كثيرًا ما نناقش أحداث الصراع الحالي بين قوى العدوان الصهيوني وأحلافه وبين أبطال التحرير في أرض فلسطين؛ من وجهة سياسية أو عسكرية، ونستفيض في تحليل مشاهدها من هذه الجهات، ولعله من المناسب أن نتناولها من جهة أخرى ذات أبعاد إيمانية وتصورات قدرية لا نتكلفها تكلفًا، ولا نستدعيها استدعاءً، نسيح فيها سياحة أو نسبح مع تيار الطوفان”
ربما كان النصر في الموت
من المكتسبات الإيمانية للطوفان المبارك الذي أطلقه أعيان الطائفة المنصورة في هذه الأمة؛ هي تصحيح مفهوم الموت والحياة، فالنبي ﷺ شَخَّصَ مشكلة الأمة في “مرحلة الغثائية” بأنَّها: (حب الدنيا وكراهية الموت)! وربما كانت الهزيمة في الحياة.
وربما كانت الهزيمة في الحياة
ومن الآفات التي أظهرها؛ خطأ مفهوم النصر والهزيمة عند أكثر المسلمين؛ فإنَّ الله ﷻ عاتب أصحاب خير الورى “يوم أُحُد” لتعجبهم مما أصابهم من مصيبة، بعدما نصرهم “يوم بدر”!
أرادوها انتصارات محضة لا هزيمة فيها، ومكتسبات لا خسائر فيها، فأنزل الله ﷻ فيهم: (أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إنَّ الله على كل شيء قدير).
الاعتماد على الله هو القوة الدافعة للعمل
فلو ظل الشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة تعتمد على العرب أو المسلمين أو المجتمع الدولي؛ ما كان ليصنع شيئًا وما كان لحلم تحرير فلسطين والأقصى ذاك الذي بات يراودنا اليوم ليتحقق أو تبدر منه بادرة، فحتى لو كانت الأمة ستنهض معهم فلا بُدَّ أن يتحركوا هم في المقدمة لأنَّهم أصحاب هذا الثغر، وهم فرسان حلبتها وطلائع ثورتها.
عدم الركون للرخاء
فإنَّ رسول الله ﷺ خشي على هذه الأمة الركون إلى الدنيا وزهرتها فقال: (ما الفقر أخشى عليكم)، وقد قامت المقاومة بخوض طوفانها العظيم على رخاء نسبي بدأ يتحقق، وقدر كبير من الاستقرار الملحوظ؛ واكتفاء غذائي نسبي، لكنهم لم ينسوا أهم حاجات الإنسان وهي “حريته” و”كرامته” و”حقه”، ولم تخدعهم نظرية “المعلف” الصهيونية، التي اغترت بها كثير من الشعوب.
بل أعدت المقاومة إعدادًا طويل الأمد لمهاجمة العدو، إعدادًا استغرق عقودًا من الزمن، ليضربوا ضربتهم الموجعة، في وقت اقتنع فيه العدو برغبتهم في التهدئة وانخفاض خطورتهم عليه، وفعالية إجراءاته. ودلالة ذلك أنَّهم يمتلكون عزمًا اعتقاديًّا أصيلًا وراسخًا نشأوا وتربوا عليه فصار لهم استراتيجية؛ وهو ضرب العدو وقهره وتحرير الأرض المقدسات منه.
ويقللكم في أعينهم
كان إعداد المقاومة في العلن وتحت أعين ورصد العدو، ومع ذلك رفعت كل تقاريره بأنَّها تحركات عادية كما ذكرت ذلك يديعوت أحرونوت في تقاريرها عن مناورة “الركن الشديد” التي كانت محاكاة لاقتحام عدة مستوطنات بنفس سيناريو طوفان الأقصى يوم ٧ أكتوبر.
وكذلك فقد ذكرت فورين بولسي تقريرًا عن رصد الأجهزة الأمنية المختصة “لشاباك” وأجهزة الاستخبارات بالجيش؛ لتحركات المقاومة في القطاع ليلة ٧ أكتوبر، ومع ذلك فقد صنفت على أنَّها عادية.
