اتجاه البوصلة: إلى أين يسير العالم ومصر؟
تتوالى الأحداث المزلزلة للمشهد العالمي من انتشار فيروس كورونا وما واكبه من عمليات إغلاق وجَّهت ضربات مؤلمة للعولمة وسلاسل التوريد ونهج الاعتماد المتبادل بين الدول، ثُمَّ اندلاع الحرب في أوكرانيا التي أشعلت لهيب القتال مجددًا بين جيوش نظامية على الأراضي الأوروبية للمرة الأولى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وصولًا إلى معركة طوفان الأقصى التي باغتت إسرائيل وداعميها الغربيين. وتزامن ذلك مع تراجع قدرة واشنطن على ضبط الساحة الدولية، وازدياد التوترات الداخلية، مثلما يتجلى في:
- مشهد الانسحاب الأمريكي الفوضوي من أفغانستان في عام 2021 دون تنسيق مع الحلفاء الأوروبيين، ومع تخلي كامل عن الحكومة الأفغانية لتتلاشى كأنها لم تحكم البلاد مدة عشرين سنة.
- فشل واشنطن في تقديم نموذج ناجح في التصدي لجائحة كورونا مقارنةً بأداء بكين التي تمكنت من تحجيم انتشار الجائحة على الأراضي الصينية في فترة وجيزة، ثُمَّ انطلقت لتقديم مساعدات لدول العالم.
- ارتباك استراتيجية الولايات المتحدة للأمن القومي المنشورة في عام 2022، على وقع معركة طوفان الأقصى التي اندلعت في أكتوبر 2023، حيث شددت الاستراتيجية على أنَّ السنوات العشر المقبلة حاسمة في إعادة تشكيل النظام الدولي. وبينما عملت واشنطن على بناء نظام أمني إقليمي جديد في الشرق الأوسط يتيح لها تخفيف بصمتها العسكرية في المنطقة، وتوجيه الجزء الأكبر من مواردها إلى منطقة المحيط الهندي-الهادئ باعتبارها بؤرة الصراع على قيادة العالم ومركز الجغرافيا السياسية للقرن الحادي والعشرين. فقد عادت الولايات إلى حشد قواتها في الشرق الأوسط مجددًا لحماية إسرائيل، وسعيًا لردع إيران وميلشياتها عن الانخراط في حرب إقليمية.
- تمدد النفوذ الروسي إلى القارة الإفريقية، ومواصلة طهران لمشروعها النووي، وحدوث عدة انقلابات عسكرية في دول إفريقية مثل السودان ومالي والنيجر دون أن تكبح واشنطن أيًا منها لتكتفي بالإدانة والتهديد بفرض عقوبات.
- على المستوى الداخلي ساهمت حِقبة ترامب في زعزعة الاستقرار السياسي حتى وصل الحال إلى مشهد اقتحام الكونجرس ومقتل عدة أشخاص في حادث غير مسبوق كشف عمق التوترات في الولايات المتحدة. فيما يخيم على واشنطن شبح عودة ترامب للحكم مجددًا في انتخابات 2024.
اضطراب النظام الدولي
إنَّ النظام الدولي الحالي قد تشكل مع انهيار الاتحاد السوفيتي، وانفراد أمريكا بالنفوذ والهيمنة في ظل امتلاكها لقواعد عسكرية في المواقع الاستراتيجية عبر العالم فضلًا عن قدرات عسكرية غير مسبوقة كفلت لها تحقيق الردع ضد أغلب التهديدات، وهو ما أنتج نظامًا أمنيًّا يحفز القوى الأخرى الإقليمية والمحلية على اتباع قواعد اللعبة خوفًا من التعرض للعقاب الأمريكي.
دفعت أحداث سبتمبر 2001 واشنطن لخوض حربين في أفغانستان والعراق غاصت عميقًا في أوحالهما، واستنزفا الكثير من اقتصادها، مما دفعها إلى اتخاذ قرار بالانسحاب من العراق، ثُمَّ من أفغانستان لوقف نزيف الخسائر، والتفرغ لكبح الصعود الصيني الذي استغل الانشغال الأمريكي بحروب مكافحة الإرهاب في تعزيز قدرات بكين الاقتصادية والعسكرية.
من جانبه، استغل الدب الروسي لحظة التراجع الأمريكية للتقدم للأمام لوقف زحف الناتو إلى حدوده. وفي المقابل شرعت الدول الأوروبية بقيادة ألمانيا على وقع حرب أوكرانيا في عملية تسلح غير مسبوقة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، كما نشرت اليابان في ديسمبر 2022 استراتيجية جديدة للأمن القومي تنص صراحة على الاستعداد لحرب مع الصين وروسيا.
