
منذ هجوم السابع من أكتوبر إلى اليوم، والضفة الغربية في حالة من التصاعد التدريجي في المواجهة بين الاحتلال والفلسطينيين، على كافة الأصعدة، من المواجهات الشعبية السلمية إلى الاشتباكات المسلحة وحتى العمليات الفردية غير الفصائلية.
وقد أظهر الاحتلال عنفًا مفرطًا في التعامل مع الضفة الغربية بكل ما فيها من أطياف وانتماءات، رجال ونساء وشيوخ وشباب، حتى الأطفال الذين دون 15 عامًا لم يسلموا من بطشه وتنكيله. وارتكب العدو من الفظائع في الضفة خلال عام ونصف فقط ما لم يفعله على مدار سنوات، حيث قتل أكثر من 900 فلسطيني، 20% منهم من الأطفال، وأصاب أكثر من 7 آلاف، واعتقل قرابة 5 آلاف، وهو عدد مساوٍ لإجمالي عدد الأسرى في سجون الاحتلال قبل السابع من أكتوبر 2023، كما قتل في سجونه أكثر من 50 أسيرًا تحت التنكيل والتعذيب. بالإضافة إلى سياسة العقاب الجماعي من خلال تدمير البنى التحتية والطرق وخطوط الكهرباء، وتقطيع أوصال الضفة الغربية بالحواجز، وتقييد حركة الفلسطينيين بين شمال وجنوب الضفة، ووضع قيود مجحفة على دخول الغذاء والوقود.
لقد شهد الشهران الماضيان، وتحديدًا منذ فوز “ترامب” بانتخابات الرئاسة الأمريكية، ذروة التصعيد، بشكل لا يقل في خطورته عما يحدث في غزة من تدمير وخُطط تهجير ممنهج، لكنه لم يحظ بنفس الاهتمام الذي استحوذت عليه غزة، وذلك بسبب أنَّه لا معاناة مهما كانت يمكن مقارنتها بحجم المأساة في غزة. فقد حاصر الاحتلال مخيمات اللاجئين في شمال الضفة على مدار أكثر من شهرين، حتى أعلن مؤخرًا أنَّه نجح لأول مرة منذ 25 عامًا، أي منذ الانتفاضة الثانية “انتفاضة الأقصى”، في تهجير سكان اثنين من أكبر وأهم مخيمات الضفة، مخيم جنين ومخيم طولكرم، وإدخال دباباته للتمركز بداخلهما. كما قام بقصف البيوت وهدم المساكن وتجريف الشوارع وتدمير البنى التحتية، في صورة نسخة طبق الأصل من المشهد في غزة، ولكن بمقياس رسم أصغر.
السؤال هنا، لماذا الضفة الغربية تحديدًا؟
ولماذا التركيز عليها بهذا الشكل العنيف، رغم انشغال العدو بمعركة وجودية حقيقية في قطاع غزة ما زالت قائمة؟
وما الذي تمثله الضفة الغربية في الوعي الفلسطيني والصهيوني لتحوز كل ذلك الاهتمام؟
الضفة الغربية مركز ثقل الدولة الفلسطينية المأمولة
إنَّ الضفة الغربية من حيث المدلول الجغرافي، هي باختصار كل ما تبقى من دولة فلسطين التاريخية بعد نكبة 1948 بالإضافة إلى قطاع غزة، وحدودها أصبحت تعرف فيما بعد بما يسمى “خط الهدنة” أو “الخط الأخضر”.
كذلك فإنَّ الضفة الغربية معترف بها في المواثيق والقوانين الدولية كأرض محتلة وفق قرار مجلس الأمن رقم 242، على عكس أراضي 48 التي حظيت باعتراف دولي باعتبارها دولة “إسرائيل”. والاحتلال نفسه يتعامل معها فعليًّا كأرض محتلة ويُديرها من خلال الجيش. وكل حركات المقاطعة العالمية للاحتلال والمؤيدة لحقوق الشعب الفلسطيني منطلقة ومرتكزة في الأساس على هذه الحقائق.
وتشكل الضفة الغربية 15% من مساحة فلسطين التاريخية من النهر إلى البحر، و95% من مساحة دولة فلسطين المرتقبة على حدود 1967، ويعيش فيها 40% من إجمالي الفلسطينيين الذين لا يزالون موجودين على أرض فلسطين التاريخية.
الضفة الغربية المحضن الدائم لحق العودة
تضم الضفة الغربية حوالي 3 ملايين فلسطيني، ثلثهم لاجئين منتشرين في كامل مساحة الضفة، وربع هؤلاء اللاجئين موزعين على 22 مخيمًا معترفًا بهم دوليًّا، ومسجلين إلى اليوم في سجلات الأمم المتحدة كلاجئين ينتظرون العودة إلى أراضيهم التي هُجروا منها وفقًا لما يُعرف في القانون الدولي بـحق العودة.
