
تحولت الثورات في العالم إلى موضوع من المواضيع المهمة في العلوم السياسية في الغرب، خاصة في الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية، فقد هزت “الثورات الثلاث الأخوات” كما يسميها الكاتب الجزائري عبد الرحمن بن عطية- القارات الثلاث؛ إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، إذ انتصرت كلها ضد الاستعمار والإمبريالية رغم فرق القوة والإمكانات. فقد تغلبت جزيرة صغيرة في الثورة الكوبية على الهيمنة الأمريكية بكل أساطيلها وجواسيسها وعملائها. كما انتصرت الثورتان الفيتنامية والجزائرية على الهيمنة الفرنسية وأذلتا جيوش فرنسا.
كذلك كانت ثورة محمد مصدق رئيس وزراء إيران وزعيم الجبهة الوطنية ضد الشاه، ومن ورائه بريطانيا والولايات المتحدة؛ محاولة قوية للانعتاق من تلك الهيمنة، حيث أمم النفط وحدد الملكيات الزراعية، فأجهضت الدولتان الثورة في عملية “أجاكس” الشهيرة بقيادة ضابط المخابرات الأمريكية كيرميت روزفيلت.
وقد تناول الباحثون الغربيون من أمثال جاك جولدستون وكرين برينتون وتيدا سكوتشبول وغيرهم من أكبر منظري دراسة الثورات؛ مواضيع مهمة عن خلفيات الثورات الكبرى في أوروبا وأمريكا اللاتينية والثورة الخمينية وغيرها، وقدموا بذلك مراجع مهمة في التعامل مع موضوع الثورات، تناولوا فيها بالتفصيل أسباب نجاحها وعوامل فشلها، كما رصدوا تتابع أجيال الثورات اللاحقة، وأهم محدداتها ورصيد خبراتها، مما يتيح تحديد أهم عوامل كبح الثورات وإجهاضها.
خطوات تطويق الثورات
أولًا: الضغط الاقتصادي عن طريق العقوبات الدولية وتعويق الاستيراد والتصدير وشل حركة الإنتاج، والعمل على قطع الطرق الرئيسية بمساعدة بعض المتمردين، مما يترتب عليه إغلاق المصانع وزيادة البطالة، حيث يمكن تجنيد العمال في تطويق الثورة كما حدث في ثورة رومانيا بعد الإطاحة بشاوشيسكو، وكما استخدمت ميليشيات البلطجية في إجهاض ثورة ٢٥ يناير في مصر.
كما تعمد القوى الغربية إلى افتعال الاضطرابات الداخلية بالتعاون مع بقايا النظم المنهارة وفلولها، بينما تعمل الدعاية الغربية على التهويل والتخويف؛ لسحب الاستثمارات وضرب السياحة، لما تحققه من عوائد سريعة تعود على المجتمع واحتياجاته الأساسية اليومية.
ثانيًا: استخدام سياسة العصا والجزرة، بمد جسور التفاهمات المشروطة وفتح آفاق محتملة للتفاهم وتخفيف الضغوط، وذلك لإبقاء الثورة وقيادتها تحت السيطرة، مع استمرار الضغط عليها في نفس الوقت.
ثالثًا: التنسيق مع والإيعاز لبعض الدول الحليفة للقيام بدور الشرير والطيب، بحيث تقود إحداها الهجوم والعداء ومحاولات إسقاط، بينما تلعب الأخرى دور الداعم والمساند بالقدر الذي يضمن التبعية وتقدم التنازلات المطلوبة.
رابعًا: دعم القوى المناوئة في الداخل من الأقليات الدينية والعرقية وإثارة النعرات والعداوات. وكذلك دعم بقايا وفلول الدولة العميقة؛ لتبدو كمعارضة سياسية وإعلامية وربما ميدانية إن تمكنت من ذلك. والمهم هو تفتيت الوحدة الوطنية والمجتمعية، بحيث لا يمكن الوصول لإجماع وطني على أي قضية.
