسلمين، بل كفروا من لم يكفر خصومهم ولم يبايع إمامهم. إذ تصوروا أنَّه لا يمكن أن يكون مسلمًا من يرتكب كل تلك الموبقات والإجرام في حق الفئة المؤمنة.
٢- الانفكاك العلمي والاعتقادي
أو ما يسميه أهل السنة -وهو أصل من أصولهم- بالتفريق بين الفعل والفاعل، فالفعل قد يكون كفرًا لكن لا يلزم من ذلك أنَّ فاعله كافر، وكذلك البدعة والمعصية فلا يلوم من ذلك كون الفاعل مبتدعًا أو فاسقًا، إلا بعد انتفاء الموانع كالإكراه والتأول والجهل والجنون ونحوها، وتحقق الشروط كالعمد والتحزب والإصرار والدعوة إليها وغيرها، وهي صورة من أهم وأظهر تطبيقات هذه القاعدة الأساسية.
قال ابن تيمية: [فإنَّ “نصوص الوعيد” التي في الكتاب والسنة، ونصوص الأئمة بالتكفير والتفسيق ونحو ذلك: لا تستلزم ثبوت موجَبها في حق المعين، إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع، لا فرق في ذلك بين الأصول والفروع] مجموع الفتاوى (١٠/ ٣٧١).
والظاهر في كلام العلماء المتقدمين أنَّ هذا الأصل مطرد عند أهل السنة خلافًا لما عليه أكثر النجديين المعاصرين والسابقين عليهم من اعتبار ذلك في الفروع والأمور الخفية، وهو تحكم لا دليل عليه ومآله إلى القول بتكفير جماهير عريضة من المسلمين، بل هو قول مشابه لأصول الخوارج من بعض الوجوه.
بل إنَّ ابن تيمية نفسه اطرد هذا الأصل حتى بالنسبة للفرق الأبعد عن السنة والأظهر في البدعة، التي شاع في العلماء القول بكفرها كالإسماعيلية مثلًا عند حديثه عن عوامهم الذين اختلطوا بالجعفرية في كسروان.
٣- الانفكاك بين أصول المذهب والأقوال الشائعة فيه
إذ يمكن الانفكاك -بمعنى عدم التلازم- بين وجود اعتقادات فاسدة في بعض مصادر أولئك المخالفين، كالقول في القرآن وأم المؤمنين وبعض الصحابة، وبين عدم وجود تلك الاعتقادات والأقوال في أصل المذهب وهو ما عليه المعول، مهما شاعت هذه الأقوال والممارسات في العوام، وفعلها أو قررها بعض علمائهم، فليست دليلًا على تبني الفرقة “المذهب” لها وليست مقررة في أصولهم، وإنما يغذيها ويشيعها لوبي نفعي من المراجع والخطباء المنبريين والرواديد الذين يكتسبون زخمهم وشهرتهم وقبولهم -وبالتالي أموالهم- من إشاعة حالة الغلو والفساد وتغييب الشرع والعقل، وكلما زاد الغلو ازدادت تلك المصالح بلا شك.
فالقول بتحريف القرآن على سبيل المثال موجود عند بعض الإمامية وكتب فيه بعضهم وهو الطبرسي “فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب”، وهذه الفرية موجودة مبثوثة في مصادر أخرى، وكذلك الكلام في مصحف فاطمة وغيرها من ادعاءات مشابهة!
لكن أصل المذهب وكلام الأئمة من آل البيت وعلماء ومراجع الشيعة يقول بإنَّ القرآن محفوظ وأنَّه نفس القرآن الذي هو بين أيدي المسلمين، ومحاولة إلزامهم بهذه الأقوال الشاذة -رغم استمرار بثها من علماء وعوام حتى اليوم- لكنها ليست الأصل عند خواص الشيعة ولا عوامهم؛ وهم يحتجون بأنَّه لا مقدس عندهم إلا القرآن نفسه وفيه آية الحفظ، وأنَّ أي روايات “فضلًا عن أقوال لعلماء كالطبرسي وغيره؛ كلها قابلة للأخذ والرد والتضعيف والرفض، فليس لهم كتب يعدونها صحاحًا كأهل السنة “هذه أقوالهم على أي حال”.
