
لم يكن اندلاع الحرب بين إيران وإسرائيل في يونيو 2025 مجرد تصعيد عسكري، بل لحظة كاشفة لعلاقات القوى في النظام الدولي. ففي الوقت الذي تعرضت فيه إيران لأقسى ضربة منذ حربها مع العراق في ثمانينيات القرن الماضي، كان موقف موسكو خافتًا؛ حيث اكتفى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعرض استعداده للتوسط بين الطرفين خلال اتصاله بالرئيس الأمريكي ترامب، وأدانت الخارجية الروسية الغارات الإسرائيلية على إيران. ولم تُرسل موسكو أسلحة وعتاد رغم أنَّ العلاقة الروسية الإيرانية بدت متينة على مدار السنوات الأخيرة، لكن الحرب بيّنت حدودها حين تعرضت لاختبار في الميدان.
حسابات موسكو
تُظهِر تجربة العقد الماضي أنَّ العلاقة بين روسيا وإيران اتخذت منحًى مصلحيًّا أكثر منها تحالفًا استراتيجيًّا. صحيح أنَّ الطرفين تقاطعا في ملفات عديدة – من دعم نظام بشار الأسد، إلى مواجهة العقوبات الغربية، وتعزيز التبادل العسكري خلال حرب أوكرانيا – إلا أنَّ تلك التقاطعات لم تُترجم إلى التزامات دفاعية. فطهران وفّرت لموسكو مسيّرات انتحارية ودعمًا دبلوماسيًّا في المنابر الدولية، لكنها لم تحصل على ضمانات أمنية مقابلة.
من أسباب غياب الدعم الروسي المباشر لإيران هو الأولوية المطلقة التي تمنحها موسكو لجبهتها الأوكرانية. فالجيش الروسي، منذ عام 2022، يخوض معركة استنزاف طويلة، ويحتاج كل ما يمكن تعبئته من موارد بشرية وتسليحية واستخبارية. وفي هذا السياق، لم يكن منطقيًّا أن تُفرّغ روسيا قدراتها الدفاعية أو الجوية لمساندة إيران، خاصة أنَّ طهران لا ترتبط معه باتفاقية دفاع مشترك. كذلك لم تعد روسيا تعتمد بشكل رئيس على الدعم الإيراني كما كانت في بداية الحرب مع أوكرانيا. فقد تمكنت بدءًا من عام 2023، من توطين إنتاج الطائرات دون طيار من طراز شاهد.
كذلك فإن روسيا بصفتها قوة عظمى لا ترى في إيران حليفًا بمكانة الصين، بل شريكًا تكتيكيًّا في معارك مؤقتة. وحين تتغير أولويات موسكو، تتحول العلاقة إلى عبء أو على الأقل إلى ملف ثانوي.
الصداقة الروسية مع تل أبيب
رغم خطابها الحاد تجاه الغرب، تحرص روسيا على عدم تجاوز “الخطوط الحمراء” مع إسرائيل، إذ توجد مصالح متشابكة تجعل الكرملين حريصًا على عدم استعداء تل أبيب. فموسكو التي حافظت على علاقة مرنة مع دولة الاحتلال منذ تسعينيات القرن العشرين، تنظر إلى إسرائيل باعتبارها بوابة مهمة إلى المصالح الغربية، وفاعلًا حيويًّا في النظام الإقليمي لا يمكن تجاهله. وقد أدى حرص روسيا على عدم التصعيد مع إسرائيل في عام 2010، إلى تجميد صفقة بيع منظومة S-300 إلى إيران لعدة سنوات رغم توقيع العقد، ما ترك انطباعًا عميقًا لدى الإيرانيين بأنَّ روسيا شريك انتهازي أكثر منها حليفًا موثوقًا.
وفي سوريا قبل سقوط نظام بشار الأسد، سمحت موسكو بانتظام للطائرات الإسرائيلية باختراق الأجواء السورية واستهداف مواقع الحرس الثوري والميليشيات الموالية لطهران، دون تدخل من منظوماتها الدفاعية المنتشرة في البلاد. بل حدث هذا عبر آلية تنسيق عسكري مباشر عُرفت باسم “لجنة الاتصال الروسية الإسرائيلية”، والتي ضمنت أن تبقى الغارات الإسرائيلية بعيدة عن المصالح الروسية.
ولذا يقول وزير الخارجية الإيراني السابق جواد ظريف في مذكراته (إن روسيا تستخدم ورقة إيران لأهدافها الاستراتيجية، هذا ما حدث دائمًا، وبيعت إيران بسببه. هذه الحقيقة واضحة وغير قابلة للإنكار).
وفي المقابل، امتنعت إسرائيل عن تزويد أوكرانيا بأي سلاح نوعي، بما في ذلك منظومة القبة الحديدية، رغم الضغوط التي مارستها كييف منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في عام 2022، مراعاة لحساسية روسيا في هذا الملف.