خامسًا: ترصد أي بادرة للعنف تنسب للسلطة الثورية أو مؤيديها سواء كانت بحق أو بباطل- كأحداث الاتحادية بمصر- وترويجها إعلاميًّا وإشاعة الفتنة بها شعبيًّا، والتنديد بها دوليًّا، بينما يُسبغ الغطاء السياسي على العنف الذي تمارسه الفئات الأخرى المناوئة للثورة كمجموعات البلاك بلوك وجبهة الإنقاذ والتيار الشعبي وغيرها.
سادسًا: إشاعة عدم الاستقرار ونشر الفوضى وتشجيع الإضرابات والاعتصامات والعصيان المدني على أوسع نطاق ممكن، وتسليط جيوش البلطجية لترويع المسالمين؛ بغرض توطيد حالة الشعور بفقدان الأمن الإنساني والمعيشي للجمهور.
سابعًا: إفشال خطوات إقامة النظام السياسي البديل للقديم، وتعميق الانقسام السياسي بين القوى السياسية المختلفة، مثلما استقطب المجلس العسكري في مصر بعد ثورة يناير كل فريق على حدة ومنّاهم بالغلبة والاستئثار، كما أصدر وثيقة دستورية بعد أقل من ثلاثة أشهر من تنحي مبارك، ثم وثيقة المبادئ الحاكمة للدستور بعد ستة أشهر، وغيرها من خطوات استمرت لمدة عامين لعرقلة قيام السلطة الجديدة، وبث اليأس في النفوس، وإن فشلت تلك الإجراءات في منع انتقال السلطة فإنَّها على الأقل ستمثل عملية “التلغيم قبل التسليم” بحيث تتيح تفجير الأوضاع بعد ذلك.
ثامنًا: كسر هيبة السلطة الثورية الجديدة إذا تمكنت من الحكم، والنيل من رموزها بالسخرية والإهانة والاجتراء عليها، فسقوطها في نفوس الناس أول وأهم خطوات سقوطها في الواقع، كما حدث مع محمد مصدق في إيران ١٩٥٣، ومحمد مرسي في مصر ٢٠١٣. ومع ملاحظة أنَّ إجهاض كلتا الثورتين استمر لمدة عامين فحسب وبآليات متشابهة إلى حد كبير.
دور الدبلوماسية في حصار الثورات
كما تطورت سياسات التعامل مع الثورات المناوئة للإمبريالية الأمريكية والغربية وآلياتها، حتى صارت مبنية على علوم ومراجع ومنظرين؛ فقد تطور دور الدبلوماسية الغربية لاحقًا مع بداية الألفية الثانية وبالتحديد بعد الحادي عشر من سبتمبر.
فبينما غلب الطابع الشخصي والمواهب الفردية للدبلوماسي منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية ولأكثر من نصف قرن، بحيث كان لشخص الدبلوماسي نفسه والهيئة الدبلوماسية المعاونة له أثر كبير في تحليل المواقف واتخاذ القرارات اللحظية أثناء عملية التفاعل أو التفاوض الدبلوماسي، وكان لذلك أثره على العلاقات بين الدول سلبًا أو إيجابًا. فقد تغير هذا الدور إلى مدى بعيد، وصارت لتوصيات مراكز الدراسات السياسية والاستراتيجية أهمية كبيرة، بحيث أصبحت أبحاث وتوصيات هذه المراكز والمعاهد مؤثرة على كثير من تصورات وقرارات القادة وصانعي القرار، والدبلوماسيين على حد سواء.
إنَّ دور الدبلوماسي يتضمن لعب دور رأس كتيبة الاستطلاع وجمع ما يمكن من معلومات، بحيث اختلط الدور الاستخباري بالدبلوماسي، وفي ضوء هذا التصور يمكننا فهم زيارات وزراء خارجية فرنسا وألمانيا والوفود الرسمية الأمريكية إلى سوريا حاليًّا ومن قبلها مصر وليبيا وغيرها من دول الربيع العربي.
