
إنَّ “السؤال عن هوية المنتصر في حرب ما، أشبه بالسؤال عن الفائز في زلزال سان فرانسيسكو. مثله الحرب، لا يوجد فيها رابحون ولكن مستويات مختلفة من الخسائر” – كينيث والتز (Waltz 1959)
لم يزل مفهوم النصر في الحرب قضية جدلية تمتد جذورها إلى النقاشات الأكاديمية المستفيضة؛ وذلك لشح الحالات التي تنتهي فيها الحرب بنصر ساحق، ومن ثم الاختلاف حول المعايير والمحددات في تقييم مخرجات الحروب. فعلى عكس أي نشاط تنافسي اعتيادي، بين طرفين أو عدة أطراف، -كالألعاب الرياضية والفنون القتالية على سبيل المثال- ليس للحرب أطر ومحددات زمانية ومكانية أو نظام متفق عليه بين طرفي النزاع لاحتساب النقاط والفوز والخسارة، وتظل هذه المحددات والأطر، في كثير من الأحيان، مجرد آمال وتفضيلات في ذهن القادة ( Bartholomees Jr 2008)ما يجعل الحرب، شأنًا موضوعيًّا تُتناول حسابات النصر والخسارة فيه غالبًا بصورة منحازة وغير موضوعية.
على مدى التاريخ، تصدّر قادة امتازوا بالدهاء العسكري، لكن بالرغم من انتصاراتهم المدوية على الأرض، انتهى بهم المطاف إلى الخسارة والسقوط، مثل هنيبعل ونابليون وهتلر. الأمر الذي يعبّر بصورة كبيرة عن الفجوة والفرق بين صنع السياسات والحسابات الاستراتيجية للحرب وخوض المعارك على الأرض، وكذلك عدم الحتمية في العلاقة السببية بين الانتصار في المعركة وكسب الحرب بشكل عام. لذلك، أطّر الاستراتيجيون الحرب باعتبارها، مثل الدبلوماسية، وجهًا آخر للعملية السياسية، ولكن بأدوات مختلفة (Clausewitz 1984). وبالتالي تقديم القطاع السياسي بصفته المسؤول عن قرار الحرب وتحديد أهدافها (Donnithorne 2013)، واعتبار الاستراتيجية جسرًا يرأب الفجوة بين القطاعين/ العمليتين ويوائم بينهما (Gray 2010).
إنَّ إعطاء الأولوية والمعيارية للأهداف السياسية في تقييم مخرجات الحروب ونتائجها لم ينه الجدل القائم حول تعريف النصر، وذلك لعوامل عديدة يمكن تلخيصها في خمسة أسباب رئيسية:
ففي المقام الأول، كحال المعارك الفيزيائية، من الصعب تحقيق العلامة الكاملة لطرف معين على المستوى السياسي مقابل خسارة كلية للطرف الآخر، فقد يبدو في بعض الأحيان أنَّ كل فريق ظفر بشيء من أهدافه السياسية بما يجعله مدعيًا للنصر في الحرب. فعلى سبيل المثال، في أعقاب حرب الخليج الثانية، زعمت الولايات المتحدة نجاح عملية عاصفة الصحراء، على اعتبار تمكنها من إخراج القوات العراقية من الكويت، بينما على الجانب الآخر احتفل النظام العراقي بالنصر لفشل التحالف بقيادة الولايات المتحدة في الإطاحة به وإسقاط بغداد ( Bartholomees Jr 2008).
ثانيًا، صعوبة تأطير الأهداف السياسية زمانيًّا وتحديد نقطة التقييم، وذلك لطبيعة الأهداف السياسية المستدامة والممتدة أبعد من الحدود الزمنية لتوقف القتال. فبعد عقدين من إسقاط طالبان في 2001، والانسحاب الأمريكي المفاجئ من أفغانستان في 2020، يعود السؤال القديم بحُلَّة جديدة، من المنتصر في الحرب؟ وهل الإجابة عن السؤال اليوم، هي ذاتها الإجابة في 2001؟ السؤال ذاته يتكرر في حرب الولايات المتحدة في العراق 2003، فهل يُقيم النصر بإسقاط نظام صدام حسين؟ أم بفشل الحكومات المتعاقبة في إعادة بناء العراق؟ كلا الحالتين تشيران إلى إشكالية تحديد المدى الزمني للتقييم، وكذا مركزية انعكاسات الحرب على السياسة في عملية التقييم.
وتمثل هذه النقطة علاقة معقدة من الناحية الرأسية في المستويات بين الحرب والسياسة والاستراتيجية والاستراتيجية الكبرى، وكذلك من الناحية الأفقية المتمثلة في تحديد النقاط والأطر الزمانية للتقييم بين تحقق نتائج إيجابية على جميع المستويات الرأسية بداية من الانتصار في القتال والنجاح الاستراتيجي ومن ثم المكاسب السياسية المباشرة والارتدادات على مستوى الاستراتيجية الكبرى، والتوازنات الجيوسياسية على المدى الطويل. فبالعودة إلى التنافس البريطاني-الفرنسي في أمريكا الشمالية، سعت فرنسا إلى إضعاف جارتها الشمالية من خلال دعم الثوار الأمريكيين بالسلاح والمال والتدريب، وبالفعل انتصرت الثورة الأمريكية وحققت فرنسا نجاحًا عسكريًّا، استراتيجيًّا، وسياسيًّا تمثل في خسارة بريطانيا لمستعمراتها في غرب الأطلسي (Rovner 2025).
لكن على المدى الطويل أتاحت الخسارة لبريطانيا الحصول على فائض موارد وإعادة تطوير أسطولها وتثبيت نفوذها في أوروبا والقارة العالمية، بما أتاح لها لعب دور الموازن من خارج النظام، بينما كانت فرنسا غير قادرة على مجاراتها بسبب استنزاف مواردها في دعم الثورة الأمريكية. وبالتالي من حيث الاستراتيجية الكبرى في السياقين الرأسي والأفقي استطاعت بريطانيا أن تتفوق على فرنسا، وبدا أنَّ خسارة المعركة في أمريكا كانت على المدى الطويل مكسبًا بريطانيًّا وخيبة فرنسية. (Rovner 2025)
ثالثًا، صعوبة تعريف الأهداف السياسية، حيث لا تكون الأهداف السياسية واضحة في معظم من الأحيان أو متطابقة مع الخطاب المعلن. يميل كثير من الساسة إلى التعتيم على أهدافهم الحقيقية في الصراعات، واستخدام الكذب أداةً استراتيجية، إما لخداع الخصوم من خلال التضليل والتعتيم الاستخباراتي أو حتى لإقناع الشعب بجدوى وكسب تأييدهم ودعمهم لها، ما يجعل الهدف السياسي المزعوم معيارًا خادعًا في التقييم. (J. J. Mearsheimer 2013) (Jervis 2014) فبالعودة إلى مثال الحرب على العراق 2003، صرّح الرئيس الأمريكي جورج بوش بأنَّه يسعى إلى التخلص من نظام صدّام حسين الديكتاتوري، ومن أسلحة الدمار الشامل التي بحوزته، والتي يمكن تمريرها للقاعدة، ليتضح فيما بعد أنَّ العراق لا يملك أي أسلحة دمار شامل أو صلة بتنظيم القاعدة، وأنَّ الخطاب كان تضليلًا متعمدًا من الرئيس الأمريكي حينها. (Staube and Rampton 2003)
رابعًا، وبالنظر إلى ذات الحرب من زاوية دول الخليج، التي رحبت بإسقاط نظام صدام حسين باعتباره هدفًا سياسيًّا يخدم مصالحها، يتضح أنَّ الأهداف السياسية قد لا تعبّر بالضرورة في جميع الأحيان عن مصلحة الأمة، وقد تكون نتيجة لحسابات خاطئة أو معطيات منقوصة، وفي هذه الحالة، فإنَّ تحقيقها يضع الدولة المعنية في موقف أصعب من ذاك الذي كانت عليه قبل الحرب، وهو حال دول الخليج اليوم. (Alterman 2007)
