
قد نفرط في مناقشة قضية الاستقرار ودعائمها أكثر من حل معضلة التعارض بينها وبين الاستعداد للحرب لحماية التجربة، وهذه المعضلة يكمن حلها في فكرة بناء مجتمع مقاتل وجاهز لنفض المكتسبات وقت المواجهة كالمجتمع الفلسطيني في قطاع غزة والحاضنة الشعبية الشيعية في جنوب لبنان.
وبدراسة هذه المجتمعات تنجلي بعض الحقائق، إذ تبني القوى الحية فيها بناءً عسكريًّا موازيًّا رغم تثويرها للشعب، أي أنَّها تعرف مقدمًا أنَّ مجرد التثوير العام غير العسكري وغير المنظم لن يكون كافيًا!
وهناك نقطة ستبقى ثغرة أو معضلة في الحقيقة؛ وهي كيفية حماية مكتسبات الناس الحياتية بمعنى تقليل الخسائر فقط، ولها قيمة معنوية كبيرة، وقد تقلل الدمار المادي والنزيف البشري إلى حد ما رغم عدم تكافؤ الإمكانات، وبالتالي دعم الحالة النفسية والظهير الشعبي.
ولذلك فالحل المبدئي هو العمل على تطوير هذه الحالة، لتخرج من مرحلة التوازي بين القوى المسلحة والجماهير الثائرة؛ إلى مرحلة جديدة يتم بموجبها صناعة مجتمع مقاتل معبأ يقوم فيه كل قادر على حماية مقدراته بنفسه؛ والعمل في نفس الوقت على التنمية الاقتصادية وتطوير البنية التحتية في نفس الوقت، أي تعبئة المجتمع نفسه وجعله قادرًا على الدفاع عن الوطن والمقدرات البشرية والاقتصادية والفكرية.
ثم تأتي المرحلة التالية لذلك بتوفير ما يمكن تعريفه بالبنية التحتية الضرورية للحروب، كالمخابئ والملاجئ المجهزة صحيًّا وطبيًّا وغذائيًّا، والمؤمنة من الضربات الكيماوية والإشعاعية وغيرها، لحماية العجزة وكبار السن والمرضى والنساء والأطفال وغيرهم، وبصور أكثر شمولًا؛ الاستعداد للكوارث والحروب وغيرها.
فالناس تريد أن تعيش، وتبني مؤسسات عامة ومقدرات خاصة، كما تريد أن تؤمن مستقبل اولادها، ولذلك فهم يريدون الحفاظ على تلك المكتسبات أيضًا، أو على الأقل حماية أرواحهم وتقليل خسائرهم، وفي حالة عدم وجود عدو واضح كالصهيوني مثلا سيبدؤون في تحميل قوى الدفع والمقاومة كل تلك الخسائر والتبعات، خاصة أنَّ العدو يعمد إلى تركيز الخسائر في الأرواح والمنشآت للناس فَهُم هدف أسهل كثيرًا من المقاتلين، وتفريغ لحاضنتهم الشعبية، وقتل لأهليهم وذويهم كنوع من الانتقام، وأكثر ضغطًا في كل الأبعاد. وبمعنى أصح فهو يفتت البنية الاجتماعية المنتجة للمقاومة، ثم الحاضنة له فيما بعد، لذا تراه يمعن في قتل الأطفال والنساء.
وأما الشق الثاني من المعضلة:
وهو عمل القوى العالمية أو الإقليمية المؤثرة ذات المصالح على تفجير الوضع الداخلي استغلالًا لأجواء الاضطرابات الطبيعية فترة ما بعد الثورات، وقبل استقرار نظام سياسي جديد، كما تبدأ جميع القوى السياسية في محاولة الحصول على دور وتحقيق رؤيتها، بينما تكمن قوى الثورة المضادة وبقايا النظام المنحل انتظارًا لفرصة للانقضاض، كما توجد عوامل كثيرة تتيح للخارجين على القانون بالإخلال بالأمن، ويزداد الأمر صعوبة في حال تعقيد تكوين المجتمع بكثرة الطوائف والعرقيات مثلما هو الحال في الثورة السورية التي نجحت مؤخرًا في إسقاط النظام البعثي والهيمنة على مقاليد البلاد.