تمثل الضفة الغربية العمق الاستراتيجي الدفاعي للاحتلال، إذ تشمل مساحة واسعة عازلة تفصل الاحتلال عن الأردن، الذي يضم حوالي 5 ملايين شخص من أصول فلسطينية تم تهجير عائلاتهم منذ النكبة، وثلثهم غير مجنسين ولا يزالون مصنفين كلاجئين، مما يعني أنَّهم لا يزالون متمسكين بـحق العودة إلى أرضهم في فلسطين التاريخية.
الضفة الغربية تجسيد للصراع على المقدسات والهوية
تحتضن الضفة الغربية بيت المقدس والمسجد الأقصى، وكنيستي المهد والقيامة أهم كنيستين تاريخيتين في المسيحية. وتعرفالضفة الغربية بـ “يهودا والسامرة” أو “أرض الميعاد” لدى اليهود والصهاينة، فهي تمثل عصب المخيلة والوجدان اليهودي.
مخيمات الضفة بؤر النضال والكفاح المسلح
لقد كانت مخيمات جنين وطولكرم إلى جانب مخيم بلاطة في نابلس وقود وشعلة انتفاضة الأقصى قبل 25 عامًا، وأذاقت حينها الاحتلال الويلات. كما أنَّها تُعدُّ الآن معقل ورأس حربة العمل المقاوم الفصائلي في الضفة، والذي عاد إلى فعاليته من جديد قبل ثلاث سنوات فقط، بعد أكثر من عقد من الزمن كانت فيه الضفة الغربية في حالة سبات واستسلام شبه كامل. لذلك، يمكننا القول إنَّ تغييب وتحييد مخيمات شمال الضفة، يعني عودة الضفة إلى حالة السبات التام مجددًا.
وعندما نتحدث عن مخيمات مثل مخيم جنين وطولكرم ومخيم بلاطة في نابلس ومخيم شعفاط في القدس، فإنَّنا لا نتحدث عن عشوائيات أو خيام أو عشش كما قد يظن البعض، بل نتحدث عن مناطق تحولت على مدار سنوات من مناطق لجوء مؤقتة إلى مناطق سكنية شبه مخططة أشبه بأحياء المدن مدعومة بالمرافق.
خُطط الاحتلال لتغيير الوضع القائم
بناءً على ما سبق، بدأ الاحتلال في تسريع خطواته مع قدوم الرئيس الأمريكي ترامب، لمحاولة حسم الصراع على المسألة الأهم في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ومستغلًا خُطط ترامب القديمة فيما عُرف بـ “صفقة القرن”، التي كان محورها الرئيسي ضم أغلب أراضي الضفة الغربية لدولة الاحتلال. لأنَّه إذا لم يعد هناك ضفة غربية، لن تكون هناك قضية فلسطينية من الأساس. ولذلك يسعى الاحتلال حاليًّا لتنفيذ هذا الحسم عبر التركيز على 5 مفاصل مهمة ومحورية:
- احتلال المخيمات في الضفة عسكريًّا وطرد سكانها، حيث يظل المخيم رمزًا نابضًا ودليلًا حيًّا على حق الفلسطينيين في العودة.
- الإعلان لأول مرة في تاريخ الصراع عن “إنهاء تصنيفهم كمخيمات” وضمها للتقسيم الإداري للسلطة الفلسطينية كأحياء داخل المدن والبلدات، في خطوة أحادية من طرف الاحتلال، ودون أي اعتبار للقرارات الدولية والأممية.
- إنهاء عمل وكالة “الأونروا” رسميًّا، وطردها من المخيمات، وإغلاق كافة مدارسها ومؤسساتها، حيث لا يزال العديد من سكان المخيمات يعتمدون بشكل أساسي على الدعم والمعونات الدولية من خلالها.
- تسريع وتيرة الاستيطان من خلال مضاعفة عدد الوحدات الجديدة، بالإضافة إلى توسيع مساحة ورقعة انتشاره.
- السعي إلى تغيير الوضع القائم في المسجد الأقصى، بتقسيمه على الأقل من حيث المجال الزماني بين المسلمين واليهود، أي أن يكون لليهود أوقات يتعبدون فيها داخل ساحات المسجد الأقصى لا يتواجد خلالها المسلمون والعكس.