إنَّ النظام الدولي الحالي المتسم بتعدد الفاعلين وتجزئة القوة، يواجه العديد من التحديات في ظل رؤية عدة قوى كبرى مثل الصين وروسيا وقوى أخرى إقليمية صاعدة مثل تركيا والبرازيل وإيران، إنَّه لا يمثل مصالحها، لكن يمثل مصالح واشنطن بالدرجة الأولى، وبالتالي تعمل تلك الدول على فرض قواعد جديدة، فيما تطور الصين جيشها، وتستعد لتجاوز الولايات المتحدة لتصبح أكبر اقتصاد في العالم؛ كذلك ترى روسيا أنَّ الطريق إلى إحياء مكانتها كقوة عظمى يمر عبر تآكل النظام الذي تقوده واشنطن، وبناء نظام جديد.
إنَّ التحولات في بنية النظام الدولي لا تحدث بين لحظة وضحاها، فهي تأخذ وقتًا، وتمضي بشكل تدريجي، ولا زالت الولايات المتحدة هي القوة الأبرز عالميًّا، ولديها قدرة على التأثير في العديد من الملفات والقضايا بدرجة أكبر من غيرها، لكنها اليوم تمر بحِقبة تراجع مقارنة بما كانت عليه قبل ثلاثة عقود وقت انهيار الاتحاد السوفيتي، وهو ما أقر به مدير الاستخبارات المركزية وليم بيرنز في مذكراته المنشورة عام 2019 بعنوان “القناة الخلفية” قائلًا (أمريكا لم تعد القوة المهيمنة، وهي تسعى لاستخدام ما تبقى من رصيد تفوقها لتشكيل نظام دولي جديد يستوعب اللاعبين الجدد وطموحاتهم مع تعزيز المصالح الأمريكية الخاصة).
اقتصاديًّا يعيش العالم اضطرابات مالية وحالة ترقب إذ تواجه العديد من الدول مخاطر تصل حد الإفلاس مع ارتفاع معدلات التضخم، وهو ما يهدد بحدوث اضطرابات اجتماعية واسعة، وبالأخص في دول مثل مصر والأردن وتونس التي تعاني ديونًا مرتفعة وتدهورًا اقتصاديًّا وانسدادًا سياسيًّا، وتعيش فيها مجتمعات شابة.
وباستقراء دروس التاريخ فإنَّ تغيير قواعد اللعبة لتشكيل نظام دولي جديد، يحدث عادة عبر حروب دامية، وهو ما يعني أنَّ الفترة القادمة ستشهد صراعات متزايدة، فيما ستحاول القوى الإقليمية اقتناص الفرص لتحقيق تطلعاتها بالتزامن مع انشغال القوى الكبرى بصراعاتها البينية، وهو ما يعني مزيدًا من الحروب والأزمات الاقتصادية وعدم الاستقرار على المسرح العالمي.
العالم العربي وضرورة التغيير
عاشت الأمة الإسلامية نحو 13 قرنًا تحت مظلة سياسية جامعة منذ العهد النبوي والخلافة الراشدة إلى ما قبل نهاية حكم سلاطين الدولة العثمانية، ثُمَّ بدأت حقبة الاحتلال الأجنبي المباشر منذ القرن التاسع عشر، وخضعت معظم أنحاء العالم العربي لحكم غربي استمر عقودًا طويلة قبل أن يرحل مخلفًا عشرات الدول التي أصبح لكل منها حاكم وعلم ونشيد وجيش وشرطة وحكومة ومؤسسات وقوانين ومناهج تعليم مختلفة، مما عمق حالة الانقسام والتشظي في جسد الأمة.
شهدت حِقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية التخلص من ظاهرة الاستعمار المباشر مع تآكل قوة بريطانيا وفرنسا، ورغبة واشنطن بتقليص نفوذ الدول الأوروبية وقطع الطريق على السوفييت في العزف على وتر دعم حركات التحرر الوطني، فتبنت الأمم المتحدة في عام 1960 إعلانًا يقضي بتصفية الاستعمار. وواكب ذلك انهيار الأنظمة الحاكمة في العديد من الدول العربية التي انتقلت من الهيمنة البريطانية التي تفضل الحكم الملكي إلى التبعية لواشنطن التي فضلت حكم الأنظمة العسكرية لقدرتها على الوقوف في وجه الشيوعية الصاعدة آنذاك ولاحقًا التصدي للمد الديني الضارب بجذوره، وبدأت ظاهرة الانقلابات العسكرية بالمنطقة انطلاقًا من سوريا في عام 1949 مرورًا بمصر في عام 1952، ثُمَّ وصلت ظاهرة الانقلابات المدعومة أحيانًا من واشنطن وأحيانًا أخرى من موسكو، إلى العراق والجزائر وليبيا والسودان.