خامسًا، تباين الأطر النظرية والتفسيرية لأهداف الحروب، فمحاولة قراءة الأهداف الحقيقية للحرب، أبعد من الخطاب السياسي الدعائي، هي عملية تكهنية تخرج بالعديد من الاستنتاجات التي قد تكون متناقضة فيما بينها، حتى وإن حاولت جميعها الاحتكام إلى منهجيات علمية وعملية. وذلك لاختلاف الأطر النظرية والأبعاد التفسيرية، والميول والتفضيلات السياسية والأيدلوجية للمحللين. ففي حرب روسيا في أوكرانيا 2022، ذهب أساتذة العلاقات الدولية المنتمون إلى المدرسة الليبرالية إلى قراءة تحركات روسيا باعتبارها سلوكًا إمبرياليًّا حديثًا، يهدف من خلاله بوتين إلى احتلال الدول المجاورة له. (Mankoff 2022). على النقيض من ذلك، يرى منظرو المدرسة الواقعية، أنَّ ما تقوم به روسيا هو إجراء دفاعي للاستجابة لتهديد وجودي تمثل في سعي الولايات لضم أوكرانيا إلى حلف الناتو. (J. J. Mearsheimer 2014)
من زاوية أخرى، وبالعودة إلى اقتباس كينيث والتز بداية المقال، ومقارنته بين الحرب والزلزال، يخلص إلى أنَّه في كثير من الحروب، وبسبب حجم الأضرار المباشرة والارتدادات السلبية على الأصعدة السياسية والاستراتيجية على المدى القصير والمتوسط، قد لا يكون هناك منتصر حقيقي في الحرب، ويظل تعبير طرف ما عن النصر هو في الواقع بصورة أخرى تعبير عن حقيقة أنَّه الطرف الذي تكبد أقل الخسائر. وهنا يشير ليدل هارت إلى ضرورة التفرقة بين النصر وعدم الخسارة، مؤكدًا على طرح والتز، أنَّ ثمة حروب بلا منتصر فعلي. (Hart 1954)
أبعد من ذلك، يذهب السؤال عن النصر في الحرب حتى نقطة البداية في تقييم إذا ما كانت الحرب -بغض النظر أحققت أهدافها المعلنة والمبطنة أم لا- الخيار الاستراتيجي الأمثل لخلق الموقف المأمول. فكما في حكمة صن تزو، أنَّ النصر في أعلى صوره هو ذاك الذي يمكن الظفر به من دون خوض الحرب في المقام الأول متى ما كان يمكن تبديل ميزان القوة والوضع الاستراتيجي القائم بوسائل أكثر ابتكارًا. (Tzu 2013).
وفي ظل الغموض الذي يعتري الحرب وظروف اتخاذ قرارها وإدارتها، يذهب المتخصصون للأخذ بمعايير أكثر شمولية في تقييم النصر، وهو ما يأخذ التقييم لمساحة أعمق من سطح التصاريح المعلنة للقيادات السياسية وأبعد من حدود السياقات الزمانية والمكانية للحرب بمستوياتها العسكرية والسياسية. وذلك باعتبار الحرب أداة لتغيير الوضع القائم لميزان القوة المباشر ضد الخصم المستهدف بصورة خاصة، وكذا على مستوى ميزان القوة العام في النظام. وبالتالي تقدير نتائج الحرب على الوضع الجيوسياسي العام واتجاه تغير ميزان القوة بين المتحاربين. (Martel 2011)
ويتعدى التقييم القطاع العسكري وتوازنات القوة، ليتناول الانعكاسات والنتائج على القطاع المدني الذي يقع في صدارة مدخلات تقييم الموقف الاستراتيجي، ولهذا كان نصر الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية مكتملًا -على عكس العراق وأفغانستان- حيث شمل تدمير القدرات العسكرية للخصوم وإعادة بناء الدول المهزومة والحليفة بما أتاح لأمريكا إعادة تشكيل النظام الدولي وخلق ميزان قوة وواقع جيوسياسي يخدم مصالحها. (Martel 2011)
