
شهدت مناطق الساحل السوري مواجهات عسكرية بين فلول النظام السابق، وقوات الإدارة السورية الجديدة، خلال الفترة 6-10 مارس 2025، أسفرت عن سقوط مئات القتلى من الأجهزة الأمنية والعسكرية السورية ومن المدنيين السوريين وكذلك من المتمردين المحسوبين على النظام السابق. وصحيح أنَّ الاشتباكات الواسعة انتهت لكن ارتداداتها ما زالت تتفاعل خصوصًا على المستوى الداخلي، حيث انسحب عدد كبير من المهاجمين إلى الجبال واندمج قسم آخر بين السكان، ما يعني امتلاكهم قدرات مستقبلًا على شن هجمات جديدة.
أولًا: الخلفية والأسباب
خلال الأسابيع التالية لسقوط نظام الأسد، بدأت هجمات محدودة لفلول النظام السابق ضد السلطات الجديدة وصلت إلى نحو 46 هجومًا في عدة محافظات منذ منتصف يناير حتى مطلع مارس 2025، قادتها ميليشيات جرى تشكيلها حديثًا، وتشمل:
- “المقاومة الشعبية السورية“، التي تضم وحدة تُعرف بـقوات درع الساحل، وتتخذ من محافظات اللاذقية وطرطوس وحمص وحماة مقرًا لها. وقد هدّد قائد درع الساحل، العقيد السابق في الحرس الجمهوري مقداد فتيحة، بمواصلة استهداف الحكومة الجديدة.
- جبهة المقاومة الإسلامية السورية (المعروفة أيضًا باسم “أولي البأس”)، وتتخذ من محافظتي درعا والقنيطرة مقرًا لها، ويُرجّح أنَّها تعمل كوكيل مباشر لإيران و”حزب الله”.
- بقايا “قوات الدفاع الوطني“، وهي تشكيل يضم الوحدات غير النظامية التي نشطت خلال حكم نظام الأسد. وقد بدأت هذه القوات بإعادة تنظيم صفوفها خصوصًا في محافظة دير الزور، حيث اعتقلت الحكومة الجديدة عددًا من أفرادها.
أخذت الأحداث منحى أكثر حدة وتنظيمًا في 6 مارس عندما شنت فلول النظام السابق عملية عسكرية منسقة شارك فيها مئات العناصر تحت قيادة ما سمّي بـ “المجلس العسكري لتحرير سوريا”، والذي أعلن تأسيسه العميد غياث دلا، القائد السابق لـميليشيا الغيث ضمن صفوف الفرقة الرابعة التي كان يقودها ماهر الأسد.
وشمل هجوم الفلول مدن الساحل السوري الكبرى -اللاذقية، طرطوس، جبلة، بانياس- والقرداحة وغيرها من أرياف الساحل السوري، والقواعد العسكرية كمحيط قاعدة حميميم ومطار اسطامو، والكلية البحرية.
وفي الوقت الذي حاول فيه المسؤولون في الحكومة الجديدة استيعاب الهجوم المفاجئ، تعرضت قوات الدعم والمؤازرة إلى كمائن عديدة بعد أن قطع المهاجمون الطرق السريعة بين إدلب وحمص وحماة باتجاه محافظتي اللاذقية وطرطوس، وتجاوز أعداد الضحايا من قوات الأمن نحو 300 شخص فضلًا عن عشرات المفقودين، وبسبب شراسة الهجمات وقلة عناصرها اضطرت الحكومة إلى الاستعانة بفصائل أخرى لصدّ الهجوم كما أنَّ كثيرًا من المدنيين من محافظات إدلب وحماة وغيرها توجهوا إلى المناطق الساحلية لمساندة الحكومة، ونجحوا في فك الحصار عن قوات الأمن، وفجرت تلك المواجهات طاقات الغضب الكامنة في صدور بعض المدنيين والمقاتلين حديثي الانتساب للقوات المسلحة وأجهزة الأمن، فحدثت انتهاكات بحق بعض المدنيين بذريعة أنَّهم يمثلون حاضنة اجتماعية للمسلحين الذين شنوا الهجمات، وانتهت الأحداث بانسحاب المهاجمين إلى عمق القرى الجبلية وهروب قسم منهم إلى لبنان بحلول الثامن من مارس. وهنا بدا أنَّ الألغام التي أراد المهاجمون وضعها في وجه الإدارة الجديدة بدأت تنفجر لتهدد السلم الأهلي، وتضرب صورة الحكومة الجديدة داخليًّا وخارجيًّا.