رفعت الأنظمة العسكرية الوليدة شعار القومية العربية، وداعبت أحلام الشعوب في تحقيق استقلال حقيقي، لكنها تعرضت لانتكاسات متنوعة شملت هزائم متكررة أمام إسرائيل، وتدهور الوضع الاقتصادي والحقوقي والتعليمي والصحي، وتفكك التماسك المجتمعي بدرجة كبيرة. وأصيب العالم العربي بحالة من الجمود والتكلس واكبت بقاء الحكام في مناصبهم لعقود، فحافظ الأسد لبث في مقعد الحكم 30 سنة قبل وفاته، كما لبث مبارك في حكم مصر 30 سنة قبل الإطاحة به مع اندلاع ثورة يناير، بينما نال القذافي منصب عميد الحكام العرب بفترة حكم بلغت 42 سنة قبل مقتله.
في حين تلاشت الأنظمة العسكرية من أمريكا اللاتينية، والأنظمة الاستبدادية الشيوعية من شرق ووسط أوروبا ودول البلطيق، فقد سيطرت أماني توريث الحكم لأبناء الرؤساء في الدول العربية ذات الأنظمة الجمهورية مثلما حدث مع بشار الأسد وبزغ نجم جمال مبارك وسيف القذافي وعدي وقصي صدام حسين وطارق صالح. ولكن اندلع زلزال مفاجئ عقب حادث انتحار محمد بوعزيزي في تونس نهاية عام 2010، فسقط عن مقاعد الحكم تباعا رؤساء ظن الكثيرون أنَّ الأرض قد تهتز من تحتهم دون أن يهتزوا مثل زين العابدين بن علي في تونس وحسني مبارك في مصر والقذافي في ليبيا وعلي صالح في اليمن، بينما اضطر بشار الأسد للاستعانة بطهران وموسكو للوقوف في وجه الثوار.
على أرض الواقع، توافقت العديد من القوى الإقليمية والدولية على شن هجوم مضاد على الثورات الوليدة، وحدث الانقلاب العسكري في مصر عام 2013، ثُمَّ ضربت الثورة المضادة بقوة في اليمن وليبيا، وشهدنا مجازر دموية في حواضر العالم الإسلامي كالقاهرة ودمشق وحلب وصنعاء، وذلك لإرسال رسالة بأنَّ الثورات جلبت مزيدًا من القمع والمعاناة.
رغم ما سبق، فقد اندلعت موجة ثانية من الثورات في العراق والجزائر والسودان خلال عام 2019، أطاحت بالرئيسين بوتفليقة وعمر البشير، لكن ثمار التغيير لم تسقط في يد الشعوب في تكرار لما حدث في الموجة الأولى، وترسخت لدى البعض فكرة مفادها أنَّ بقاء الأنظمة الاستبدادية في بلادنا حتمية تاريخية في ظل الدعم الخارجي لها.
ولكن يمكن الجزم بأنَّ الثورات المضادة قوضت المنطق الجيوسياسي للعالم العربي، الذي يقوم على نموذج الدولة القومية التي تتألف من حكومة مركزية رسمية وحدود واضحة. حيث لم تعد العديد من الدول العربية، مثل اليمن وليبيا وسوريا، موجودة في شكل كيانات متماسكة تحكمها حكومة مركزية قادرة على فرض سلطتها على معظم أراضيها، إنَّما أصبحت منقسمة، وساحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية، وهو ما تضمن مجازر غير مسبوقة للشعوب في العصر الحديث.
إنَّ موجات المصالحة التي برزت خلال الفترة الماضية على وقع انشغال دول المنطقة بالتعافي من تداعيات كورونا وتحسين أوضاعها الاقتصادية، بالتزامن مع اهتمام الدول الكبرى بملفات أخرى مثل الحرب في أوكرانيا، وهو ما تجلى في عمليات التقارب بين تركيا وكل من إسرائيل والإمارات والسعودية ومصر، ومصر وقطر، واتفاقية تقاسم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل برعاية أمريكية، لم تعالج أيًا من المشكلات والأزمات التي تعانيها المنطقة، إنما عملت على إخفائها وتجاهلها، وهو ما سيؤدي إلى تفجرها تباعا لتقضي على مسار المصالحات، ولعل فشل التقارب التركي الإسرائيلي على خلفية الحرب في غزة يوضح ذلك بجلاء.