وعلى سبيل المثال ففي مصادر أهل السنة روايات يستدل بها خصومهم وخصوم الإسلام على التحريف عياذًا بالله، كحديث أبي موسى الأشعري في نسخ ثلاثة أرباع سورة الأحزاب في ليلة واحدة، وعدم اعتبار ابن مسعود المعوذتين من القرآن وحذفهما من مصحفه، رغم صلاة النبي ﷺ بها وشهادة الصحابة، وحديث السيدة عائشة: (لَقَدْ نَزَلَتْ آيَةُ الرَّجْمِ، وَرَضَاعَةُ الْكَبِيرِ عَشْرًا، وَلَقَدْ كَانَ فِي صَحِيفَةٍ تَحْتَ سَرِيرِي، فَلَمَّا مَاتَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وتَشَاغَلْنَا بِمَوْتِهِ دَخَلَ دَاجِنٌ فَأَكَلَهَا).
رواه ابن ماجه، وأبو يعلى، والدارقطني، والطبراني في الأوسط، وابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث، وأورده ابن حزم في المحلى (٢٣٦/١١)، وقال: صحيح، وأصله في الصحيحين.
ورغم أنَّ هذه ليست أحاديث عن رسول الله ﷺ وأقوال العلماء فيها واضحة على فرض صحتها، إذ إنَّ هذه الآيات منسوخة وكانت محفوظة في الصدور وهو غالب حفظ القرآن آنذاك، وكانت في صحيفة وهي أرقى المجردات للكتابة آنذاك ولذلك فهي أقلها، وقد كتبت نفس الآيات في الجذوع والأكتاف وعلى الجلود وغيرها.
والأهم من هذا وهو الشاهد من كلامي أنَّه لا يجوز الاستدلال بها على قول أهل السنة بالتحريف مثلًا، ولا بغيرها من روايات مشابهة، مع تقرير أنَّ شيوع الاعتقاد بالتحريف هو في الشيعة وخاصة الإمامية أشهر وأكثر انتشارًا وذيوعًا بحيث اختصوا به، رغم أنَّ المعتمد في المذهب هو تكفير من يقول به، وهو ما عليه العمل في جميع مجتمعات الشيعة بالتدين بنفس القرآن الذي هو بين أيدي جميع المسلمين.
وكذلك مسألة السب والقذف في حق السيدة عائشة، فإنَّ قول أئمة الشيعة والمعتبر في المذهب هو عصمة نساء الأنبياء من الفاحشة، رغم شيوع غير هذا في بعض عوامهم وعلمائهم، ووجود قول بعدم عصمتهن من ذلك عند نفر من علماء السنة لكنه شاذ وغير معتبر.
والمقصود أنَّ هناك انفكاكًا بين أصول المذهب المعتمدة والشائع من الأقوال والتي يحاكم إليها -وعليها- فقط من قد يقول أو يؤمن بها.
4- المخالفين بين موقفين:
كما يمكن الانفكاك بقبول فعل من المخالفين ورد الآخر؛ ومعاداتهم من وجه وموالاتهم في آخر، فقد امتدح شيخ الإسلام ابن تيمية جهاد دولة بني حمدان ضد الصليبيين في سواحل الشام، وهم من الشيعة الإمامية الإثنى عشرية رغم إشارته أنَّ زوال دولتهم “قدريًّا” كان لمخالفات شرعية كسب الشيخين أبي بكر وعمر على منابرهم يوم الجمعة.
ورغم أنه هو من أرسل رسالته الشهيرة للناصر قلاوون لتحريضه على الشيعة المعتصمين في جبل كسروان، وأراد على إثرها أن يجرد حملة لمهاجمتهم، إلا أنه أفتى بمعاملتهم معاملة أهل القبلة بعدم الإجهاز على جرحاهم أو سبي نسائهم أو غنم أموالهم. ورغم ما يظهر من تدرج في معرفة ابن تيمية التفصيلية لاعتقادات أهل تلك المنطقة في عدة رسائل أرسلها إلى ابن عمه وإلى السلطان ثم في كتاباته لاحقاً عنهم.
