
باتت حالة عدم اليقين في الشرق الأوسط أمرًا معتادًا لكافة اللاعبين الإقليميين والدوليين، فما لم يتوقعه أكثر المتفائلين في الملف السوري أعلنه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في قرار دراماتيكي للغاية. فعقب اللقاء الذي جمعه بالرئيس أحمد الشرع في الرياض في 14 مايو، بحضور ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، أعلن ترامب رفع العقوبات الأمريكية المفروضة على سوريا وأبدى إعجابه بالشرع.
شكَّل هذا اللقاء الخطوة الأبرز في مسار تطبيع العلاقات بين واشنطن ودمشق، وأسس لخطوات أخرى على مختلف الصعد تترك أثرها البالغ على المشهد السوري داخليًّا وخارجيًّا.
ففي 30 مايو، التقى وزير الدفاع مرهف أبو قصرة في دمشق بقائد قوات التحالف الدولي لمحاربة داعش الجنرال كيفن ليهي وقائد قوة المهام المشتركة للعمليات الخاصة المشتركة في بلاد الشام الجنرال مايكل بروكس. وقبلها في 29 مايو، شارك ليهي وبروكس مع المبعوث الأمريكي إلى سوريا توماس باراك في رفع العلم الأمريكي فوق مقر إقامة السفير الأمريكي في العاصمة السورية.
وفي تصريح لافت، قال باراك أنَّ الرئيس الأمريكي ترامب سيقدم تقريرًا إلى الكونجرس لإزالة تصنيف سوريا دولة راعية للإرهاب، والذي يقيد المساعدات الخارجية الأمريكية ويحظر صادرات ومبيعات الدفاع ويفرض ضوابط على بعض المواد ذات الاستخدام المزدوج.
ومن المرتقب أن يزور وزير الدفاع الأمريكي بيت هيغسيث ورئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال دان كين دمشق على رأس وفد رسمي، لعقد اتفاقات مباشرة مع الحكومة السورية في مجالات الدفاع والتسليح، كما سيزور الرئيس الشرع واشنطن في سبتمبر المقبل ويلقي كلمة في الأمم المتحدة.
الموقف الإسرائيلي
في تصريح هو الأول من نوعه، قال وزير خارجية الاحتلال جدعون عون ساعر عقب لقاء الشرع- ترامب إنَّ تل أبيب تريد علاقات جيدة مع النظام السوري الجديد، في رسالة إيجابية لترامب قد تفيد برغبة الاحتلال في عقد صفقة مع سوريا تحت رعايته. ومن جهة أخرى، اقترح باراك إجراء مفاوضات بين الاحتلال وسوريا لإبرام اتفاقية “عدم اعتداء”.
لكن عدوانًا إسرائيليًّا استهدف في 30 مايو مقر اللواء 107 والميناء البيضاء في محافظة اللاذقية وثكنة البلاطة في ريف طرطوس، حيث زعم جيش الاحتلال تدمير مخازن أسلحة استراتيجية. ويؤكد هذا تمسك تل أبيب بأولوية إلحاق ضرر لا يمكن إصلاحه بالقدرات العسكرية السورية في عملية استنزاف طويلة الأمد لنظام دمشق وتقويض لقدرته على الحكم، فضلًا عن تمسكها بهضبة الجولان المحتلة.
المواقف الإقليمية والدولية
تنسجم المواقف الإيجابية تجاه سوريا إقليميًّا ودوليًّا مع التحول الأمريكي تجاه دمشق، والذي يخلق هامشًا من الفرص المتاحة. فعلى الصعيد الإقليمي، يتعامل جيران سوريا -لبنان والأردن والعراق ودول الخليج- مع المشهد كلٌّ وفق مصالحه بما قد يؤسس لاتفاقيات بين حكومة دمشق وهذه الدول بشأن العديد من القضايا، مع استبعاد الخيار الإيراني حتى الآن بحكم ضعف إمكانات طهران وغلبة مفسدة التعاون معها على مصلحته. ورغم كون مصالح هذه الدول غالبًا ما تتعارض مع بعضها البعض في الملف السوري، فإنَّ هذا التمايز قد يكون مفيدًا لسوريا، حيث تتيح إمكانات تلك الدول في التأثير على الديناميكيات السياسية والاقتصادية الإقليمية هوامش لحكومة دمشق تحقق من خلالها بعض مصالحها.
أما دوليًّا، فقد رفع الاتحاد الأوروبي في 25 مايو عقوباته عن سوريا، بما يشمل رفع القيود على قطاعي المال والطاقة وإزالة البنك المركزي السوري من قائمة العقوبات. وفي موسكو، أشار نائب وزير الخارجية الروسي سيرجي فيرشينين في 29 مايو إلى مواصلة روسيا التفاوض مع الحكومة السورية بشأن وضع القواعد العسكرية الروسية في سوريا.