لقد عملت واشنطن خلال السنوات الأخيرة على بناء نظام إقليمي أمني جديد في الشرق الأوسط يقوم على التعاون بين إسرائيل وعدة دول عربية، كي تتمكن من توجيه مواردها تجاه المناطق التي ترى أنَّها أكثر أهمية في كبح النفوذ الصيني، وضمن ذلك نقلت تبعية تل أبيب لإشراف القيادة المركزية الأمريكية بدلًا من القيادة الأوروبية بالجيش الأمريكي، كما عُقدت اتفاقيات إبراهام، لكن جاءت عملية طوفان الأقصى لتفسد المخطط الأمريكي، وتدفع واشنطن لتكثيف وجودها العسكري في المنطقة مرة أخرى دعما للاحتلال ومجازره، وهو ما أسفر عن تنامي صورة أمريكا كدولة مجرمة، كما أربك حساباتها وأوضح مدى فشل وتواطؤ أغلب أنظمة الحكم العربية.
إنَّ العديد من الأنظمة الحاكمة العربية الحالية تحكم بيد من حديد، لكنها تفتقد إلى الشرعية في نظر المواطنين، فضلًا عن عدم التوافق بين حدود الدول العربية التي رسمتها سابقًا القوى الاستعمارية والهويات الدينية والعرقية، وذلك بالتزامن مع مستويات مرتفعة من عدم المساواة الاجتماعية، وفشل في النهوض والتقدم. وهو ما يعني أنَّ التغيير أصبح ضرورة شرعية وأخلاقية ووطنية للخروج من دائرة الاستبداد والتجهيل والإفقار والتبعية.
الواقع المصري وآفاقه
على مستوى الأمن القومي، تتعرض مصر لتهديدات جوهرية، بداية من الإخفاق في التعاطي مع ملف سد النهضة ومياه النيل واستمرار الانقسامات في ليبيا واندلاع حرب دامية في السودان تهدد بتقسيمه إلى كيانات مفتتة، وصولًا إلى شن عدوان إسرائيلي على غزة مصحوب بدعوات إلى تهجير سكان القطاع إلى مصر. وهو ما يُحكم طوق الأزمات حول رقبة القاهرة.
على المستوى السياسي، أثبت النظام استمراره في سياساته الاستبدادية عبر إفراغه الانتخابات من أي منافسة ولو شكلية. كما عمل على توظيف الحوار الوطني للإيحاء بوجود انفراجة سياسية يخفف بها الضغوط الغربية والاحتقان المحلي، فيما لا زال المعتقلون والسجناء السياسيون الرافضون للانقلاب داخل السجون منذ 2013 دون أي حلحلة لملفهم، رغم إعلان جماعة الإخوان تراجعها عن أي منافسة سياسية، ولو عن طريق الانتخابات. وفي المجمل يخشى النظام أنَّ أي انفتاح نسبي سيرفع سقف المطالب والطموحات، مما يفكك البنية الاستبدادية التي أقامها خلال السنوات العشر الماضية لتعود أجواء ما قبل يناير 2011 مجددًا، ولذا لا يتوقع أن يقوم بأي إصلاحات حقيقية.
على الصعيد المجتمعي، ينظر السيسي للمواطن المصري باعتباره يمثل مشكلة في ذاته، ولذا أثار مرارًا في خطاباته قضية الزيادة السكانية باعتبارها عائقا أمام التنمية، وقال إنَّ نسبة النمو السكاني المطلوب الوصول لها بمصر لا بُدَّ أن تصبح 1% مدة عشر سنوات متتالية، حيث يبلغ عدد المواليد سنويًّا 400 ألف فرد، مع العلم أنَّ عدد المواليد السنوي بلغ في عام 2022 نحو 2.2 مليون ألف طفل. وبالفعل بدأت الحكومة في إجراءات للهندسة الاجتماعية تدفع باتجاه تعسير الزواج ورفع كلفة الإنجاب.