هذا الانفكاك ظاهر هنا بين الموقف الاعتقادي والموقف العملي، وبين الحكم بالبدعة والمخالفة؛ والحكم بالكفر، وإمكان كونهم مسلمين في أصل الدين (التوحيد والنبوة والبعث)، ضالين في بعض أصوله ما دون ذلك وبعض فروعه
كما أفتى ابن تيمية حين سئل: عن رجل يفضل اليهود والنصارى على الرافضة؟
فقال: كل من كان مؤمنا بما جاء به محمد ﷺ فهو خير من كل من كفر به؛ وإن كان في المؤمن بذلك نوع من البدعة، سواء كانت بدعة الخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية أو غيرهم؛ فإن اليهود والنصارى كفار، كفر معلوم بالاضطرار من دين الإسلام. والمبتدع إذا كان يحسب أنه موافق للرسول ﷺ لا مخالف له لم يكن كافرا به، ولو قدر أنه يكفر فليس كفره مثل كفر من كذب الرسول ﷺ. (مجموع الفتاوى: 201/35)
٥- الانفكاك بين تكفير بعض الخصوم لنا وتكفيرنا لهم
كما أنَّه لا تلازم بين تكفير بعض الفرق المخالفة لنا؛ والحكم بتكفيرهم، وهي متلازمة نفسية أكثر منها شرعية، فقد ذاع القول بتكفير الإمامية “الرافضة” في كثير من الفئات السنية خاصة السلفية منها حتى أنَّ الأكثرية يعدونهم شرًا من اليهود والنصارى، وهو مدخل معاصر لموالاة الكفار الأصليين على أهل القبلة وهو أمر صار مشهودًا في دول وأفراد ينتسبون إلى العروبة والإسلام؛ بل يتبنى بعضهم فكرة قتالهم كافة واجتثاثهم؛ فلماذا التأسي إذًا على تكفيرهم لنا وقتالنا، وهو باب شر على الأمة لا يغفل عنه عاقل.
بينما تعدهم الأدلة الشرعية والأحاديث النبوية من أهل القبلة ومن فرق هذه الملة كحديث الفرق الإثنين والسبعين الذي يتغاضى عنه البعض ويمررونه كأن لم يسمعوه إذا احتججنا به، وإنما أصمهم عن سماع الحق طغيان أصوات الرجال إن جاروا وإن عدلوا.
٦- غياب الفقه كحالة اشتباك مع قضايا الواقع
إنَّ غياب الفقه الحقيقي ليس فقط كاكتشاف للأحكام الشرعية في كل مسألة بأدلتها التفصيلية؛ وإنما كحالة معايشة حقيقية للواقع وتعامل مع منحنياته لا كالتفاف وتطويع تحت وطأته، وإنما باعتبار لأصوله الجامعة كأطر مرنة وقواعده الكلية كحدود حاكمة، وبالتالي التقدير السليم لحالة المجتمعات المسلمة والمخاطر المحيطة بها، ومآلات الأقوال والأفعال التي قد تخرق سد يأجوج ومأجوج فتفتحه على الأمة أو تغضب الدجال فتخرجه عليها دون أن تدري.
إنَّ دور الفقه هو مسايرة حركة الجماهير واحتياجاتها لا بمعنى مطاوعة أهوائها، وإنما بعدم مصادمة فطرتها وأشواقها الإيمانية البسيطة وولاءاتها العامة للأمة وفرحتها بكسر شوكة أعدائها واجتماع طوائفها المتناحرة وغيرها من أمور مشابهة، والتي كثيرًا ما تكون هي الصحيحة رغم بعد هذه المجتمعات عن الالتزام في كثير من ممارساتها الفردية، وتأخر حركة الفقه عن هذا المضمار هو مما يدفع الناس لتجاوز العلماء والمتدينين الذين يجافون أشواقهم الإيمانية وفهومهم البديهية تلك، وقد يتجاوز بعضهم الدين نفسه لظنه أنَّه يغالط الحقائق ويستعمي عن الواقع!
