مقالات

الرئاسة والمقاومة والتطبيع: لماذا تصعّد إسرائيل ضد لبنان؟

سريعًا، وفور انتهاء الحرب الإسرائيلية على لبنان، بدأت الحركة الاقتصادية اللبنانية بالانتعاش، على الرغم من إدراك اللبنانيين أنَّ مخلّفات الحرب سترافق البلد لفترة مجهولة المدة. إلا أنَّ الشعور الشعبي العام لم يتصور عودة الحرب سريعًا، أو بعبارة أدق، لم يكن يتصور أنَّها لن تتوقف.

كما في بداية الحرب، عادت الضربات تدريجيًّا، وانتقلت من جنوب الليطاني والبقاع إلى شمال الليطاني، ومؤخرًا إلى الضاحية الجنوبية لبيروت، فعادت الضربات مصحوبة بتحذيرات، لتتطور سريعًا إلى ضربات دون أي إنذار، ولكن هذه المرة دون ردّ من حزب الله.

لم تتغيّر استراتيجية حزب الله منذ توقيع وقف إطلاق النار وانهيار السقف السوري على رأسه بعد التوقيع؛ إذ يشعر الحزب بإرهاق شديد، سواء على مستوى التنظيم والبنية أو على مستوى بيئته الحاضنة التي أثقلتها الحرب وما صحبها من جراح. فكان قراره، الساري حتى اللحظة، هو إعادة بناء كيانه وهيكليته، مع محاولة الحفاظ على حيازة السلاح، وإعادة بناء القوة في الخفاء وعلى المدى الطويل، ومحاولة الثبات في وجه العاصفة الحالية التي تريد اقتلاعه، مقابل خفض الرأس بالكامل والتمترس خلف جسم الدولة اللبنانية والطائفة، مع الاستفادة من براعة الرئيس نبيه بري السياسية.

هذه السياسة أوحى الاتفاق بأنَّها منطقية استراتيجيًّا، بالاعتماد على أنَّ دوام الحال من المحال، وأنَّ الدورة اليوم عليهم، ولكنها ستدور بطريقة عكسية بعد مدة، ولو بلغت سنوات. لكنّ الإسرائيلي أدرك هذه الاستراتيجية، ورأى أنَّ الفرصة مواتية لقلب الطاولة، بل لتحطيمها، في ظل وجود ترامب وفريقه الصهيوني، وفي ظل انهيار عقد المعادلات الردعية العسكرية.

لقد كانت الضربات الإسرائيلية أثناء الحرب ذات طابع عسكري واضح وأهداف غزيرة بدأ جمعها فور انتهاء حرب تموز 2006. لكن اليوم، ومع انحسار بنك الأهداف إلى حده الأدنى، وغياب حزب الله شبه الكلي، انتقلت الضربات لتكون سياسية أكثر منها عسكرية.

طبعًا، أحد أهداف الضربات الإسرائيلية هو منع إعادة تسليح حزب الله، سواء عبر المعابر مع سوريا، أو في الجنوب، أو من خلال استهداف أي قيادي أو هدف يرى فيه الاحتلال خطرًا مستقبليًّا أو دورًا في إعادة إنعاش حزب الله عسكريًّا ولو على المدى الطويل. ولكن إسرائيل تدرك أنَّ القيادات المستهدفة أو المواقع لم تعد تُشكّل الخطر الذي كانت تشكله، لكنها بالضربات ترسل رسائل وتحاول فرض معادلات سياسية وعسكرية جديدة.

المعادلة الأولى هي ردّ على فكرة ترددت في الأوساط اللبنانية، وهي إعادة تشكيل المقاومة بشكل شبه شعبي، والتي ردّ عليها الإسرائيلي بشعار “بيروت مقابل كريات شمونة”، وقد طبّق ذلك سريعًا بضرب بيروت بعد خروج بضعة صواريخ من لبنان لم تبلغ الأراضي المحتلة. وهذا يعني رفع الكلفة على لبنان إلى أقصاها في حال أي تحرك مقاوم مهما كان رمزيًّا، وهو ما دفع المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الموالي للثنائي الشيعي إلى تقديم دعوى لدى النيابة العامة التمييزية ضد مطلقي الصواريخ من الجنوب!