فقد قلل الله المجاهدين وتحركاتهم تلك في عين عدوهم، كما قللهم في أعينهم حين اقتحموا عليه بمنتهى البسالة برًا وبحرًا وجوًا رغم الفرق الهائل في العدد والعتاد، وهو قول الله ﷻ: (وَإِذۡ یُرِیكُمُوهُمۡ إِذِ ٱلۡتَقَیۡتُمۡ فِیۤ أَعۡیُنِكُمۡ قَلِیلࣰا وَیُقَلِّلُكُمۡ فِیۤ أَعۡیُنِهِمۡ لِیَقۡضِیَ ٱللَّهُ أَمۡرࣰا كَانَ مَفۡعُولࣰاۗ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرۡجَعُ ٱلۡأُمُورُ) [الأَنفَالِ: ٤٤]
حضور مشهد الأحزاب
فقد اجتمعت قوى الصهيونية المسيحية العاتية بكل جبروتها وتسليحها وإمداداتها العسكرية والاقتصادية والسياسية، وللجموع عند الله شأن آخر فالله ﷻ يقول: (سيهزم الجمع ويولون الدبر)، وجاءوا زُمُرًا تجر زُمُرًا، وأحزابًا تشد أحزابًا؛ وللأحزاب عند الرب ﷻ مواجهة خاصة، فأن تجتمع كل هذه القوى مظنة أن تهزم دين الله وتبيد أو تكاد عباد الله، وكل هذه الفئام من المؤمنين؛ هو مما لا بُدَّ أن يواجه بالدمار والنكال؛ سيما وقد أدى المسلمون في تلك المحلة ما عليهم لله، فالله هو هازم الأحزاب وحده وهو منجز وعده: (ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله).
ذلك أنَّ الجموع والأحزاب إن احتشدت ضد الفئة المؤمنة، لا يكون وزنها في ميزان الصراع الحتمي كوزن فئة منفردة أيًا كانت، فالجموع والأحزاب جاءت لتقهر جند الله على هذه الأرض المقدسة، وجاءت لتقتلع نبتة الإيمان التي هي من غرس الله، فكان لا بُدَّ أن يتحقق فيهم وعد الله.
أنتم أستار قدر الله
فما قامت به المقاومة ما هو إلا الفعل البشري المطلوب من العنصر الإنساني الإسلامي، الذي شعاره: (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين).
وما أن تتحرك قوى الدفع الإسلامية وينطلق أبناء هذه المدرسة النبوية لتحقيق كلمة الله في الأرض، وإقامة الحق والعدل والخير والجمال؛ حتى تعمل يد القدرة وتحقق المعجزات، ويتنزل المدد الرباني، وتسخر كل المادية في اتجاه هذه الحركة، قال تعالى: (قال رجلان من الذين أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنَّكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين).
وبمجرد الاستجابة للأمر يتنزل الوعد، حتى أنَّ الذين خالفوه كتب عليهم التيه أربعين سنة، والذين وافقوه حبست لهم الشمس حتى فتح الله عليهم.
عجز الأمة نتيجة ضرب القوى الحية فيها
كشف طوفان الأقصى عجز الأمة وأنَّها في أسوأ مراحلها بعد الثورات المضادة. وأنَّ الأمة هي نقطة الضعف الآن؛ لأنَّها ليست ظهيرًا قويًّا للمقاومة وإلا ما قام لها شيء، وأحسب أنَّ هذا ضعف عارض وطارئ بسبب تحطيم القوى الحية؛ فهذه الشعوب ثارت وناضلت قبل فترة قصيرة -حوالي عَشْر سنوات فقط- ضد الأنظمة العميلة والوظيفية حتى بالسلاح دون أي إعداد، وضحت تضحيات كبيرة، لكن هذه القوى الحية تعرضت لأشد أنواع البطش وهي القوى الحاملة لحركة الشعوب والموقظة لوعيها.
خطأ الشدة على الأمة
فلا يجوز التثريب على الأمة بهذه الصورة التي نراها أحيانًا، كأن تدعو امرأة مكلومة على بقية العرب بألا يشفع فيهم نبيه يوم القيامة، وغيرها من مشاهد وكلمات ينقلها الإعلام ووسائل التواصل أحيانًا.
فلم تدعم الأمة قضية من قضاياها ولا شعبًا من شعوبها كما دعمت فلسطين وأهلها، فلا أفغانستان ولا الشيشان ولا كشمير ولا تركستان ولا البوسنة ولا العراق؛ نالت معشار اهتمام الأمة والعرب خاصة بفلسطين، وهذا ليس تعييرًا ولا مَنًّا بل هو حقها وحقهم، ودلالته واضحة وهي أهمية هذه القضية للمسلمين واستشعارهم لواجبهم تجاهها.
ولكن ومع تغير الأوضاع في الأمة خلال عقود من المكر العالمي والمحلي، والعمل لتغيير الخارطة النفسية لشعوبها، ووقوف جيوشها وأنظمتها في موضع الحامي الحرامي، ومع تجفيف المنابع ومحاولات الإبادة وقيود التضييق على الحركة الإسلامية؛ بل لا نبالغ إن قلنا إنَّ ما فعلته بعض الأنظمة والجيوش العربية بشعوبها؛ ليس بأقل ما يفعله بكم عدو الأمة الأول اليوم في فلسطين، ولم يتجرأ جنود الاحتلال على الإهانة العلنية للنساء في فلسطين إلا بعدما قدمت له أنظمة تلك الدول بئس القدوة والأنموذج في هذا المجال.
