
مثّل الحضور الدرزي في المشهد السوري عبر عقود طويلة أحد محاور التوازن الوطني في سوريا بتركيبته الطائفية الدقيقة، وتاريخه المقاوم في معارك التحرر والاستقلال، وموقعه الحدودي مع إسرائيل.
ومع تعقّد الصراع السوري بعد قيام الثورة 2011، وحتى انتصارها وسقوط نظام الأسد؛ وتكثيف الاحتلال محاولاته لربط مصالحه الأمنية والديموغرافية بالطائفة الدرزية، لإيجاد موطئ قدم دائم له في الجنوب، تتبدى حاجة ملحة لإعادة تموضع الدولة السورية في هذه البقعة الحساسة. وعاد السؤال القديم ليُطرح بروح جديدة: هل يمكن للدولة السورية الجديدة أن تستعيد موقعها الرمزي والسياسي في جبل العرب، أم أن اليد الإسرائيلية ستمتد لتجعل من الدروز رأس حربة في مشروع التقسيم؟
أولاً: الحسابات الإسرائيلية وجذور الأزمة الدرزية
رغم أن المشروع الصهيوني يحمل طابعًا إثنيًا واستئصاليًا، فإنه يحرص على توظيف الأقليات في صراعاته مع المحيط العربي، وقد برز ذلك بوضوح في سعي إسرائيل إلى توسيع نطاق أمنها الحيوي باختراق الطائفة الدرزية في الجولان والجنوب السوري، وذلك من خلال ثلاثة مسارات رئيسية أهمها دعم بعض الفصائل المحلية ذات النزعات الانفصالية أو المطالبات بالحكم الذاتي، وهو ما أكده تقرير لمجلة فورين بوليسي، كما عمد إلى توظيف تجربة دروز 1948 بفلسطين المحتلة في الجيش الإسرائيلي لتبرير وجود رابط عضوي بين الطائفة والكيان الإسرائيلي، وأخيراً حاول تسويق سردية مزيفة مفادها أن الدروز “طائفة مضطهدة لا تجد أمانًا إلا تحت جناح القوة الإسرائيلية”، في محاولة لإقناع دروز سوريا بأن التحالف مع تل أبيب خيار واقعي و”مفيد”!
ورغم أن هذا الخطاب لم يجد قبولًا واسعًا، كما أنه يستدعي موروث الأمس الغابر في واقع اليوم المتخم بالتطلعات كي يستثمر في الفراغ السياسي، ويشعل المظلومية الدرزية بين السويداء والحكومة المركزية، مع تسويق إسرائيل كضامن للحريات والحكم الذاتي.
ثانياً: مسؤولية النظام السابق عن الأزمة
لا يمكن قراءة التحركات الدرزية باتجاه إسرائيل دون الاعتراف بأن ما يحدث اليوم هو نتاج الأمس، إذ تعاطي النظام البعثي مع السويداء ـ كغيرها من المحافظات ـ بسياسة الموازنات بين الطوائف؛ سواء باستغلالها لمصلحته أو توظيفها ضد غيرها خاصة المكون السني الذي يشكل الأغلبية، ورغم قلة الشخصيات النافذة من الدروز في مناصب الدولة العليا سياسياً وعسكرياً، بل ومدنياً؛ إلا أنه وظف بعضهم في مناصب حكومية.
ولكن لم يشعر الدروز بالشراكة الوطنية أو وجود رابطة قوية مع المركز، كما عانى الجنوب عموماً ـومن أهم مكوناته الدروز ـ من عدم وجود مشاريع تنموية على مر عقود طويلة، بالإضافة إلى غياب أي سردية جامعة تستوعبهم كشركاء في الوطن مما خلق بيئة خصبة للفراغ الذي يحاول العدو التمدد فيه اليوم.
ورغم وجود قوى وأحزاب معارضة لسلطة حافظ الأسد في السبعينيات؛ إلا أنه سرعان ما تم احتواؤها، وظلت المعارضة الدرزية ضعيفة وباهتة، حتى اندلعت الثورة السورية، إذ عاود اليسار السياسي ـ وجمهوره من الشباب ـ الظهور في السويداء وتأسيس اللجنة الوطنية لدعم الثورة، التي تطورت إلى “تجمع القوى الوطنية”، وانقسم التصور السياسي بين تيارين: أحدهما يريد سوريا موحدة، والآخر يريد نظاماً سياسياً لا مركزياً بإدارة ذاتية، إلا أن أياً من القوى السياسية الدرزية لم يدع إلى الانفصال كما هو الحال اليوم.
بعد سقوط نظام الأسد، ونتيجة تلك التراكمات، تعوّد الدروز على الفراغ السياسي وعدم الانتماء إلى المركز. لقد تصاعد الانقسام داخل الطائفة بين تيارات رافضة للاحتلال وموالية للحكومة الحالية؛ مثل “حركة رجال الكرامة”، في مواجهة الخطاب المتشدد الذي تصاعد بقيادة الشيخ حكت الهجري والمجموعات المسلحة القريبة منه مثل “لواء الجبل، و”المجلس العسكري في السويداء”، والتي ترى في التنسيق مع الكيان الإسرائيلي مخرجًا، وتطالب بالحماية الخارجية، أو إنشاء واقع سياسي جديد خاص بهم إما بالانفصال عن الدولة، أو اللامركزية الموسعة بعيداً عن تحكم النظام المركزي.
ترى تلك المجموعات أن صراع السلطة الحالية ضد النظام السابق لا يخص الدروز، وبالتالي فلا علاقة لهم بانتصاره عليه وما تمخض عنه من سلطة جديدة، إلا في تمهيده الطريق إلى صناعة واقعهم السياسي الجديد، مما فتح الباب أمام شبكات الاختراق الخارجية لبسط نفوذها.
ثالثاً: المشروع الرمزي الإسرائيلي واختراق الدروز
إسرائيل لا تكسب الحروب لأنها على حق، بل لأنها تستثمر في ضعف خصومها، وتُظهر نفسها كحامٍ للأقليات، وهي لا تريد اختراق الدروز لتهديد الدولة السورية كهدف توسعي فحسب، بل تسعى لجعلهم شهادة “عربية” جديدة على شرعية وجودها في المنطقة، مؤيدة روايتها بتسويق النموذج الدرزي في أرض فلسطين المحتلة؛ لتشجيع بقية الأقليات وغيرها على الانضواء تحت لوائها.
تحاول دولة الكيان الصهيوني أن تروج لدعاية أيديولوجية-سياسية مزيفة؛ تهدف إلى التطبيع والتحالف اليهودي مع الأقليات التوحيدية في الشرق الأوسط كما يسمونها؛ كالدروز والعلويين والمسيحيين وغيرهم ضد “الأغلبية السنية”، ودمجها في مشروع “يهودية الدولة”، وهذا ما يروّج له بعض الباحثين والمفكرين الصهاينةـ خاصة التيار الصهيوني الديني أو القومي ـ وما يدرس في المناهج التعليمية، ويكرره بعض السياسيين مثل نتنياهو، الذي يسميهم “بالإخوة في الدم والمصير”!
وفي سبيل تأكيد ذلك يدعون وجود روابط بين اليهود والدروز تقوم على مجموعة من التأويلات التاريخية والدينية المشكوك فيها، وتوظيف لبعض العناصر العقائدية أو الرمزية عند الدروز لتسويق فكرة “القرابة الروحية” بينهم، فالدروز “طائفة توحيدية” مما يعني أن عقيدتهم متأثرة بالفكر اليهودي الذي يؤمن بالتوحيد الخالص بزعمهم، ويقصدون بذلك الجوانب المخالفة عندهم لبقية المسلمين، كما أن هناك “رموزا روحية” مشتركة مثل تقديس النبي شعيب ـ وهو يثرون صهر النبي موسى في التوراة ـ والحج إلى مقامه قرب طبرية.
كما تدّعى مراكز بحثية وباحثون يهود؛ وجود جذور مشتركة بين الدروز وبدو فلسطين وبين اليهود، كما زعمت دراسة أكاديمية لإيران الحايك عام 2013م في الجامعة العبرية بعنوان: الحلقة المفقودة في الأصول الأوروبية اليهودية. ودراسة أخرى بعنوان “أبناء إبراهيم في حقبة الجينوم”صادرة عام 2012م عن المجلة الأمريكية للجنوم البشري، وغيرها من دراسات.
