
“كفى تصعيدًا”، هكذا علق الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش على المواجهة العسكرية بين إيران والاحتلال الإسرائيلي، في المقابل تختلف الآراء حول فهم ماهية المواجهة وأبعادها: فهل خاض الطرفان حربًا صفرية؟ وما العوامل التي عززت من مخاطر التصعيد أو أبقته تحت السيطرة وصولًا إلى وقف إطلاق النار؟
في دراسة سابقة لمؤسسة راند، عُرّف التصعيد بأنَّه “اشتداد أو توسع نطاق الصراع بما يتجاوز العتبة (الخط الأحمر) التي تُعتبر مهمة لأحد أطراف الصراع أو كليهما”، مع كونه “ظاهرة معقدة ومتعدّدة الأبعاد لا تُفهم من خلال مؤشر أو معيار واحد أو ثابت”. ومع ذلك، يمكن تحديد مجموعة من العوامل أو الإجراءات المعتادة التي تساعدنا على فهم التصعيد.
تقريب نظري
يبدأ التصعيد حين يرى أحد أطراف النزاع وقوع تغيير جوهري في الصراع نتيجة تطور جديد، الذي قد يكون حدثًا منفصلًا أو سلسلة متراكمة من الأحداث قد لا يبدو أي منها تصعيديًّا أو ذا أهمية عند النظر إليه منفردًا. وقد يكون هذا الحدث مقصودًا أو غير مقصود، وإما أن يكون جزءًا من استراتيجية واعية لأحد الأطراف لإدارة النزاع عبر افتعال مخاطر يتعين على الطرف الآخر التعامل معها، أو غير مخطط له.
بالنسبة للتصعيد غير المقصود فإنَّه غالبًا ما ينشأ حين يتجاوز طرف ما عن غير قصد خطًا أحمر بالنسبة لخصمه، ما يدفع الأخير إلى رد فعل أشد. وليس بالضرورة أن يتفق أطراف التصعيد على الخطوط الحمراء الجوهرية، فقد يرى أحدهم عند نقطة معينة أنَّ الصراع تجاوز إحدى هذه الخطوط بينما لا يرى الطرف الآخر ذلك، حتى مع امتلاكهما المعلومات نفسها حول مجريات الأحداث. ومن أجل ذلك، تبرز أهمية فهم كيفية تصور الخصم للمشهد الاستراتيجي لتوقع “متى وكيف” يمكن لفعل أو إجراء ما أن يقود إلى نتائج تصعيدية.
منطق التصعيد
يأخذ التصعيد أشكالًا عدة، فقد يكون اتساعًا في رقعة الصراع الجغرافية أو زيادة في أهمية الأهداف أو تصاعدًا في مستوى العنف. ومن جهة أخرى، قد يهدف إلى تحقيق مكاسب عسكرية مباشرة أو إلى توجيه رسالة استراتيجية تدفع الخصم لتعديل سلوكه، فيكون التصعيد بذلك أداة لتحقيق الهدف.
وسواء أكان التصعيد غير مقصودٍ أو أداة لتحقيق أهداف محددة، فإنَّ الإجراء التصعيدي من أحد الأطراف غالبًا ما يستفز الخصم ويدفعه للرد، ليس بردٍّ متماثلٍ وحسب، بل بما قد يقود إلى دوامةٍ متبادلة من الردود المتصاعدة. وقد يُقصَد من رد الفعل هذا معالجة آثار التصعيد الأول في ساحة المعركة أو ميدان الدبلوماسية، أو إظهار القدرة على المواجهة وعدم النزول عند شروط الخصم، وهنا تُصبح احتمالات سلسلة الردود التصعيدية مقلقة خوفًا من أن تؤدي إلى مواجهة شاملة.
كيف يُدار التصعيد؟
في سياق الحديث عن التصعيد ومستوياته يبرز مصطلح “سُلَّم التصعيد”، والذي يبدأ من بوادر الأزمة المبكرة وصولًا إلى اندلاع الحرب. وهنا، تمتلك الجهة التي تهيمن على مسار التصعيد القدرة على حسم الصراع عند أيّ درجة من درجات هذا السُّلم.
غير أنَّ فكرة “السُّلم” تعاني عدة إشكاليات، فهي تفترض أنَّ كلا الطرفين يدركان وجود الدرجات نفسها ويتفقان على ترتيبها ويستطيعان تحديد الدرجة التي يقفان عندها. والأهم أنَّها توحي خطأً بأنَّ التحكم في التصعيد أمر سهل نسبيًّا، لأنَّ “أحدًا لا يمكنه السقوط إلى الأعلى على سُلَّم”. ومعنى هذه العبارة أنَّ من يصعد على هذا السُلم لا يمكن أن يفقد السيطرة على مجريات الأحداث ويذهب إلى التصعيد رغمًا عنه، بل ستكون خطواته إلى الأعلى واعية ومحسوبة، وهو افتراض خاطئ!