أما الهدف الأوسع للضربات، فهو موجّه ضد القيادة السياسية الجديدة للبنان، وتحديدًا إلى الرئيس جوزيف عون، ابن بلدة العيشية الجنوبية. فقد طمعت إسرائيل والولايات المتحدة أن يتكلل العصر اللبناني الجديد بالتطبيع بين لبنان وإسرائيل، وأن يصبح بوابة لإنهاء الوجود والتأثير السياسي لحزب الله، وهو ما لم يحصل. فبحسب القياس الإسرائيلي، فإنَّ مسار الرئيس عون لا يبشّر بالخير، ومؤخرًا صدرت مواقف عنه اعتُبرت أنَّها تحتضن حزب الله وبيئته، وهو ما قلب المعادلة السياسية، ودفع إسرائيل إلى تصعيد ضرباتها أكثر باتجاه ضاحية بيروت الجنوبية.

ففي تصريحاته بجانب الرئيس ماكرون من العاصمة الفرنسية باريس، برّأ الرئيس اللبناني حزب الله من إطلاق الصواريخ من الجنوب في تلميح إلى مؤامرة إسرائيلية في الأمر. كما أنَّه رفض طرح نائبة المبعوث الرئاسي إلى الشرق الأوسط مورغان أورتاغوس، التي أرادت إطلاق مسار التطبيع اللبناني الإسرائيلي، عبر طرحها “الحلّ السياسي والدبلوماسي البحت حول الإشكاليات الثلاث العالقة مع إسرائيل، بالتعاون مع فرنسا والأمم المتحدة”. وقد اقترحت المبعوثة الأمريكية تشكيل لجان منفصلة يجلس فيها لبنان السياسي وإسرائيل على طاولة واحدة، وهو ما لم يحصل سابقًا. وقد رفض عون هذا الطرح، وصرّح بأنَّه يرفض التطبيع، وأنَّ المسائل العالقة، مثل النقاط الخمس المحتلة من طرف إسرائيل وتسليم الأسرى اللبنانيين، لا تحتاج إلى لجان منفصلة وطاولات سياسية، ويمكن الاكتفاء بالتفاوض غير المباشر لترسيم الحدود البرية بين البلدين، أي تثبيت النقاط ال 13 العالقة.

إضافة إلى رفض عون للمطالب الإسرائيلية، فقد ظهر في السياسة اللبنانية الداخلية أقرب إلى رئيس مجلس النواب نبيه بري، الحليف الأول لحزب الله، منه إلى رئيس الحكومة نواف سلام، وهو ما ظهر في غالبية التعيينات، ما يبشّر بتحالف بين الرئاستين الأولى والثانية.

ولو أنَّ هذا التناغم في التعيينات كان تحت أعين الأمريكيين وبأسماء لا تخرج عن رضاهم، بل وتسميتهم، إلا أنَّ فكرة التناغم هذه قد تكون مقلقة. فصحيح أنَّ لها وجهًا إيجابيًّا في العقل الأمريكي، وهو جذب بيئة وممثلي الطائفة الشيعية إلى معسكرهم، إلا أنَّ احتمالية توسعهم وانقلابهم في لحظة معينة تبدو خطرة، ولذلك وجب الاستمرار ولكن مع الضبط، وعلى وجه السرعة، وهو أحد أسباب التصعيد العسكري الذي سرعان ما بدأ يترجم بظهور مطالب سياسية من وراء الكواليس، أبرزها المطالبة بتقديم لبنان جدولًا زمنيًّا واضحًا لنزع سلاح حزب الله، والتطبيق الحرفي للقرار 1701، بما يتضمنه من قرارات أبرزها القرار 1559 الرامي إلى نزع تام للأسلحة خارج نطاق الدولة، بما يشمل كل المجموعات اللبنانية وكذلك السلاح في المخيمات الفلسطينية، إضافة إلى القرار 1680، أي ترسيم وضبط الحدود بين لبنان وسوريا.

في ظل الأجواء المواتية، فإنَّ إسرائيل، وبضوء أخضر علني وتنسيق أمريكي، لن تهنأ حتى ترى دليلًا واضحًا على أنَّ لبنان الرسمي يريد ويستطيع تطبيق هذه القرارات، وفي المخيلة ما هو أبعد، وهو التطبيع التام بين لبنان وإسرائيل.

بالمقابل، فقد أكدت قيادة حزب الله، من الأمين العام الشيخ نعيم قاسم إلى رئيس الكتلة البرلمانية النائب محمد رعد، أنَّ طرح نزع السلاح غير وارد، وأنَّهم ملتزمون بالاتفاق الموقّع حصريًّا وبالبقاء تحت سقف الدولة.

أمام هذا المشهد، لا يبدو أنَّ الأمور في خواتيمها، بل إنَّ التصعيد قد يكون هو المرجّح، والعين على الإقليم، من سوريا إلى إيران، التي تنتظر مصيرها ومصير علاقاتها في المنطقة.

محمد فواز

باحث في العلاقات الدولية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى