
فور إعلان وقف إطلاق النار في غزة، بدأ الحديث عن مستقبل القضية الفلسطينية ومستقبل المقاومة، في وقتٍ تبدو الشهية الإقليمية مفتوحة على التطبيع مع إسرائيل في ظل انكسار محور المقاومة.
المشهد الذي وصل ذروته قبل ٧ أكتوبر كانت إحدى محطاته البارزة أحداث 11 سبتمبر2001. فقد شكلت هذه الحادثة مطلع القرن الجديد ربعه الأول، إذ تبنت الولايات المتحدة الأمريكية استراتيجية سمحت بالتوسع الإيراني، بدءًا من أفغانستان وصولًا إلى إفريقيا. حُمّل “السنة” وزر الأحداث، واعتُبر أنَّه من الواجب موازنتهم بقوة ثانية، مما أدى إلى كسر الولايات المتحدة للحواجز أمام التمدد الإيراني، الذي استعد لسنوات لمثل هذه اللحظة. انساحت إيران في المنطقة رافعةً لواء المقاومة وشعار “الموت لأمريكا” تحت أعين رضا “الشيطان الأكبر” نفسه.
بالنسبة للقضية الفلسطينية، فقد شكّل التوسع الإيراني فرصة نظرًا لتخلي الدول وأنظمتها عن أولوية القضية، على أقل تقدير، وتصدر التنظيمات الإسلامية نصرة القضية، وهو ما تماشى مع استراتيجية إيران في المنطقة.
على الرغم من الدعم السخي وغير المشروط الذي قدمته إيران للمقاومة، فإنَّه اقترن ببعد طائفي ودعم لأنظمة استبدادية كالنظام السوري، مما أثر في إمكانية انخراط الجمهور الواسع في مشروع محور المقاومة، ناهيك بموقف الدول التي رأت في إيران بعبعًا يدفعها بشكل إضافي نحو العلاقة بإسرائيل.
أتى ٧ أكتوبر وتبدل المشهد الدولي من بعده. وبغض النظر عن كيفية تحجيم إيران، سعت الولايات المتحدة إلى ذلك دون سحق طهران بشكل يدفعها للتصعيد، مما يُوصل إلى معادلة تحقق الاستقرار المنشود والمضبوط أمريكيًّا.
إنَّ الترتيب الجديد في المنطقة كانت الشعوب العربية فيه خارج المعادلة، لكن 7 أكتوبر أعاد الحيوية إليها، بعد أن فقدت الأمل بعد تراجع الربيع العربي. في هذا الوقت، استعدت هيئة تحرير الشام للتوسع. وعلى غير المتوقع، تدحرجت خُطة التوسع بشكل سريع إلى أن بلغت التحرير التام. ما كان لافتًا في هذا التحرير، إضافة لانهيارات محور النظام، هو الخطاب والطريقة الاحترافية في التعامل إعلاميًّا وشعبيًّا وسياسيًّا. والأكثر لفتًا هو الاستقبال الدولي الإيجابي لمجموعة منبثقة عن القاعدة، العدو التاريخي للولايات المتحدة الأمريكية!
إنَّ التحركات الأمريكية والغربية تجاه ما يحدث في سوريا تؤكد وجود توجه دولي مشجع للمسار الحالي. هذا التوجه، وغيره من المؤشرات، يعطي انطباعًا بأنَّ الولايات المتحدة قد وصلت إلى قناعة بضرورة عدم معارضة وجود حكم يعكس توجه الشارع العام، حيث إنَّ معاكسة ذلك تُبقي المنطقة في حالة غليان تُجبر الولايات المتحدة على الانشغال بها، كما أنَّ فتح المجال لإيران أوصل إلى وضع مفزع لإسرائيل وبالتالي للولايات المتحدة. بناءً عليه، مُنحت سوريا فرصة اختبار للتأكد من أنَّها يمكن أن تشكل متنفسًا للشعب ومستراحًا للولايات المتحدة بمشهد لا يؤثر في مصالحها في المنطقة ولا يثير قلقها، وعلى أن يبقى التغيير تحت غطاء وإشراف حلفائها في المنطقة سواء كانت تركيا أو السعودية.