وبالتالي، فمن منظور الربح والخسارة، لا تجد موسكو مصلحة في الانحياز العميق لطهران، خصوصًا وأنَّ دعم إيران لن يغير ميزان الحرب، بل قد يُسهم في توسيعها إلى مساحات يُفضّل الكرملين تجنبها.
حدود الشراكة الاستراتيجية
مع توقيع اتفاقية الشراكة الاستراتيجية الروسية الإيرانية في يناير 2025، ظنّ البعض أنَّ موسكو باتت ملتزمة بدعم طهران في حال تعرضها لحرب. لكن غياب بند الدفاع المشترك أو أي إشارة إلى التزامات عسكرية أضفت على العلاقة طابعًا تكتيكيًّا أكثر من كونه تحالفًا مبنيًا على التزامات متبادلة.
يعكس ذلك نمطًا ثابتًا في السياسة الروسية تجاه الحلفاء؛ حيث تُوظَّف التفاهمات الثنائية كأدوات لتسهيل التنسيق التكتيكي أو لاحتواء التحولات الكبرى في تموضع الشركاء، مثل منع انزياحهم نحو الغرب، لكن من دون أن تترتب عليها التزامات مُكلِفة أو استعداد لتحمّل خسائر مباشرة. ومن هنا يمكن فهم التناقض الصارخ بين دعم إيران لروسيا بالسلاح في حرب أوكرانيا، وموقف موسكو الخافت إزاء الضربات الإسرائيلية التي طالت العمق الإيراني، والذي اقتصر على تصريحات رمزية دون إجراءات دعن ملموسة.
وفي مفارقة مثيرة، يمكن أن تستفيد روسيا اقتصاديًّا من الضربات الإسرائيلية على إيران. فقد أدت هذه الضربات إلى ارتفاع أسعار النفط عالميًّا، مما يزيد من عائدات موسكو التي تعتمد بشدة على صادرات الطاقة في تمويل حربها في أوكرانيا. ومع استمرار تدفق الطلب على الغاز والنفط الروسي في السوق الآسيوية، لم يكن لدى موسكو حافز لتقويض هذا المكسب عبر الدخول في صراع مباشر.
استياء طهران لا القطيعة
لا يبدو أنَّ طهران بصدد مراجعة جذرية لعلاقتها مع موسكو. فهي تدرك أنَّ البدائل محدودة، وأنَّ روسيا تبقى شريكًا مهمًا في مواجهة الضغط الغربي. لكن المؤكد أنَّ الثقة السياسية بين الطرفين ستتآكل، وأنَّ إيران ستعيد حساباتها بشأن جدوى تقديم مساعدات نوعية لروسيا في المستقبل. بل إنَّ التوتر قد يُدفع نحو العلن إذا ما شعرت طهران بأنَّ موسكو تحاول استثمار أزمتها داخليًّا عبر السوق النفطية أو إقليميًّا عبر صفقات مع إسرائيل على حسابها.
تُظهر حرب يونيو 2025 أنَّ العالم لا تُحكمه الشعارات، بل المصالح. فقد وقفت إيران في مواجهة مفتوحة مع إسرائيل، وهي تُقاتل منفردة، رغم كل ما قدّمته لموسكو. في المقابل، اكتفت روسيا بالتصريحات، وفضّلت التفرّج، لأنَّ كلفة الدخول في الحرب تفوق المكاسب المتوقعة.
عمليًّا، فإنَّ عرض بوتين للوساطة يظهره بمظهر “الضامن العقلاني” أمام إدارة ترامب، ويعزز دوره كشريك يمكن الوثوق به في ملفات أمنية كبرى، على أمل أن يؤدي ذلك إلى كسر الجمود في العلاقة الروسية الأمريكية، وربما الحصول على تنازلات أمريكية في ملف الحرب الأوكرانية أو تخفيف العقوبات الغربية. بهذا المعنى، فإنَّ الوساطة الروسية تحاول إعادة إنتاج دور روسيا كفاعل دولي لا غنى عنه، حتى في أزمات لا تملك فيها القدرة الحقيقية على التأثير في مسارها الميداني.
في ضوء ما سبق، يصعب توصيف العلاقة بين طهران وموسكو كشراكة استراتيجية بالمعنى الكامل؛ إذ تفتقر إلى العديد من المحددات التي تؤسس لمثل هذا النوع من التحالفات العميقة والمستقرة. فرغم تقاطعات المصالح الظرفية، خصوصًا في مواجهة النفوذ الغربي، فإنَّ الفجوة في المصالح، وتضارب الحسابات الجيوسياسية، وغياب الثقة المتجذّرة تاريخيًّا، تضع سقفًا صلبًا أمام تطور العلاقة إلى مستوى أعلى من التنسيق، وستبقى العلاقة محكومة بطبيعتها المحدودة، تعاون مرن حين تلتقي المصالح، دون أوهام تحالف دائم أو شراكة استراتيجية مكتملة الأركان.