ومن الواضح أن كل هذه الدعاوى الإسرائيلية التي تزعم وجود صلة دينية مع الدروز ملفقة، بهدف توطيد التحالفات الأمنية والسياسية فحسب، فالدرزية مذهب باطني خرج من الطائفة الشيعية الإسماعيلية؛ متأثراً ببعض الفلسفات الغنوصية ومختلطاً بمفاهيم إسلامية، ولا تشترك مع اليهودية في المرجعيات الدينية ولا الإيمان بالكتب اليهودية، كما يؤكدون على أنهم مسلمين في كتبهم وتصريحاتهم، وترجع أصولهم العرقية ـ التي يعتزون بها للغاية ـ إلى خليط من القبائل العربية أو ما عُرف تاريخياً “بالتنوخيين”، كما أكدت ذلك دراسات عبرية؛ منها دراسة مشتركة بين باحثين من جامعتي تل أبيب وحيفا وهم: جل أتمزون وجمال زيدان وإيتان فريدمان، ونشرت في المجلة الأوربية للجينوم البشري عام 2015، وأجريت الدراسة على عائلات درزية من بيت جن ومجدل شمس، وخلصت إلى النقاء العرقي العربي للدروز دون أي اختلاط بعرقيات أخرى.
واستثماراً لهذه الادعاءات فرضت الدولة الصهيونية الخدمة العسكرية الإلزامية على الدروز وتقدمهم كطائفة مخلصة ومتميزة باعتبارهم “العربي الجيد” المتعاون مع الاحتلال، بخلاف بقية العرب الفلسطينيين الذين يعانون التمييز والعنصرية باعتبارهم العربي السييء” الرافض له، بينما يشهد الواقع أن دروز 1948 رغم ولائهم الظاهري ـ يعانون من التهميش والعنصرية والتجريد من حقوق المواطنة إذ يعاملون كمواطنين من الدرجة الثانية بموجب قانون يهودية الدولة، وقد أظهرت دراسة نشرتها جامعة حيفا أن أكثر من 60% من الدروز الإسرائيليين لا يثقون بالمؤسسات الرسمية، ويرون أنفسهم “مواطنين من الدرجة الثانية.
والمطلوب من الدولة السورية – اليوم لا غدًا – أن تبني مصدات داخلية تقطع الطريق على هذه الرواية، وذلك عبر، إطلاق حملات إعلامية ناعمة تسلط الضوء على معاناة دروز فلسطين الذين قاتلوا في الجيش الإسرائيلي ثم جُردوا من حقوقهم، ونشر روايات درزية سورية ترفض الاحتلال وتكشف طبيعة المشروع الإسرائيلي كقوة عنصرية طاردة للجماعات، لا حامية لها، وتقديم الدروز بوصفهم جزءًا من معركة سوريا الكبرى، لا “طائفة على الهامش”.
رابعاً: الردع الذكي واحتواء الجنوب
ولكن كيف يمكن للدولة السورية أن تنزع الفتيل قبل انفجاره، وتستعيد الدروز كقوة وطنية داخل خريطة الصراع؟
ينبغي أن تبنى الدولة السورية الجديدة سياستها تجاه السويداء على عناصر استراتيجية لا أمنية فقط، ودون الاعتماد على الشعارات الوطنية الفضفاضة والمزايدات على الوطنية أو الوصم بالخيانة، بل عبر خطة مركبة ومتدرجة تنبع من فهم دقيق للواقع الطائفي والسياسي والاجتماعي، وتتمثل في عدة أبعاد:
المستوى السياسي: تعيين مبعوث خاص للرئاسة لإدارة شؤون السويداء، مع محاولة بناء الثقة من جديد بالعمل على استيعاب الكفاءات الدرزية في الدولة ومؤسساتها وبعض مناصبها المهمة بشكل مدروس يعزز الانتماء ولا يهدد كيان الدولة نفسه.