على المستوى الاقتصادي، يتواصل تدهور الوضع، حيث خفضت وكالات التصنيف الائتماني العالمية في عام 2023 تصنيف مصر، فيما تناور الحكومة مع صندوق الدولي للحصول على دفعات القرض الأخير دون المساس بشركات الجيش. وقاد ذلك الأسلوب إلى تفاقم الأزمة، حيث تجاوز سعر الدولار في السوق السوداء 50 جنيهًا، مما انعكس على ارتفاع الأسعار مجددًا. كذلك تراجعت تحويلات المصريين العاملين في الخارج خلال العام المالي 2022- 2023، بنسبة 30.8 بالمئة على أساس سنوي، وبرزت مشكلة انقطاع الكهرباء يوميًّا ساعتين على الأقل في ظل عدم توافر أموال لشراء سولار وغاز.
من جهتهم يسارع العديد من رجال الأعمال لنقل ملكية شركاتهم لدول أخرى للتمتع بامتيازات نقل الأرباح بالعملة الأجنبية إلى الخارج، ووجود آلية تقاضي أمام المحاكم الدولية حال حدوث خلافات مع الحكومة المصرية. فيما توقف آخرون مثل الملياردير سميح ساويرس عن ضخ استثمارات جديدة في ظل تقلب سعر صرف الجنيه. لقد انعكست الأوضاع المذكورة على تزايدت مساحة الاحتجاجات الفئوية للمطالبة بتحسين الرواتب، كما في نماذج عمال شركة كريازي للأجهزة الكهربية وماك للموكيت وموظفي مكتب بي بي سي ووكالة رويترز في القاهرة، وهو ما يتوقع توسعه في ظل تردي الوضع الاقتصادي وضعف الرواتب.
لقد برز مستجد مهم مؤخرًا، وهو دراسة الاتحاد الأوروبي تقديم مبلغ 9 مليار يورو لحكومة السيسي، كذلك أعلنت مديرة صندوق النقد الدولي “أنَّ الصندوق يدرس بجدية زيادة محتملة لبرنامج القروض لمصر البالغ ثلاثة مليارات دولار بحُجة مواجهة الصعوبات الاقتصادية الناجمة عن الحرب على غزة”. وهي إجراءات تمثل مكافأة لنظام السيسي مقابل إحكامه الحصار على قطاع غزة خلال الحرب، وستتيح للنظام تجاوز الأزمة الاقتصادية الحاليَّة لبعض الوقت، لكنها لن تحلها مع تجاوز الدين الخارجي مبلغ 165 مليار دولار.
يراهن النظام المصري على قبضته الأمنية ودعم القوات المسلحة، والضربات المؤثرة التي وجهها للتيارات الإسلامية والشخصيات الفاعلة مجتمعيا منذ عام 2013، مما حرم المجتمع من قلب نابض قادر على تشبيك العلاقات وتحريك الجموع، وهو رهان ناجح حتى الآن، لكنه يضغط على المجتمع إلى أن يوصله إلى مرحلة الانفجار الشامل في ظل غياب أي متنفس للتعبير عن الرأي.
الخاتمة
إنَّ المسرح الدولي مقدم على حروب ونزاعات بين القوى الكبرى، فيما اختارت بعض الدول العربية الانحياز للمحور الأمريكي الإسرائيلي، بينما تعاني دول أخرى انقسامات داخلية وتفتيت بدعم من قوى إقليمية ودولية. أما مصر، فمحاطة بطوق من الأزمات وتتعرض للخنق بواسطة ملفي الديون ومياه النيل، ويواصل النظام سياساته الاستبدادية، والمجتمع يتعرض لعملية سحق متعددة الأبعاد اقتصادية وأخلاقية ودينية واجتماعية. وبالتالي فإنَّ الأزمة التي تمر بها البلاد تتعمق، ويشير اتجاه البوصلة مع بدء السيسي فترة حكم جديدة إلى مزيد من التدهور حال استمرار التوجهات الحاليَّة.
إنَّ تدارك الوضع يتطلب تغييرًا حقيقيًّا في النظام السياسي الذي تسبب في وصول مصر للانسداد الحالي، وهو أمر متكرر في الدول العربية الأخرى التي تعيش أوضاعًا شبيهة. وإنَّ اندلاع موجة ثالثة من الربيع العربي قضية وقت. ومن المهم العمل على تحفيز المشهد وإعداده لذلك، واستيفاء متطلبات النجاح الضرورية والمتعددة التي تندرج ضمن فن الحكم، والاستفادة من دروس موجة الثورات السابقة، والعمل عليها في الوقت الآني، كي لا تضيع الفرصة القادمة كسابقاتها؛ فالحصاد في المستقبل هو نتاج العمل الآن.