إنَّ ما سبق يقتضي التنبه لكفاءة وشخصيات المتعاملين مع تلك الوفود، والتي يمكن أن ينوب عن رأس السلطة التنفيذية فيها رئيس الوزراء أو وزير الخارجية أحيانًا، وذلك لعدم تركيز المسؤولية كلها، والاهتمام في شخص الرئيس، وبالتالي تركيز الخطورة عليه هو؛ ولأنَّ هذا يجعله كتابًا مفتوحًا مع الوقت لجميع تلك الوفود، وبالتالي إمكان التنبؤ بردود فعله وقراراته، وكذلك لإتاحة الفرصة لتأهيل غيره من مجموعة القيادة.
والتعامل الصحيح يكون بتحديد أولويات الثورة الداخلية بالدرجة الأولى- باعتبار الدبلوماسية خارجية- وأولى هذه الأولويات هي والسيطرة على الوضع الداخلي بشكل كامل وسد ثغراته. ورغم أنَّ كثير من الأمور الداخلية لا يمكن تحقيقها سوى بمساعدة الخارج مثل التنمية والاستثمارات وإعادة الإعمار وغيرها، فإنَّ المقصود هنا هو معالجة بقية التناقضات الداخلية والوصول لأكبر حالة استقرار واجتماع شعبي وتلاحم مجتمعي ممكن على الصعيد الاقتصادي والسياسي والاجتماعي.
وأهمية ذلك هو الوصول لأقوى حالة وحدة شعبية ممكنة، وبالتالي الحصول على أكبر تأييد شعبي، ومن ثم وضع أسس العقد الاجتماعي الذي ينظم كل تلك العلاقات بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، ونوع نظام الحكم الذي ينبني على أساس ذلك، وإخضاع الجميع لذلك في ضوء أيديولوجيات الثورة، ومنطلقاتها الاعتقادية الحرة بعيدًا عن الضغوط.
وبعد ذلك سيكون الموقف التفاوضي مرتكزًا على نقاط القوة على أرض الواقع، وهو ما سيرفع من أسهمها ويدعم موقفها ويقنع الأطراف الخارجية بالإذعان لمطالب الثورة وليس العكس.
وعلى أي حال، فيمكننا اعتبار أنَّ مجرد اندلاع تلك الثورات بشكل مفاجئ وعدم قدرة المؤسسات الغربية وصانعي القرار فيها على توقعها على الأقل بهذه القوة وهذا التتابع والانتشار السريع؛ فإنَّ ذلك يعتبر فشلًا محققًا لسياسات الهيمنة الغربية وانعتاقًا من إحدى حلقاتها.
كما ظهر إصرار شعوب المنطقة على انتزاع حقوقها رغم كل المحاولات والضغوط الغربية؛ ورغم أنَّ نجاحها كان نسبيًّا ومحدودًا، فإنَّ جذوتها بقيت مشتعلة حتى الآن تنتقل من دولة إلى أخرى، فما زالت ثورة تونس تحاول النهوض ومناهضة الانقلاب الناعم لقيس سعيد، وما زال الوضع متنازعًا في ليبيا بين متمردي حفتر في الشرق وحكومة طرابلس الشرعية في الغرب، وما زالت قوى الرفض المصرية تناوئ الانقلاب وتتربص به، كما انتصرت الثورة السورية المسلحة مؤخرًا وسيطرت على مقاليد الحكم في البلاد.
ولكن لا بُدَّ للقوى الثورية المنتصرة من اليقظة واستيعاب التجارب السابقة، بدراسة الفخاخ السياسية والورطات الداخلية التي لن تكف القوى الدولية عن نصبها بالتعاون مع لوبيات الدولة العميقة التي تبقى مفضلة لديها باعتبارها الطابور الخامس الذي يحمي مصالحها مهما كانت ديكتاتوريتها ودمويتها وإجرامها في حق الشعوب.