إذًا، قد تكون لحظة اليوم مشابهة للحظة ما بعد 11 سبتمبر، مع فارق جوهري. ففي عام 2001، مُنحَت إيران المجال للتوسع على حساب العرب، أما الواقع اليوم فقد توصل اللحظة إلى تمكين الشعب ولو بضوابط صارمة. بالتأكيد، المرحلة تتطلب دقة في الإدارة والسياسة، والقدرة على التوازن بين رغبات الشعب ومصالحه، واللعب على الأوتار الدولية ببراعة. لكن بشكل عام فإنَّ هذه المرحلة قد تتيح للشعب السوري فرصة أن يحكم نفسه بنسبة مقبولة.
على الرغم من أنَّ المرحلة، إضافة لوصول ترامب، تشهد تراجعًا لقوى المقاومة وخنقًا للقضية الفلسطينية وحامليها، فإنَّ حكم الشعب قد يكون بديلًا استراتيجيًّا للقضية.
نكرر أنَّ هذا يتطلب عملًا شاقًا لتحقيق النجاح. فالتوازن ليس مسؤولية الإدارة السورية الجديدة فقط، بل هو مسؤولية الشارع والنخب والمؤسسات العربية جميعها، والتي يقع على عاتقها دعم الشعب السوري في تجربته، لأنَّ نجاح التجربة السورية سيكون مصدر إلهام لكل المجتمعات المجاورة، ومنارة لها، ودافعًا لنهوضها. إنَّ نجاح سوريا الجديدة قد يخلق موجة تبدأ من الشام ولا يُعلم أين تنتهي.
إنَّ أي حكم مهما كان شكله أو لونه، إذا كان ممثلًا للشارع، فلن يكون متصالحًا مع إسرائيل، وسيعيد تشكيل رؤيته الاستراتيجية في العمل للقضية الفلسطينية، وإن لم يكن بإمكانه التحرك المباشر على المدى القصير.
لن يكون تحركه على أساس الميليشيات، بل على قاعدة الشعب الممثل في الدولة كما هو الحال بالنسبة لإيران نفسها. إنَّ الموجة التي رأينا فصلًا منها في سوريا تأتي مترافقة مع إحياء ٧ أكتوبر ومركزية القضية لدى الشعوب كافة، وبالتالي فإنَّ ثبات المشهد وانطلاقته للأمام سيطوق إسرائيل في مشروع شعبي جامع، وعندها سيكون التحول من مرحلة المقاومة إلى مرحلة التحرير. هذا ما تدركه إسرائيل، ولذلك اندفعت بشكل هستيري في سوريا فور سقوط النظام. مع تأكيدنا على أنَّنا نتكلم عن بوصلة الأحداث الإستراتيجية وليس تحليلًا للأيام والأشهر القادمة.
هذه الرؤية تتطلب مسار عمل دقيق وبناء هادئ يتماشى مع مصلحة الشعوب وبناء الدول القوية والمتوازنة، وأن يبقى أصحاب القضية الفلسطينية داعمين للمشاريع الوليدة خوفًا من الانحراف الذي لن ترضى عنه الشعوب في حال كان، والتي ستكون في المستقبل في حال لعبت دورها، ضابط إيقاع دولها. بهذا، تصبح نصرة القضية الفلسطينية أمرًا طبيعيًّا وعفويًّا، كونها تمثل روح الأمة التي يستحيل أن تتبدل.
أما في حال عدم استقرار الأوضاع في سوريا، قد تتحول البلاد إلى ساحة تعج بالحركات والجماعات المختلفة، مما سيؤدي إلى اضطراب كبير على الحدود مع إسرائيل. هذا الاضطراب قد يسهم في إعادة تشكيل وتزخيم المقاومة بمدد من كل جانب، وهو أمر لا يصب في المصلحة الإسرائيلية بطبيعة الحال.
على الرغم من الظروف الصعبة التي تمر بها القضية الفلسطينية حاليًّا، فإنَّ هذه التحديات قد تفتح الباب لتغيرات في أساليب نصرة القضية بما يعززها على المدى الطويل. خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار حالة الاضطراب الداخلي الذي تعيشه إسرائيل، وتأثير الحرب على غزة في تشويه صورتها عالميًّا، إلى جانب الانقلاب في السردية والعلاقات مع الأجيال الصاعدة.