
“حينما تعرف نفسك وتعرف عدوك، ستتمكن من خوض مئات المعارك دون خوف أو خسارة “ – صن تزو (Tzu 2013)
تُعرّف العقيدة العسكرية بأنها مجموعة من المبادئ والمعايير والمحددات العامة التي تنظم شكل الجيش ووحداته العسكرية والاستراتيجيات والطرق التي يتم فيها تحديد نمط وطبيعة عملياته وأساليب تنفيذها والقوى المشاركة والأدوار التكتيكية لكل منها. (Posen 1984)ويمكن القول إن العقيدة العسكرية تعكس تفسير القادة– في الطرف الأول- للنصر العسكري الحاسم ووسائل تحقيقه، بالاستناد إلى طبيعة الطرف الثاني والتهديد الذي يمثله.
في هذا المسعى، شكّل النصر الحاسم هاجساً لصانع القرار الإسرائيلي وقضية وجودية لكيان يسعى للتمدد على مساحات تتبع لجهات اجتماعية وسياسية مناوئة له. كانت حرب الأيام الستة أو النكسة في 1967، نموذجاً مثالياً للنصر الحاسم على مختلف الأصعدة. فهي حرب خاطفة أسفرت عن نصر عسكري إسرائيلي واضح ضد القوات المصرية والسورية والأردنية، ومكاسب جيوسياسية باحتلال غرب القدس والضفة الغربية بالإضافة إلى الجولان وسيناء. (Inbar 2017)
لاحقاً، وجدت إسرائيل نفسها أمام معطيات أكثر تعقيداً في حرب الاستنزاف، ثم في حرب أكتوبر 1973، حيث تمكنت القوات المصريّة من اجتياز حاجز برليف والعبور إلى الضفة الشرقيّة من قناة السويس، قبل أن يتمكن الإسرائيليون من اختراق ثغرة الدفرسوار والعبور إلى الضفة الغربية ومحاصرة الجيش المصري الثالث، لتنتهي المعركة دون تمكن طرف من حسم الانتصار الميداني. وبعد انتهاء الحرب، أعلن كلا الطرفين انتصاره في الحرب. استند المصريون لعبورهم إلى الجهة المقابلة ما غير الميزان التفاوضي مع الاحتلال. بينما تحجج الإسرائيليون بإفشال خطة السادات بتطوير الهجوم عبر المضائق وما تلاها من انتكاسة للجيش المصري الذي فقد الأفضلية في المعركة. (الشاذلي 2011)
جدل الحسم والنصر امتد إلى التداعيات السياسية واتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل في كامب ديفيد 1979، والتي احتفى بها السادات باعتبارها تتويجاً سياسياً لنصر أكتوبر العسكري – من وجهة النظر المصرية- واستعادة للأراضي المحتلة في شبه جزيرة سيناء (Sadat 2009)، بينما فسرها الإسرائيليون بأنها استسلام مصري وتخلٍ عن الخيار العسكري، وبالتالي تمثل الانتصار في إخضاع أكبر تهديد عربي، ونهاية لأكثر من عقدين من القتال، وهو ما حظي بقبول شعبي واسع حينها (Gerdes 2015).
شهد العقد الأخير من القرن العشرين تحولاً آخراً – أشد تعقيداً – في طبيعة التحديات الأمنية للجيش الإسرائيلي، بظهور اللاعبين والفصائل من غير الدول التي تعتمد على أنماط الحروب غير المتماثلة والهجينة، كحروب العصابات والعمليات الفدائية والقصف الصاروخي، ما أدى إلى تبدل معادلة الحروب الإسرائيلية، والطبائع الجغرافية والطبوغرافية والديموغرافية للمعارك التي باتت تدار في المدن والمناطق الحضرية، بما يفرض تبديل أنماط الاشتباكات ويضيف المزيد من التعقيد إلى معضلة النصر القائمة. (Vlaicu 2022)
كانت الاستجابة للحرب الأولى مع حزب الله في عام 2006 من خلال تطوير “عقيدة الضاحية” نسبة إلى الضاحية الجنوبية ببيروت – معقل حزب الله- والتي استندت لمحاولة تعطيل قدرات الخصم الهجومية من خلال الاستخدام المفرط وغير المتناسب للقوة الجوية لضرب مراكز ثقله المدنية والعسكرية. (IMEU 2014)
إن عقيدة الضاحية، وما تضمنته من توظيف القصف الاستراتيجي (أي القصف العشوائي والممنهج للأهداف المدنية)، وعمليات “جز العشب” كما يطلق عليها جيش الاحتلال، لم تفلح في منحه نصراً واضحاً في كل الحروب التي خاضها لاحقاً، ومن ضمنها أربع حروب ضد حماس وقطاع غزة، والتي انتهت عند نقطة رمادية ادعي فيها كل طرف ظفره بالنصر. وبالتالي بات ملحاً على صنّاع القرار في جيش الاحتلال إعادة تقييم خياراتهم الاستراتيجية، وتطوير عقيدة عسكرية جديدة تستوعب المتغيرات بصورة أكثر شمولية. (Ortal 2020)
منذ 2019، بدأ الجيش الإسرائيلي محاولة تطوير عقيدة عسكرية جديدة، هدفها الرئيسي تعريف النصر ووضع الخطوط الاستراتيجية والعملياتية لتحقيقه. بداية من التعريف، ذهب رئيس الأركان -في حينها- أفيف كوفاخي، بأن النصر لم يعد متمثلاً في احتلال الأرض – كما جرت منهجية إسرائيل في حروبها التقليدية السابقة- ولكن في القدرة السريعة والمنهجية على تدمير قدرات العدو ومراكز ثقله بأسرع وقت وأقل كلفة، وإعادة تكييف أدوار القوات البريّة لهذا الغرض. (Lappin 2022)
بتقييم العيوب في العقائد العسكرية السابقة، خلص الإسرائيليون إلى أن الاعتماد المطلق على التفوق الجوي ليس كفيلاً بتحقيق النصر في الحروب غير المتماثلة، بالإضافة إلى ذلك بدا أن قدرات الخصوم تطورت إلى أبعد من عمليات حرب العصابات من خلال امتلاكهم لترسانة صاروخية كبيرة تتيح لهم اتباع أساليب الحرب الهجينة، والأهم من ذلك أن خصوم إسرائيل باتوا يعملون ضمن محور عملياتي مشترك، بما يجعل إسرائيل عرضة للحصار والتطويق. (Ortal 2020)
في خطابه عن التهديد الإيراني أمام الكنيست 2019، تطرق رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو إلى تقييم قدرات الفصائل الحليفة لإيران، مثل حماس، وحزب الله، والمليشيات الشيعية في العراق، بالإضافة إلى حركة أنصار الله (الحوثيين) في اليمن، وقدرتهم على توظيف منظوماتهم الصاروخية لصناعة “حلقة نارية” حول إسرائيل. واتهم نتنياهو إيران بتهريب صواريخ للفصائل المختلفة ومنها صواريخ بعيدة المدى للحوثيين قادرة على إصابة أهداف إسرائيلية (Rubin 2020). وبالتالي انتقلت إسرائيل في تحديد الخصم والمعركة من مستوى الفصائل إلى التوازن الإقليمي مع إيران التي تفضل خيار تمرير الصراع وحرب الوكالة.
ضمن هذه المعطيات، وإعاة تعريف التهديد في السياقين الموضوعي والجغرافي، وضع جيش الاحتلال سيناريو حرب متوقعة تتعرض فيها مناطق سيطرته لقصف صاروخي من إيران وحلفائها، بالإضافة إلى حرب بريّة تشن ضده من الجولان بسوريا، وجنوب لبنان، والضفة الغربية وغزة. (Samaan 2023) وللاستجابة لهذا التحدي وضع كوفاخي خطة تنوفا (الزخم أو القوة الدافعة) والتي ترتقي بتكتيكات الحرب من العمليات المشتركة للوحدات المختلفة – القوات البرية والجوية – إلى مستوى المناورات متعددة المجالات، التي تتضمن مزامنة وتنسيق عالي بين العمليات البرية والجوية ومجالات الحرب السيبرانية والإلكترونية، بالإضافة إلى تطوير القدرة على ضرب إيران عن بعد بالصواريخ، والطائرات النفاثة (Lappin 2022) .
ولهذا الغرض توجب على إسرائيل إعادة تكييف وتشكيل القوات البريّة إلى وحدات صغيرة (الوحدات الشبح)، التي تتكون من قوات النخبة المدعومة بالمدرعات وسلاح المهندسين، للهجوم تحت إسناد جوي ومدفعي كثيف، بغرض كشف مواقع وتحصينات العدو وتدميرها، دون حاجة إلى احتلالها، وذلك باستخدام تقنيات متطورة كالمسيرات وتطبيقات الذكاء الصناعي، وبالتنسيق مع وحدات الأمن السيبراني والقوة الجوية (Samaan 2023).
مما سبق تتضح أربع نقاط رئيسية وهي: أولاً، معضلة تعريف النصر لدى الإسرائيليين والتي انعكست في قدرتهم على الظفر به.
ثانياً، إعادة تقييم الإسرائيليين للتهديد في سياق إقليمي واسع ضمن توازن القوى الإقليمي مع إيران.
ثالثاً، تبدل العقيدة العسكرية الإسرائيلية، وبالتالي استراتيجيات وتكتيكاتها في المعارك نحو العمليات المتزامنة للقوات المشتركة – بما في ذلك العمليات البريّة- وتوظيف وسائل الحرب التقليدية وغير التقليدية لتدمير قدرات الخصم.
رابعاً، يتبع الإسرائيليون من خلال نهجهم العسكري منذ أكتوبر 2023 وإلى حد كبير معايير ومحددات عقيدة النصر وخطة تنوفا، بما في ذلك في الخطط الفرعية المستحدثة في سياق الحرب الجارية، مثل خطة الجنرالات، والتي تبدو توظيفاً عملياتياً لمعايير عقيدة النصر، ما يعني أن دراستها تتيح، إلى حد كبير، القدرة على توقع وقراءة السلوك العسكري لجيش الاحتلال في الحرب الجارية على مستوى الأهداف الكبرى واستراتيجيات الحرب والعمليات وحتى التكتيكات على الأرض.
المراجع:
Gerdes, Daniel L. 2015. The Possibility of Peace: Israeli Public Opinion and the Camp David Accords. Honors Project: Hmline University .
IMEU. 2014. “Explainer: The Dahiya Doctrine & Israel’s Use of Disproportionate Force.” Institute for Middle East Understanding. July 31. Accessed 1 19, 2025. https://imeu.org/article/the-dahiya-doctrine-and-israels-use-of-disproportionate-force.
Inbar, Efraim. 2017. “The Burden of the 1967 Victory.” Begin-Sadat Center for Strategic Studies. April 5. Accessed 1 2025, 19. https://besacenter.org/burden-1967-victory/.
Lappin, Yaakov. 2022. The IDF’s Momentum Plan Aims to Create a New Type of War Machine. Begin-Sadat Center for Strategic Studies. https://besacenter.org/wp-content/uploads/2020/03/1497-IDFs-Momentum-Plan-Lappin-final.pdf.
Ortal, Eran. 2020. “Going on the Attack: The Theoretical Foundation of the Israel Defense Forces’ Momentum Plan.” Israel Defence Force (IDF). 10 1. Accessed 1 21, 2025. https://www.idf.il/en/mini-sites/dado-center/vol-28-30-military-superiority-and-the-momentum-multi-year-plan/going-on-the-attack-the-theoretical-foundation-of-the-israel-defense-forces-momentum-plan-1/.
Posen, Barry. 1984. The Sources of Military Doctrine: France, Britain, and Germany Between the World Wars. Ithaca: Cornell University Press.
Rubin, Uzi. 2020. Iran’s Missiles and Its Evolving “Rings of Fire”. The Begin-Sadat Center for Strategic Studies, Mideast Security and Policy Studies No. 169.
Sadat, Jehan. 2009. “Thirty Years After Camp David.” Anwar Sadat Chair for Peace and Development. 3 26. Accessed 1 22, 2025. https://sadat.umd.edu/about-us/thirty-years-after-camp-david.
Samaan, Jean-Loup. 2023. “‘Decisive Victory’ and Israel’s Quest For a New Military Strategy.” Middle East PolicyVolume 30, Issue 3, September : 3-15.
Tzu, Sun. 2013. The Art of War. London: Colins Classics.
Vlaicu, Mihai. 2022. ” Development Within the Doctrine of Joint Action of the Israeli Defence Forces.” Strategic Impact vol.82 no.1, 42-51.
الشاذلي, سعد الدين. 2011. حرب أكتوبر: مذكرات الفريق سعد الدين الشاذلي الطبعة الثانية. القاهرة: رؤية للنشر والتوزيع.