وبمحاولة إسقاط ذات المعيار على حرب الولايات المتحدة في فيتنام، وهي حرب يتم تناولها بشيء من التبسيط المفرط، يمكن القول إنَّ قوات الفيتكونج انتصرت، رغم ما تكبدته من خسائر كثيرة على الأرض، لأنَّها أولًا، خلقت ميزان قوة ووضعًا جيوسياسيًّا وموقفًا استراتيجيًّا مفضلًا لها، وذلك بدخولها إلى سايجون عاصمة الجنوب، وانتشار المد الشيوعي ليس على مستوى فيتنام وحسب، ولكن على صعيد الهند -الصينية وإسقاط مبدأ أيزنهاور في ممانعة تأثير الدومينو الشيوعي. ومن ثم ثانيًا، لانتصار الفيتناميين على مستوى القطاع المدني؛ حيث خلقت الغارات الجويّة الأمريكية ضد القرى موجات غضب شعبي ودفعت بالجموع للانضمام إلى الشيوعيين، وأفضت إلى دخول قرى في حلف الفيتكونج، وبتقييم خسائر الثوار الشماليين على المستوى المدني بخسائرهم، تميل كفة الميزان لتغليب المكاسب في المستوى العام. (Rovner 2025)
الخلاصة، يمكن القول بإنَّ المعايير النظرية في تقييم النصر في الحرب تتطرق إلى:
أولًا، دراسة وضع ما قبل الحرب بصورة عامة، بما في ذلك توازن القوة والموقف الاستراتيجي للأطراف وحالة القطاع المدني في حينها.
وبالتالي، ثانيًا، تحليل إذا ما كانت الحرب الخيار الاستراتيجي الأمثل للطرف الطامح إلى تبديل الواقع الجيوسياسي.
ثالثًا، تقييم مخرجات المعارك وانعكاسها على توازن القوة والموقف الاستراتيجي للأطراف فيما بعد الحرب، بما في ذلك القطاع المدني.
المراجع:
Bartholomees Jr, J. Boone. 2008. “A Theory of Voctory.” US Army War Collage Quarterly: Parameters 38 no.2, 25-36.
Alterman, John B. 2007. Iraq and the Gulf States: The Balance of Fear. Washington: United States Institute of Peace.
Clausewitz, Carl Von. 1984. On War. Princeton: Princeton University Press.
Donnithorne, Jeffrey W. 2013. “Theories of Civil- Military Relations.” In Culture Wars, by Jeffrey W. Donnithorne. Alabama: Air University Press.
Gray, Colin S. 2010. The Strategy Bridge: Theory and Practice. Oxford: Oxford University Press.
Hart, Basil H. Liddell. 1954. Strategy . New York: Frederick A. Praeger.
Jervis, Robert. 2014. “What’s Wrong With the Intelligence Process?” In Strategic Studies: A Reader Second Edition, by Thomas G. Mahnken and Joseph A. Mailo, 172-183. New York: Routledge1.
Mankoff, Jeffrey. 2022. “The War in Ukraine and Eurasia’s New Imperial Moment.” The Washington Quarterly Volume 45, Issue 2, 127-147.
Martel, William C. 2011. Victory in War: Foundations of Modern Strategy. Cambridge: Cambridge University Press.
Mearsheimer, John J. 2013. Why Leaders Lie: The Truth About Lying in International Politics. Oxford: Oxford University Press.
Mearsheimer, John J. 2014. “Why the Ukraine Crisis Is the West’s Fault: The Liberal Delusions That Provoked Putin.” Foreign Affairs Vol. 93, No. 5 , Sebtember/October: 77-84.
Rovner, Joshua. 2025. Strategy and Grand Strategy. Oxon: Routledge.
Staube, John , and Sheldon Rampton. 2003. Weapons of Mass Deception. New York: Penguin.
Tzu, Sun. 2013. The Art of War. London: Colins Classics.
Waltz, Kenneth. 1959. Man, the State, and War. New York: Columbia University Press.