وهكذا، يعتقد الاحتلال أنَّه في حال تمكن من تنفيذ ذلك، فإنَّه يكون قد قضى على أهم الثوابت التي لطالما ظلت لها رمزية واضحة متعلقة بحقوق الفلسطينيين، وفي حال استطاع إنهاء حالة المقاومة في الضفة، فبذلك يكون قد أصبح بإمكانه القيام بالخطوة التالية وهي ضم الضفة الغربية إلى دولة الاحتلال، وإعلان تصفية القضية الفلسطينية نهائيًّا.
المقاومة كسد منيع
لقد كان هذا المخطط واضحًا قبل معركة الطوفان، وسعى الاحتلال لتنفيذه، إلا أنَّه واجه العديد من المعوقات، التي على الرغم من أنَّ بعضها تعلق بمشكلات داخلية وبنيوية لديه، فإنَّ المعوق الرئيسي الذي واجهه كان هو المقاومة في الضفة وفي غزة، والتي نجحت في إحباط مخططاته طول السنوات السابقة، وما زالت المقاومة في الضفة مشتعلة وتقف كحجر عثرة أمام تلك المخططات، حيث تشهد ممارسات الاحتلال العنيفة ضد عشرات من الأفراد المقاومين، الذين لا يمكن مقارنة قدراتهم المتواضعة بقدرات المقاومة في غزة، على استشعاره الخطر الشديد. فالعدو يعلم أنَّ المقاومة لا تنتهي، وأنَّ الأجيال تتوارث الثأر، ومعركة طوفان الأقصى أحيت القضية في قلوب عشرات الآلاف من الشباب، الذين انضموا كأعضاء جدد على طريق النضال والكفاح المسلح ضد الاحتلال.
الضفة الغربية وغزة…مركز الثقل وجبهة الإسناد
لقد كانت الضفة الغربية وما زالت مركزية في الصراع بين الفلسطينيين والاحتلال الصهيوني، بل لن نبالغ إذا اعتبرناها معيار النصر والهزيمة بين الطرفين، فعملية فردية ينفذها مقاوم في الضفة، لها من الانعكاس على الصراع، ما لا يقل في أثره عن معركة ميدانية خاضتها قوة عسكرية وانتصرت فيها.
وعلى الرغم من أنَّ مقاومي الضفة، ومنذ أن اندلعت الحرب، يستبسلون من أجل إسناد غزة وتخفيف الضغط العسكري عليها، فإنَّ غزة في الحقيقة، هي التي تقوم بدور الإسناد المعنوي للضفة، حيث باتت غزة مصدر إلهام للجميع، وهي تقدم كل يوم الأدلة والبراهين على أنَّ المعركة التي يخوضها الفلسطينيون معركة عادلة تستحق البذل والتضحية، وتثبت لهم من خلال أدائها المميز أنَّ مواجهة العدو وتكبيده أثمان باهظة ليست مهمة مستحيلة.
لكن الصمود والقتال والاستبسال في غزة مهما كان عظيمًا، لا يعوض الهزيمة في الضفة. فهو يبقي على القضية الفلسطينية حية ومتوهجة، ويظل قادرًا على إحباط مخططات ومؤامرات الاحتلال وحلفائه.
وهذا ما جعل غزة مشغولة طيلة الأعوام الماضية بدعم المقاومة في الضفة بالمال والسلاح والعتاد، من منطلق إدراكها أنَّ ساحة الضفة هي مركز الثقل في الصراع، وأنَّ غزة مهما تطورت وراكمت من قدراتها القتالية، فلن لن يكون ممكنًا التقدم في مسار تحرير فلسطين والمسجد الأقصى، دون إحداث تغيير جوهري وجذري في ميزان القوة في الضفة الغربية.
وهو الأمر الذي دفع الاحتلال إلى اتخاذ قرار حاسم بضرورة الإغارة على غزة وتصفية المقاومة فيها، لكن المقاومة باغتته بهجومها 7 أكتوبر. لقد كان هذا القرار حتميًّا من وجهة نظر العدو، لإنهاء هذا الدور الخطير الذي سعت غزة إلى القيام به، وهو ترسيخ فكرة توحيد الساحات بين الضفة وغزة ميدانيًّا، وربط مصيرهما الوجداني ببعضهما البعض، على الرغم من عدم اتصالهما جغرافيًّا.
ما سبق، يساعدنا على فهم واستيعاب، كيف أنَّ غزة المحدودة من حيث الجغرافيا والموارد والقدرات، تكفلت بتحمل عبء كبير، كانت كلفته كبيرة وباهظة، ألا وهو إشعال جبهة المواجهة من جديد في الضفة، وإحياء القضية الفلسطينية من الموات، وإنقاذها من المصير المشؤوم الذي أصبح يعرضها قاب قوسين أو أدنى لخطر الزوال الكامل.