كل ذلك أوهن القوى الشعبية العربية، وبالتالي أضعف دعم هذه القضية حتى كاد أن ينتهي -وإن كان ذلك ظاهريًّا- وربما يمثل هبوطًا في منحنى هذا الدعم في فترة من فترات الركود فقط وللأسباب المذكورة.
فإن اشتد تثريب أهلنا في غزة فبحقهم علينا، وإن ضعفنا عن نصرتهم فبمعذرتهم لنا.
طوفانكم بداية صحوة جديدة
مثَّل طوفان الأقصى ظهورًا جديدًا وصحيحًا لقضية الجهاد بكل أبعادها الأممية، وقضية الجهاد في الإسلام هي قضية حضارية بالمقام الأول، فهدفها حرية الإنسان في اعتقاده ورأيه وحياته ما التزم بحقوق الأمة والمجتمع.
وقضية الجهاد هي دعوية بالمقام الأول: (لتكون كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا)، ولذلك ترى أنظار العالم متوجهة اليوم صوب فلسطين وغزة منها خاصة، تندهش من هذا الصمود أمام أعتى أصناف العدوان في التاريخ، وأمام كل هذا الدمار والدماء، وتعجب من هذه التضحيات الصامدة، وثبات الآباء والأمهات أمام جثث فلذات أكبادهم الممزقة فداءً لدينهم وأرضهم المباركة وشعائرهم المقدسة، حتى دخل كثير من الناس في الإسلام بسبب هذه المشاهد الإيمانية المحضة التي هي من بركات الجهاد فحسب.
والجهاد في سبيل الله هو أقصر سبيل للإصلاح في الأرض والوحدة بين المسلمين، بل ورعاية أهل ذمتهم الذين يدخلون في ذمة الله ﷻ ورسوله ﷺ بسببه، وهذا المفهوم بنصه في سورة القتال: (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم).
فهذا الطوفان قد أحيا أمة بأكملها وصنع جيلًا يستطيع تحديد بوصلته جيدًا، كما قدَّم النماذج والقدوات الصحيحة لهذا الجيل.
الطوفان كشف موروث الذلة في الأمة الغضبية
كشفت حالة الارتباك عند العدو وعدم استعداده لسيناريوهات كهذه، مما أدى لحالة تخلخل كبير في صفوف الجمهور والحكومة والجيش، هناك حالة تصدع حقيقية، بل أكثر من ذلك استدعاء فكرة زوال ما تسمى بإسرائيل على لسان بعض السياسيين والعسكريين والأمنيين السابقين، كل هذا من مجرد ضربة جسورة ونافذة، لا تبدو للناظر كافية لإحداث كل هذه الجلبة والتخبط واستدعاء شبح الفناء، لكنه عدم الرسوخ وفقدان الاستحقاق، نعم لقد دفعت أثمانها باهظة من العرق والدماء، لكنها هي نفسها مبادرة: (ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنَّكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين).
تسلط قوى التطرف الصهيوني على الدولة
فإنَّ الحالة التي تتسلط فيها أية قوة متطرفة على أية دولة، هي نفسها المؤهلة لتفككها تحت ثقل الغلو ووطأة التشدد والافتقار للمرونة الضرورية، إذ تمارس القوى الغالية ظلمها وقهرها أول ما تمارسهما على الجماهير، وتتلاعب وتعبث أول ما تقدر على الأعراف والقوانين الضابطة لكيان الدولة، وتفكك الرابطة بين أبعادها المختلفة عسكريًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا، وهو ما يفسر الواقع الإسرائيلي المزعزع والمتصدع، وما لم تُنحَّ إلى الهوامش لتحوط التخوم وتشد الأطراف نحو المركز؛ فستؤدي إلى أضرار جسيمة وعواقب وخيمة تهدد الدولة نفسها.
وأخيرًا فقد مر بالأمة عيدان وأنتم كما أنتم في محنتكم وجهادكم، لكن أحدًا لم يستطع الفرح فيهما، فلم تذهب تضحياتكم العظيمة سدى، وقد وقف الحجيج هذا العام قبالة البيت يجأرون بلبيك، لكنهم تعلموا منكم كيف يكون الوقوف أمام أعداء الله بالسيف، كما فقهوا لماذا كانت عبادة الجهاد بعد عبادة الحج في كتب الفقه عند المسلمين.
وأما أنتم يا أهل فلسطين، وأما دماؤكم النازفة؛ فمن أكبادنا، وأما أشلاؤكم التالفة فمن أبعاض جسومنا، وأما أطلال دياركم المدمرة، فنور الله يشرق عليها صباح مساء، وأما أجداثكم الدارسة فرحمة الله وبركاته تتنزل عليها وعليكم ما أشرقت شمس وأهلَّ قمر.