لكن ما الأسباب التي أوصلت الأحداث إلى هذه لنقطة الحرجة؟
- حالة عدم الرضى لدى أطراف إقليمية ودولية تسعى إلى تقويض جهود إدارة دمشق، وإدخال سوريا في متاهة الحرب الأهلية الطائفية عبر دعم فلول النظام السابق، وإثارة النعرات الطائفية تحت ذرائع دعم الأقليات، وأبرزها:
- المشروع الإيراني الهادف إلى استعادة النفوذ وحرية الحركة في سوريا.
- المشروع الإسرائيلي، الذي يهدف إلى عدم استقرار سوريا، وجعلها دولة ضعيفة مقسمة.
- عدم إطلاق مسار العدالة الانتقالية والمحاسبة للمجرمين، وعدم تمشيط الساحل بشكل كامل من قبل الإدارة الجديدة، والتساهل مع المطلوبين، وعدم صدور قوائم تحدد أسمائهم، ما جعل جميع أبناء الطائفة العلوية يشعرون بالتهديد، وبالتالي بقاء حالة خوف وعدم ثقة بالوضع الجديد، ما ساهم بدفع الكثير منهم للتحالف مع الفلول.
- خسارة /وفصل أعداد غفيرة من المدنيين والعسكريين لوظائفهم خلق وضعًا اقتصاديًّا واجتماعيًّا متفجرًا كان واضحًا أنَّه سيكون له ارتدادات على السلم الأهلي.
- محاولة مسؤولي وأفراد النظام السابق والمتورطين بانتهاكات وجرائم حرب سابقة ضد المدنيين تصعيد الأحداث في عموم المجتمع السوري، مما يتيح لهم الهروب من أي محاكمة مستقبلية أو الحصول على عفو شامل.
هل تتكرر الأحداث؟
كشفت الأحداث الأخيرة عن احتقان طائفي شديد في أوساط المجتمع السوري، وعمّقت الشروخ الموجودة فيه، وألحقت أضرارًا بالغة بصورة الحكومة السورية الجديدة، كما بدَّدت أحداث الساحل معظم الجهود التي بذلتها الإدارة الجديدة على مدى الأشهر السابقة لإثبات قدرتها على تجنّب أعمال العنف الطائفي وتوحيد البلاد وضبط السلاح المتفلت. كما أنَّ المخاطر الخارجية لأحداث الساحل لا تقل عن نظيرتها في الداخل، فمن الواضح أنَّ أحداث الساحل ألحقت ضررًا بجهود الحكومة لرفع العقوبات الأمريكية، ما يعني بقاء التحديات أمام نجاح الحكومة في التعامل مع الأوضاع الاقتصادية الصعبة للسوريين. ووفرت هذه الأحداث بالنسبة لبعض الدول الساعية للضغط على حكومة دمشق ورقة قابلة للتسويق دوليًّا ستستخدمها للابتزاز والمساومة، كما تفتح هذه الأحداث الباب أمام التدخلات الأجنبية تحت ذريعة حماية الأقليات.
بدورها، أدركت الحكومة السورية مقدار الضرر الذي لحق بصورتها جراء الانتهاكات الواسعة التي ارتكبتها فصائل عسكرية محسوبة عليها، فسارعت إلى الاعتراف بوقوع الانتهاكات، وتعهدت بالتحقيق في أحداث الساحل من خلال إنشاء لجنة تحقيق ومحاسبة المسؤولين، لكن من الواضح أنَّ ثقة الداخل والخارج تتطلب خطوات إضافية مهمة على رأسها إشراك فئات المجتمع في العملية السياسية وتشكيل حكومة بعيدة عن الإقصاء، وتجريم التحريض الطائفي على أرض الواقع وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، والإسراع في إطلاق مسار عدالة انتقالي يكفل محاسبة المجرمين، ويحدّ من عمليات الانتقام خارج إطار القانون، ومطالبة اللجنة المكلفة بالتحقيقات بنتائج شفافة تحدد المسؤولين عن الجرائم التي حصلت والقدرة على محاسبتهم، بالإضافة لإنصاف الضحايا من الطرفين.