وفي الحالة السورية مثلًا يبقى احتمال نشوب الاقتتال الداخلي مرة أخرى واردًا، أو اندلاع صراع مع العدو الصهيوني المتربص، والذي لم تفتأ اعتداءاته تتوالى منذ انتصار الثورة وإمساكها بمقاليد الأمور، رغم الاستقرار الحالي والحوكمة شبه المستقرة، مع وجوب التعامل مع هذه التحديات استباقيًّا، وتأهيل الواقع لها، وتوجيهه إليها، وحماية ما يمكن من أرواحه ومقدراته، وعدم اعتبار هذا الاحتمال مستبعدًا بالمطلق مع احتمال فرضه فرضًا إن توسع العدوان، أو أرادت دولة الكيان إرساء أوضاع جديدة بخلاف تلك القائمة على الأرض، خاصة أنَّ قضية الجولان السوري المحتل ستبقى كالنار تحت الرماد سيظهر لهيبها عاجلًا أو آجلًا.
احتمال تغييب القيادة
يجب أن يكون الصف القيادي مستعدًا وجاهزًا لاحتمال تغييب القيادة بشكل أو آخر، وفي العادة فإنَّ أمثال هذه القيادات تنتج حولها مجموعة ولو محدودة وغير مشهورة، ولو لم تكن بارزة الآن في واجهة العمل؛ لكنها تحمل نفس الفكر والإيمان بالفكرة، بحيث تكون منطلقاتها مبرمجة في نفس الخط، ولعل هذا هو ما جعل المقاومة الفلسطينية صامدة إلى الآن رغم نزيف القيادات -إن جاز التعبير- فما كان لها ذلك إلا بوجود هؤلاء القادرين على المواصلة بنفس الإيقاع.
وهذه القيادات البديلة إن نجحت في تثبيت أقدامها فربما تعيد الكَرَّة وبدرجة أقوى وأشد من القيادة الأصلية، إلا إذا نجحت أجنحة أخرى داخل التنظيم الثوري -سابقًا- والسياسي لاحقًا؛ في إقصائها لصالح أجنحة فكرية أخرى كما يحدث عادة في تغيير التراتبية القيادية في أي تنظيم سياسي، وهذا يقتضي من القيادة صاحبة المشروع؛ الانتباه لهذه النقطة والعمل على توطيد هذه المدرسة في الفكر والإدارة لتحقيق الاستمرارية التي قد تحتاج إلى أجيال.
مجموعات الإسناد اللامركزية
ينبغي الدعوة لتكوينات مناصرة للفكرة الثورية والمؤمنة بالمقاومة على مستوى الأمة كلها، والبدء بتدشين ما يمكننا تسميته “بمجموعات المئة” في كل دولة من دول العالم الإسلامي خاصة المنطقة العربية منها. هذه المجموعات تقبل التوسع قطريًّا بما يبلغ المئات، بل والآلاف.
على أن يكون دور هذه المجموعات ليس داخليًّا في بلدانها بحيث لا تتورط وتستهلك في الإشكالات السياسية الداخلية، بل يكون أصل تحزبها وتجمعها على فكرة محورية وهي: العمل من خلال مشروع للأمة كلها وإنجاح التجربة الجديدة أو الوليدة.
كما لا يكون دور هذه المجموعات عسكريًّا بالضرورة كما قد يتبادر إلى الذهن، فالتصدر لمهمة أممية يعني الشمول بالأصالة، فإعداد الكوادر السياسية مطلوب، وكذلك الكوادر والكيانات القانونية والحقوقية، والدور الإعلامي باتساع مفهومه غاية في الأهمية، ويدخل في دورها كل صور الدعم اللوجيستي على كافة المستويات وليس المادية منها فقط، وأهم من ذلك نشر فكرة الثورة والمقاومة العابرة للحدود والقابلة للتحرك على كل الأصعدة في الوقت المناسب بالتوازي وربما بالتنسيق مع القوى الحية في الأرض المحتلة أو الشام أو غيرها.
الدور القانوني والحقوقي
ينبغي للتجارب الثورية والمقاومة إعداد ما يسمى بالأجسام أو الكيانات السياسية والقانونية والإعلامية الجاهزة للترويج والدفاع والتنظير للتجربة، سواءً كانت في موقع النضال أو وصلت لمرحلة التمكن من السلطة، والعمل كواجهة وتبرير وتفسير وترويج وتجميل عمل المقاومة محليًّا ودوليًّا، بحيث تكون تلك الأجسام قُطرية ولها تكتلات خارجية مركزية.
ومن المهم وجود أفرع لتلك الأجسام القانونية المدربة في دول الاتحاد الأوروبي وأمريكا، على اتصال بالبرلمانات والأحزاب السياسية هناك والسياسيين المؤثرين وكذلك وسائل الإعلام، ولا أعني بذلك العمل فترات الأزمات فقط، وإنما العمل الدائم الدؤوب، بل والسعي للتحول لمجموعات ضغط وتأثير مع الوقت.