إنَّ الجماهير المسلمة ليست غبية كما يتصور بعض النخبويين أو الاصطفائيين من الإسلاميين، فاستغباء بعضهم بوصف واقع معارك طاحنة بين فرقة معينة وعدو الأمة الأول منذ عقود تسيل فيها دماء الآلاف وتقتل فيها الرموز والقادة والرؤساء وأبناؤهم وتنفق فيها المليارات، وتصوير كل ذلك على أنَّه محض مسرحية! هو مما يجعل الناس يدوسون ذلك الطرح ويتخذونه سخريًّا ولو ألبسه من ألبسه لبوس الدين!
العالم كله والعقلاء جميعًا لو نطقوا لقالوا هُجرًا في حق هؤلاء بل ربما رأوا أنَّ المصحات النفسية والعقلية أنسب لهم من منابر العلم ومناصب العلماء، فضلًا عن ساحات القتال ودهاليز السياسة.
نحن في كارثة حقيقية لغياب أبجديات التفكير الإسلامي الصحيح والذي كان يتمتع به عامة الصحابة من كان فيهم عاميًا بسيطًا أو عالمًا فقيهًا، وكذلك كان المسلمون في كثير من العصور اللاحقة، بينما تغيب اليوم مثل هذه القواعد حتى عن بعض العلماء؛ إذ كان من المفترض أن تطرح لعموم المسلمين وخاصتهم عبر مساراتها العلمية والأكاديمية الصحيحة، بأن ينقلها المؤهلون والدارسون إلى من بعدهم مع تبسيطها حتى تصل لعموم الناس كحقائق وضروريات عقلية للفهم وشرعية للممارسة.
ويزيد من صعوبة فهمها؛ تعود جمهور الإنترنت ووسائل التواصل على ما يمكن تسميته بوجبات الإنترنت السهلة والسريعة، واستقاء كافة تصوراتهم للدين والواقع منها، لكن لم يعد يسعنا السكوت مع صيرورتها ضرورة للوقت.
٧- الترهيب كوسيلة للسيطرة
وإنَّ من أخطر نتائج وإفرازات فترات التحول الجذرية، والأحداث الجسيمة، ومحاولات الانقلاب أو التغيير الاجتماعي كالثورات والتحركات العسكرية المذهلة والمزلزلة لواقع تلك المجتمعات؛ هو انقلاب الموازيين وعلو رأي العامة والبسطاء والجهلاء، وبشكل شامل يمكننا القول إنَّ رأي الجمهور يعلو على رأي النخبة، ورأي الجمهور سيال لا ينفك، وتحاول تلك الروح الجماهيرية بطبيعتها العشوائية غير المنضبطة أن تفرض رأيها على النخبة بل والواقع كله.
وبظهور المغرضين والمندسين بطبيعتهم المنظمة والقادرة على توجيه تلك الجموع والعبث بتحركاتها، وبالتالي لا يتاح للرموز الحقيقية والنخبة تبوأ زمام التوجيه العاقل والصحيح. ويستلزم للنهوض فترات تطول أو تقصر بحسب جرأة تلك الجموع على تحمل ذلك الضغط والعمل ضده حتى إخضاع الرأي العام مرة أخرى للصواب.
وأخيرًا، فقد يكون ما نقول طرحًا صعبًا وثقيلًا على نفوس البعض، ولكن إعادة تجلية هذه الأصول والقواعد صار ضرورة لخطورة غيابها في فهم الشرع والتعامل مع الواقع، فهي تمثل علاجًا للواقع في الحقيقة أكثر من كونها طرحًا علميًّا مجردًا فالمراد بها تطبيقاتها الواقعية في مسألة كتحالف المقاومة في فلسطين مع دولة إيران الشيعية وحلفائها المعاصرين مثلًا في الصراع ضد دولة الكيان، بينما تقاتل نفس الطائفة ضد مسلمين آخرين من هذه الأمة في مكان آخر في ساحة الواقع.