إنَّ الأسباب التي أدت إلى الهجمات لا تزال قائمة، وبالرغم من تراجع الهجمات في الساحل لكنها مستمرة بين الفينة و الأخرى، حيث انتهت الاشتباكات بانسحاب عدد كبير من المهاجمين إلى الجبال أو الحدود اللبنانية المفتوحة بينما اندمج قسم آخر بين السكان، ما يعني امتلاكهم قدرات مستقبلًا على شن هجمات جديدة وإن لم تكن بنفس الحجم السابق، خصوصًا وأنَّهم مقاتلون متمرسون سابقًا ضمن قوات النظام السابق وأجهزة الأمنية ويخضعون لقيادة عسكرية مركزية تمرست لسنوات في القتال ضد قوى الثورة السورية، كما أنَّ شبكات الدعم الداخلية والخارجية ستعمل على مد هذه الفلول بالدعم. هذا عدا عن تضرر البيئة الحاضنة لهذه القوى من سقوط النظام، حيث فقد الآلاف مصادر دخلهم بعد حل جيش الأسد وأجهزة أمنه.
تجنب تكرار الأحدث: الحلول المستدامة
ومن هنا، فيجب التأكيد على ضرورة اتخاذ خطوات جادة تسهم في حلول مستدامة لتلافي تكرار الأحداث المأساوية، ولعلنا نسجل هنا بعضًا من الملاحظات التي تساهم في فهم الأحداث والهجمات الأخيرة وأبعادها ثم التفكير في تدابير مضادة لهجمات مشابهة:
أولًا: ملاحظات على الأحداث الأخيرة
- حاولت فلول النظام السابق جر قوات الأمن والجيش السوري إلى حرب عصابات طويلة الأمد، ورغم أنَّها لم تنجح في مساعيها لكنها هدفت لتحقيق أهداف أخرى، تتمثل في إحداث فتنة طائفية لإرباك الإدارة الجديدة، وتصدير ضعفها في الالتزام بحماية السلم الأهلي وضبط الأمن في البلاد.
- استثمر المتمردون جيدًا في مشاعر الخوف والإقصاء داخل الطائفة العلوية وعناصر النظام السابق ما أمكنهم من ضم المئات منهم، خصوصًا بعد حلّ الجيش السابق وأجهزته الأمنية، وسياسات التسريح التي تبنتها الإدارة الجديدة في إطار مكافحة الفساد والمحسوبية وتخفيف الأعباء المالية.
- كان التخطيط العسكري للفلول منسَّقًا ومنظَّمًا؛ حيث نُفذت الهجمات بتوقيت واحد على عدة محاور وكانت ضرباتها سريعة تعتمد على تنفيذ كمائن وهجمات مباغتة، وقطع الطرق بين المدن الرئيسية، لعرقلة طرق الإمداد، وإجبار القوات الحكومية على توزيع قواتها بدلًا من التركيز على نقطة واحدة.
- كشفت الهجمات عن ضعف أجهزة الأمن الجديدة في منطقة الساحل، إذ لم تتوافر لديها معلومات/استعدادات مسبقة عن الهجمات، كما تمكنت المجموعات المهاجمة من فرض سيطرتها وإدامتها على قطاعات جغرافية أو مراكز نوعية في المنطقة.
- تبيّن أنَّ الكلام عن سحب السلاح خارج إطار السلطة غير واقعي، كما أنَّ بقاء انتشار السلاح، سيؤدي إلى حالة من عدم الثقة في المستقبل بين السلطة وسكان هذه المناطق. كذلك سيدفع مناطق أخرى، خصوصًا السويداء، إلى رفض تسليم أسلحتها بعد ما راقبت الانتهاكات في الساحل.