في هذا السياق، نجد أنَّ مصالح القوى العظمى بشأن سوريا تتوافق إلى حد كبير، حيث لا أحد مهتم بتقسيم سوريا إلى دويلات صغيرة باستثناء الاحتلال الإسرائيلي، كما لا يبدو أنَّ أيًا من هذه القوى مستفيدة من تحول سوريا إلى بؤرة جهادية جديدة في قلب العالم العربي. ومن مصلحة الجميع أيضًا منع سوريا من إعادة بناء قدراتها الكيميائية التي كانت تمتلكها، وعدم وصول الترسانات الواسعة والمتنوعة من الأسلحة التقليدية إلى أيدي الجماعات المصنفة “إرهابيًّا” سواء داخل سوريا أو خارجها، فضلًا عن منع حدوث كارثة إنسانية كبيرة بسبب نقص الغذاء والوقود والأدوية الأساسية وانهيار أنظمة الحوكمة.
الاقتصاد، اللاجئون والمقاتلون الأجانب
أحرزت الإدارة السورية تقدمًا سريعًا في هذه الملفات وأهمها ملف المقاتلين الأجانب، حيث أعلنت وزارة الدفاع دمج 3500 مقاتل أجنبي في الفرقة 84 المشكلة حديثًا. وتبدل الموقف الأمريكي المعارض، حيث صرح المبعوث الأمريكي باراك أنَّ من الأفضل إبقاء المقاتلين الأجانب تحت مظلة الدولة بدل إقصائهم؛ لمنعهم من الانضمام إلى الجماعات الجهادية.
أما اقتصاديًّا، فقد وقعت الحكومة السورية في 29 مايو اتفاقية بقيمة 7 مليارات دولار مع شركات دولية في قطاع الطاقة، منها شركات “UCC القابضة” و”باور إنترناشونال” و”أورباكون القابضة” القطرية و”كايلون جي إي إس إنرجي ياتيريملاري” و”جنكيز إنرجي” التركيتان.
وفي ملف اللاجئين والنازحين، عاد ما يزيد عن 300 ألف لاجئ سوري إلى سوريا منذ مارس 2025 من أصل 8 ملايين لاجئ سوري في الشرق الأوسط وأوروبا ودول أخرى، كما عاد أكثر من 885 ألف نازح داخليًّا إلى ديارهم من أصل 6 ملايين نازح.
ورغم هذا التقدم، فإنَّ النقاش حول “رفع العقوبات بالكامل” أو “تعليقها لمدة 6 أشهر” يثير مخاوف كثير من المستثمرين، مما يعيق النهضة الاقتصادية المرجوة حتى الآن، كما أنَّ كثيرًا من النازحين غير قادرين على العودة إلى منازلهم المدمرة أصلًا ما لم تبدأ عمليات إعادة الإعمار.
الخلافات الداخلية المحتملة
لا يزال الوضع الحالي في سوريا غير مستقر، فالتوازن بين الوسطيين والجهاديين والنظام والفوضى والسلم الأهلي والمواجهات الطائفية يمكن أن يتغير في أي لحظة. فالمناورات الدبلوماسية الحادة التي يتبعها الرئيس أحمد الشرع قد لا تروق لبعض فئات الإسلاميين، خاصة الحديث عن السلام مع الاحتلال الإسرائيلي أو التنسيق الاستخباري مع الولايات المتحدة لمواجهة تنظيم الدولة.
في هذا الإطار تبرز أهمية التوجيه الفكري والمعنوي بين المقاتلين والكوادر الإسلاميين، مع تقديم الطرح المنهجي التأصيلي لإيضاح ضرورات الواقع والرخص الشرعية المتاحة. وعلى الصعيد الفصائلي، تبدو فصائل الجيش الوطني أقل ميلًا للالتزام بالتسلسل القيادي الرسمي من مجموعات هيئة تحرير الشام. حيث ضمت وزارة الدفاع فصائل الجيش الوطني إليها دون إعادة هيكلة قواتها، والعديد من مقاتلي هذه الفصائل موالون لقائد فصيلهم وليس للرئيس أحمد الشرع.
قد تتخذ حكومة دمشق بمرور الوقت خطوات لإخضاع الفصائل تدريجيًّا لتلزم بسلسلة القيادة الرسمية، أما الآن فيدرك الرئيس الشرع حاجته إلى دعم قادة هذه الفصائل لتجنب الاقتتال الداخلي معها، كما يدرك افتقار الإدارة السورية حتى الآن للموارد البشرية اللازمة لبسط السيطرة الأمنية في الداخل السوري ومواجهة الخارجين عن سلطته.
في هذا الإطار، قد تشكل وحدة الأراضي السورية في مواجهة المطامع التوسعية الإسرائيلية نقطة توحيد لهذه الفئات المختلفة منهجيًّا وفصائليًّا، ورغم افتقار الإدارة السورية حاليًّا إلى القدرة على خوض حرب شاملة ضد الاحتلال فإنَّ الدفع لاستعادة وحدة البلاد يحتفظ بمكانته على مستوى الأيديولوجيا.