المستوى التخطيطي: بناء شبكات تحالفات درزية في إطار الدولة السورية، وذلك بالتنسيق مع دروز فلسطين الرافضين للاحتلال، واستثمار العلاقات مع دروز لبنان الرافضين للمشروع الإسرائيلي، ودعم الفصائل المحايدة من دروز سوريا وغيرها لتقديم نموذج “درزي وطني مقاوم” كخط دفاع أول ضد الاحتلال.
المستوى الإداري: يجب العمل على إقرار قانون اللامركزية الموسعة دون مساس بوحدة الدولة، وذلك بالإدارة الذاتية عملياً، عن طريق تمكين الإدارة المحلية في السويداء من تسيير شؤونها الاقتصادية والخدمية، فالحراك المجتمعي واسع، ويتطلب مقاربة تفكيكية لا اختزالية، وتقنين صلاحيات واضحة ضمن إطار الدولة السورية.
المستوى الاقتصادي: بإطلاق خطة تنموية عاجلة بإشراف المجتمع المحلي لتوفير حياة كريمة لأهالي الجنوب عموماُ بالتوازي مع بقية المناطق السورية.
المستوى الأمني: إعادة هيكلة القوى الأمنية في الجنوب بطريقة غير استفزازية، على أن يكون الردع محدوداً ونوعياً قدر الإمكان؛ بدلًا من تحويل الجنوب إلى ساحة اقتتال دائم، وذلك بالتفريق بين الفصائل المسلحة المتنوعة، والعمل على احتواء ما يمكن من تلك الحركات المسلحة لا سحقها بالضرورة، وإعلان العفو غير المشروط، وإصدار ضمانات بعدم الملاحقة الأمنية للفصائل التي تتخلى عن السلاح أو تنضوي تحت المظلة الوطنية، والتمييز بين من يحمل السلاح بدوافع وطنية أو محلية وبين من يرتبط بمشروع خارجي، والتركيز على استهداف الخلايا المرتبطة مباشرة بالعدو الإسرائيلي بشكل جراحي.
المستوى الإعلامي: توظيف أو دعم منصات إعلامية درزية وطنية تنبذ الارتباط بالخارج، وتعزز الانتماء لسوريا الوطن، مع وجود إنجازات حقيقية تساعد على الترويج لهذا التوجه، وبناء سردية وطنية جديدة تعمل على إعادة تعريف العلاقة بين الدولة والدروز من الهيمنة إلى الشراكة، وتحويل الخطاب الرسمي تجاههم من اعتبارهم “أقلية” إلى كونهم ركنًا تأسيسيًا في الهوية السورية وإعادة الاعتبار للرموز الوطنية والمناضلة من الدروز في مناهج التعليم والإعلام، بوصفهم رموزًا وطنية لا طائفية، ودعم قنوات درزية مستقلة تروّج للانتماء الوطني دون وصاية حزبية.
وأخيراً: فلا يمكن مقاومة المشروع الإسرائيلي في الجنوب دون تبني استراتيجية ذات طبيعة مرنة؛ تهدف إلى إدماج الدروز في وطنهم، وإقناعهم بأنه ليس من مصلحتهم أن يكونوا أدوات في مشروع صهيوني يستثمر في تمزيق وحدة سوريا، كما أنه ليس من مصلحة الدولة أن تنظر إليهم بعين الارتياب فقط دون علاج للمشكلة.
إن أكثر الدروز لا يطلبون امتيازات، بل ضمانات حقيقية بالمواطنة والكرامة والقيمة الاعتبارية قبل المعيشية، لقد خسرنا كثيرًا حين تعاملنا مع “المكونات” كجزر منعزلة، وحان الوقت لإعادة هندسة عقد وطني جديد تكون فيه كل الطوائف شركاء وأصحاب قضية لا رهان لأطماع الآخرين.
فالمطلوب اليوم هو استراتيجية جديدة وعقد وطني جديد بأسرع وتيرة ممكنة؛ وإلا فستبقى السويداء قلقة، ويظل الجنوب السوري ساحة مفتوحة لكل من يريد أن يتمدد فيه، ليقتطع من الجغرافيا والهوية باسم الحماية الزائفة أو التحرر المشروط.