فالحرب قادرة على اكتساب زخم خاص بها؛ حيث يمارس كل طرف أقصى درجات الضغط على خصمه في سعي متبادل للتفوق على الآخر. وبينما يكون لدى أحد الطرفين مصلحةٌ في التصعيد تشجعه عليه، إلا أنَّه يصعب إعادة ضبط الصراع بعد تجاوزه عتبة تصعيدية (خطًا أحمر) محددة فينخرط الجميع في مسار تصاعدي. لكن في المقابل، يلعب غياب الرهانات الكبيرة وتزايد تكاليف المواجهة دورًا في كبح جماح ضغوط التصعيد قبل اندلاع الحرب، لأنَّ أطراف النزاع سيحاولون المحافظة على حدود للنزاع فيما بينهم.
بناء على ما سبق، تعتمد إدارة التصعيد بشكل كبير على فهم العتبات/ الخطوط الحمراء التي يعدها الخصم جوهرية، والتي تختلف من طرف إلى آخر وتتأثر بسياقها في المشهد الاستراتيجي العام.
سيكولوجية التصعيد
يتشكل التصعيد كذلك بفعل عوامل نفسيّة كونه نتاج قرارات بشرية سواءٌ أكانت فرديّة أو جماعيّة، فالشعور بالتوتر أو الخطر تثيره عدد من المحفزات: كضيق الوقت المتاح لاتخاذ القرار، أو عرض صور ومقاطع مؤثرة، أو وصول تقارير مزعجة، أو بروز تهديدات كبيرة، فيؤثر كل ذلك في القرارات الحساسة بما فيها كيفية الردّ على الخصم.
ثمة عامل نفسي آخر يتعلق بالحفاظ على المكانة والسمعة، فحين يربط صناع القرار مكانتهم ومكانة دولهم بنجاح عسكري ما تصبح مواصلة الحرب السبيل الوحيد لإنقاذ هذه المكانة، بينما يخسر صاحب التهديدات الفارغة ثقة جمهوره.
ولا يكفي في هذا السياق تفسير السلوك التصعيدي وفق منطق المكاسب، فأطراف الصراع قد تولي الخسارة المتوقَّعة وزنًا أكبر من الربح المحتمل، فيميلون إلى تجنب المخاطرة عندما يتعلق الأمر بالمكاسب ويخاطرون بصورة أكبر حين يشعرون بالخسارة.
من جهة أخرى، تتزايد مخاطر التصعيد حين تدرك دولة/ جهة ما أنَّ لديها “فرصة استراتيجية” للهجوم أو التصعيد عبر اتخاذ إجراءٍ ما، الأمر الذي يؤثر في قراراتها حول ما إذا كانت ستصعّد النزاع أم لا.
كيف نقرأ التصعيد الأخير؟
لم تخض إيران مواجهتها مع الاحتلال الإسرائيلي والولايات المتحدة للحفاظ على برنامجها النووي والصاروخي فحسب، بل للحفاظ على النظام برمته. إذ يشير مستوى الضربات الإسرائيلية، التي طالت أبرز القادة العسكريين والأمنيين والعلماء والخبراء النوويين والمنشآت العسكرية والنووية، إلى رغبة تل أبيب بتغيير نظام طهران، في ظل تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حول “تغيير وجه الشرق الأوسط”.
ورغم ذلك، تعمد تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لتشكيك الجمهور في ظل حديثه عن جعل “إيران عظيمة مجددًا”، وأكدت الضربات الأمريكية ضد إيران جدية واشنطن في دعمها لإسرائيل مع إبقائها باب الدبلوماسية مفتوحًا قبل خروج الصراع عن السيطرة.
الأهم من ذلك هو مدى رغبة طرفي الحرب في كبح دوامة التصعيد، فبينما تزامن التصعيد الميداني الإيراني مع الجهد الدبلوماسي، دفع الاحتلال الإسرائيلي الصراع نحو حدوده الأقصى. يقودنا ذلك إلى فهم الفرصة الاستراتيجية التي سعى نتنياهو لاقتناصها، فالحرب التي اكتسبت زخمها من غزة مرورًا بالإنجازات المحققة في جنوب لبنان أمام حزب الله شكلت فرصة لضرب الرأس في طهران بعد تهشيم حلفاء المحور في المنطقة، وهو سلوك يؤكد الرغبة الإسرائيلية في مواصلة التصعيد في المنطقة.
في المقابل، شكلت الصواريخ الإيرانية مستوى عالٍ من التهديد بالنسبة للعمق الإسرائيلي، سواء على الصعيد المادي وفق طبيعة الأهداف أو على مستوى الوعي الإسرائيلي تجاه أمن كيان الاحتلال الهش. كما أظهرت طهران عبر استهدافها قاعدة العديد في قطر قدرة على خلط الأوراق في المنطقة كلها، وهو ما دفع الجميع نحو إعادة ضبط الصراع ضمن سقفه المقبول.
بالرغم من ذلك، جاء وقف إطلاق النار- لا وقف الحرب- لينقذ الجميع سوى نتنياهو من تجاوز عتبة اللاعودة، إلا أنه لا ينزع فتيل التصعيد بالكلية في ظل مواصلة تل أبيب حربها على غزة واعتداءاتها في لبنان وسوريا واليمن، وتهديد وزير المالية سموتريتش بإسقاط النظام الإيراني، وتوجيه وزير الدفاع كاتس للجيش بإعداد خطة بشأن إيران تضمن الحفاظ على التفوق الجوي ومنع تطوير قدراتها النووية.