مواجهة خلايا تنظيم الدولة
بعد أيام قليلة من لقاء ترامب والشرع، فجّر عناصر من تنظيم الدولة الإسلامية سيارة مفخخة في 18 مايو أدت إلى مقتل أفراد من جهاز الأمن السوري في مدينة الميادين، في أول ضربة ناجحة للتنظيم ضد الإدارة الجديدة.
لا يمكن إغفال الخبرة الكبيرة التي تتمتع بها الإدارة السورية في التعامل مع خلايا تنظيم الدولة، لكن التنظيم قد يستفيد من مسار الدولة المدنية وتصفير المشكلات الذي تتبعه حكومة دمشق الآن لاستمالة مئات العناصر إليه، فضلًا عن العديد من مستودعات السلاح التي استولى عليها خلال الفوضى التي أعقبت سقوط النظام في ديسمبر الماضي.
لذا، فإنَّ تصاعد عمليات التنظيم يشكل التحدي الأمني الأبرز والذي يضاهي خطر فلول النظام، فانتشار خلايا داعش في البادية الممتدة من ريف حمص الشرقي وصولًا إلى دير الزور يتيح لها استهداف خطوط النفط والغاز والقوافل التجارية في منطقة واسعة يستحيل ضبطها أمنيًّا.
الملف الكردي
أعلنت الميليشيات الكردية في مؤتمر القامشلي الأخير قائمة من المطالب عالية السقف، بينما واصلت الحكومة السورية مفاوضاتها مع الوفد الكردي في 1 يونيو بهدف تنفيذ اتفاقية الإطار التي وقعها الرئيس أحمد الشرع وقائد قوات سوريا الديموقراطية مظلوم عبدي في 10 مارس.
تعتمد النتيجة هنا بشكل أساسي على ما ستفعله الميليشيات الكردية ومن ورائها واشنطن التي تدعمها، فإدارة ترامب مهتمة بالعلاقة الإيجابية مع تركيا والسلطات السورية، لكن مدى التزامها بدعم الأكراد لا يزال محل شك.
نافذة نحو المرحلة المقبلة
ربما يسوغ التشكيك في كون المصالح المشتركة بين القوى الكبرى والتفاعل الإقليمي الإيجابي مع دمشق كافيين لفصل سوريا عن السياق الجيوسياسي العالمي السلبي، وأنَّ المزيد من التطورات في المشهد السوري ستكون محل متابعة في بروكسل وموسكو وواشنطن.
لكن اجتماع مجلس الأمن حول سوريا الذي عُقد في 9 ديسمبر 2024 أظهر موقفًا موحدًا بين القوى العظمى تجاه الأحداث في سوريا، وأكد مندوب روسيا لدى الأمم المتحدة فاسيلي نيبينزيا أنَّ هذه المواقف المشتركة تشمل “الحفاظ على وحدة أراضي سوريا، وضمان حماية المدنيين، وضمان إيصال المساعدات الإنسانية إلى المحتاجين”.
في ملف الاعتداءات الإسرائيلية، تشير التصريحات السورية والحديث عن دور وسطاء، مقابل تحول الموقف الأمريكي تجاه دمشق، إلى توجه سوريا لتوقيع اتفاق مع الاحتلال سيكون أكثر من مجرد تعديل لاتفاق فض الاشتباك. لكن الموقف الإسرائيلي حتى الآن لا يبدو مستعدًا للتخلي عن النقاط التي احتلها جنوب البلاد، فضلًا عن إصراره على تقويض أي خطوات حقيقية لبناء جيش سوري جديد، وتتمثل خطورة ذلك في أنَّ فرض خيار واحد على قادة دمشق قد يدفعهم لخطوات براغماتية غير متوقعة.
في المقابل، لا ينبغي المبالغة في تقدير التباينات بين ترامب ورئيس الحكومة الإسرائيلي نتنياهو؛ إذ تظل واشنطن حليف تل أبيب الأول ودعمها للاحتلال لا يقبل الشك. كما أنَّ اللغة الدبلوماسية السورية ليست على مستوى الاعتداءات الإسرائيلية، واعتمادها على الضغط الدولي والأمريكي على الاحتلال دون البحث عن خيارات شعبية ولا دولتية أخرى قد يثبت فشله.
على صعيد آخر، على الإدارة السورية تعزيز موقعها الداخلي ومنع تحول البلاد إلى ساحة صراع بين قوى خارجية مختلفة، وسيتطلب هذا الأمر معالجة ملفات الأكراد والأقليات بالطرق الناعمة والحفاظ على توازن معقد من المصالح بين مختلف الفاعلين الخارجيين الإقليميين.
وأمام هذه المعطيات، فإنَّ وحدة وسلامة سوريا ما زالت محل خطر في ظل الدور التخريبي الذي يلعبه الاحتلال الإسرائيلي بشكل رئيسي، والذي قد يوظف مختلف الملفات الأمنية لتقويض الحكم الجديد وتنفير الشركات العالمية المقبلة على السوق السورية.