الحاجة إلى رؤية أعمق
ومع تطور الأوضاع وبالنظر إلى حال الأمة المتردي يظهر أنَّنا بحاجة لرؤية أشمل وأعمق وربما أخطر قليلًا، من حيث كونها ستنصب على عيوب وإشكالات الصف الوطني والإسلامي الداخلي، والمدخول بشوائب النفاق والمندسين والجهال والحمقى الغلاة، وفي مقدمتهم الفئات المدخلية والتكفيريين والمتصهينين.
ومكمن الخطورة هو في حاجة مثل هذه الملفات إلى أعلى درجات الحرص، كي لا تقابل حالات التطرف المذكورة بحالة أخرى مقابلة أشد تطرفًا واستعلاءً بدعوى تطهير الأمة، ولا تحول المعركة عن بوصلتها الصحيحة إلى حالة من الاقتتال والفوضى الداخلية العارمة.
وإنما تكون المواجهة مع هذه العناصر وتلك القوى احترازيًّا واستباقيًّا، كما لا يشغل عن المواجهة الخارجية كأولوية، وبحيث يدس بينها عناصر نابهة وأفراد عقائديون ومجموعات واقعية حركية واعية، وأخرى افتراضية في فضاء الإنترنت، وتكون هذه الفرق والعناصر قادرة على الرصد والتعامل أو التشويش والحصار ثم الإفشال لتلك الفئات المذكورة، وفق منطلقات وتعليمات واضحة، والعمل على تقليل أعداد أولئك ومكافحتهم بأقل خسائر بشرية ممكنة في الجانبين؛ مع الجهوزية التامة للفعل والتحرك لتقليل ضررها على مستوى الأمة.
تجسير الهوة بين الطوائف
هو دور لا يقوم به سوى نظام حكم متمكن، يمتلك الإمكانات للقيام بهذه المهمة، ويمكن عمل لجنة عليا للتنسيق الميداني وتقليل الأخطاء وتجسير العلاقات، تعمل على تصورات معينة تقوم على بُعْد علمي تنظيري، وثانٍ قانوني حقوقي، وبُعْد معيشي إنساني، وآخر تفاوضي سياسي.
فأما العلمي؛ فبتدشين لجنة شرعية علمية مشتركة هدفها تقليل الخلافات وضبط المواقف والتصريحات الإثارية أو المهيجة للفتن بين الطوائف المختلفة، بل والعمل على التقريب إن أمكن ذلك. وأما القانوني فيعمل على محاسبة ومعاقبة من يتجاوز الصواب والمصلحة العامة ويكون دأبه التحريض أو يصح في حقه خدمة أجندات معينة تضر بمصلحة البلاد وثورتها، كما يرد الحقوق لأصحابها وينصف أصحاب المظالم.
وبالنسبة للشق المعيشي الإنساني فيُعنى بتلبية احتياجات الناس في تلك المناطق دون مبالغة تشعر بالضعف أو تزيد الهوة والتفريق، ودون ضغوط، بل تكون تلبية لاحتياجات إنسانية وحقوقية حقيقية، بما يشمله ذلك من الوظائف والمشاركة التامة كمواطنين، وبما لا يجعل لهم حجمًا أكبر من حقهم أو يؤدي لتغولهم على الدولة لاحقًا. والشق السياسي مهم إذ يعمل على فصل الملفات؛ بحيث يسعى لاكتساب ولاء تلك الأقليات العرقية أو الدينية والطائفية ويعمل على الفصل بينه وبين امتداداتها في الدول المجاورة والخارج، وعدم نقل خلافاتها وإشكالاتها إلى الداخل.
وتبقى نقطة أخيرة ومهمة:
وهي انسجام الصف الثوري نفسه، إذ من الطبيعي ألا يكون جميع الثوار على نفس التناغم الفكري والأيديولوجي، كما أنَّ التصريحات والمواقف والقرارات التي تتخذها القيادة وهي في موقع المسؤولية الكبرى في إدارة الدولة؛ تختلف عن تلك التي كانت لائقة فترة إدارة وتوجيه تشكيل ثوري، وليس واردًا في حقها لازمًا أن تقدم تبريرًا أو تفسيرًا عن كل مواقفها.
وما لم يكن هناك تناغم كامل وثقة تامة في القيادة وتوجهاتها، وضرورات منصبها؛ فسيكون هناك خلل حقيقي يهدد التجربة نفسها، ولاستباق هذه المشكلة ينبغي وجود فئة من المنظرين والمفكرين الذين يمثلون “دعاة الفكرة” وحراسها، والذين يعملون على ضبط الإيقاع بين القيادة والأفراد، ولا بأس أن يكون هذا من خلال جهاز تثقيفي يمثل حراسة الفكرة الثورية ويقوم على إشاعتها.