- يبدو أنَّ ملف حل الفصائل لم يتم على الشكل المطلوب، ويتجلى ذلك في السماح لمجموعاتٍ ومدنيين من خارج المؤسّسة العسكرية بالمشاركة في المعارك على “مبدأ الفزعة” وتنفيذ انتقامات واسعة.
كيف يمكن الحد من هذه المواجهات ومثيلاتها؟
- أمام القوات الأمنية السورية الكثير من العمل لتعزيز قدرات أجهزتها على جمع المعلومات في المنطقة، حيث بدا واضحًا أنَّ الفلول عولت على قدرتها بتنفيذ اضطرابات أمنية طويلة الأمد، بالاعتماد على الفجوات الاستخباراتية والأمنية للدولة السورية.
- تعزيز الإجراءات الأمنية لحماية المناطق الأخرى ذات التنوع الطائفي والحيلولة دون تمدد الاشتباكات لها، وتفعيل المشاركة المجتمعية في جهود حفظ الأمن.
- توجد حاجة لإعداد خُطط احترافية مسبقة تعتمد على قوات تدخل سريع مدربة ومنضبطة للتصدي لأي هجمات مستقبلية دون الحاجة للنفير العام الذي تتخلله أجواء الفوضى وضعف الانضباط.
- قضية السلاح المتفلت، تتطلب إيجاد آليات أسرع في ضبط السلاح ربما من خلال جمع السلاح الثقيل والبدء بإجراءات ترخيص السلاح لدى المدنيين كمرحلة أولى وسن قوانين تجرم امتلاك السلاح دون رخصة مع تسهيل آليات هذه الرخص تشجيعًا لها.
- يكمن الحلّ الأمثل لمواجهة الفلول في تكثيف العمل الاستخباراتي وتنفيذ عمليات عسكرية استباقية دقيقة، فالمعركة مع الفلول ليست مجرد حسم سريع، بل استنزاف طويل يتطلب إستراتيجيات متعددة ومتجدّدة للقضاء عليها بشكل نهائي.
- ضرورة استمرار ملاحقة الفلول ومتابعتها عسكريًّا، بالتوازي مع فتح قنوات تواصل اجتماعية مع رجال الدين ووجهاء ومشايخ الطائفة العلوية بما يضمن تعزيز السلم والأمن والاستقرار وسلامة المواطنين.
- تشكيل هيئة عدالة انتقالية مستقلة تقوم على تحديد أسماء الأشخاص المطلوبين ليصار تقديمهم للعدالة ومحاسبة مرتكبي الانتهاكات.
- العمل على فصل الفلول عن الحاضنة الاجتماعية في الساحل واستثمار حالات التذمر الشعبي ضد الفلول لتعزيز بيئة العمل الاستخباري.
- العمل على دعم صورة العهد الجديد خارجيًّا عبر حملة إعلامية ودبلوماسية لشرح حقيقة ما حدث مدعمًا بالأدلة، ودعم عمل لجان التحقيق بالانتهاكات التي حدثت ومحاسبة مرتكبيها تبعًا لإجراءات قضائية متاحة للجمهور.
- مكافحة تعزيز سردية الصراع الطائفي في المرحلة الجديدة، الأمر الذي يتطلب تفكيك خطاب الكراهية والتحشيد الطائفي عبر برامج وأدوات عدة منها إطلاق حوارات جدية مع الأطراف (المجتمعات المحلية) لتفهم هواجسها، والعمل على زيادة مساحات العمل المشتركة معها من خلال بوابة الإدارة المحلية.
أخيرًا، فإنَّ حصول الأخطاء والانتهاكات في الحروب والصراعات يبقى أمرًا واردًا رغم المحاولات الحثيثة لتجاوزها، خصوصًا في الحالات المشابهة للحالة السورية، لكن من الضروري ألا تمر هذه الانتهاكات دون متابعة ومحاسبة، مع ضرورة تعلم الدروس منها والاستعداد لحالات أخرى مشابهة أو ربما أكثر تطورًا.