أمندراسات

من صدمة 11 سبتمبر إلى مشروع 2025: تحديات مجتمع الاستخبارات الأمريكي ووكالة المخابرات المركزية

في ولايته الثانية يعود ترامب للبيت الأبيض حاملًا معه رؤية تغيير شاملة على المستوى السياسي والإداري، حيث لا يقتصر مشروع الرئيس الأمريكي وفريقه على عكس مسار سياسات ومواقف واشنطن تجاه قضايا السياسة الخارجية والداخلية الكبرى فقط، وإنما تمتد هذه “الإصلاحات” إلى تركيبة وطريقة عمل المؤسسات الفيدرالية، ويظهر ذلك بوضوح في استحداثه لإدارة الكفاءة الحكومية برئاسة رجل الأعمال “إيلون ماسك” في 20 يناير الماضي[1]، وهي إدارة تهدف إلى الحد من الإنفاق الفيدرالي عبر تقليص المؤسسات الحكومية وإعادة هيكلتها وضبط أبواب الإنفاق، وقد تعرضت الإدارة لنقد حاد من الديموقراطيين واليسار بزعم تعارض صلاحيتها -التي تشمل إلغاء المؤسسات ووقف تمويلها أو تجميده- مع حقوق قانونية ودستورية أصيلة.

تبدو الإدارة الجديدة وكأنها في سباق مع الزمن، حيث شرعت منذ أيامها الأولى في إنفاذ رؤيتها بشكل سريع، فأوقف “ماسك” الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) التابعة للخارجية عن العمل بعد تسريح أغلب موظفيها وتجميد مشروعاتها وبرامجها للمساعدات الخارجية، كما تبحث الإدارة الجديدة إلغاء وزارة التعليم، وتقليص عدد موظفي وزارة الدفاع (البنتاغون) وخفض ميزانيته بنسبة 8% في السنوات الخمس المقبلة – وهو ما يعادل نحو 50 مليار دولار سنويًّا، فضلًا عن إلغاء جهات أو إدارات حكومية أخرى مثل مكتب حماية المستهلك. وتتجاوز قرارات ترامب التغييرات المعتادة بين إدارة وأخرى إلى إجراءات تهدف إلى إعادة تشكيل المشهد السياسي على مستوى البنية والأيدلوجيا وهي إجراءات تمتد من تفكيك إدارات ومبادرات حكومية وصولًا إلى إلغاء حق المواطنة بالولادة وإعلان حالة طوارئ على الحدود الجنوبية ورفع التعريفة الجمركية على دول معينة.

في ظل هذه العاصفة، يشغل مجتمع الاستخبارات بوكالاته وأجهزته المختلفة[2] موقعًا مركزيًّا في “إصلاحات” الإدارة الجديدة، حيث يتبنى ترامب وفريقه مقاربة جديدة تهدف إلى إعادة صياغة العلاقة بين البيت الأبيض والأجهزة الاستخبارية. وتستند إدارة ترامب في مقاربتها الجديدة على توصيات برنامج إصلاحي يعرف باسم مشروع 2025 (Project 2025)، وهو عبارة عن خارطة طريق لإعادة هيكلة جذرية للسلطة التنفيذية، أعدته مؤسسة “هيريتيج” المحافظة (Heritage Foundation).

يضم هذا المشروع فصلًا كاملًا معني بإعادة هيكلة أجهزة الاستخبارات وعلى رأسها وكالة المخابرات المركزية CIA، أعده الخبير الجمهوري في شؤون الاستخبارات “داستن كارماك” الذي شغل سابقًا منصب مدير مكتب رئيس الاستخبارات الوطنية DNI في أواخر ولاية ترامب السابقة، كما شارك في كتابة المشروع “جون راتكليف” مدير وكالة المخابرات المركزية الحالي.

مجمع الاستخبارات الأمريكي

معضلات مجتمع الاستخبارات:

في 2004 وعلى وقع ضربات 11\9 عام 2001 أصدر الكونجرس الأمريكي قانون: إصلاح الاستخبارات والوقاية من الإرهاب (IRTPA)، وقد نص القانون على استحداث منصب مدير الاستخبارات الوطنية (DNI)، والمركز الوطني لمكافحة الإرهاب (NCTC) ضمن قرارات أخرى هدفت لضبط الفوضى التي عمت مجتمع الاستخبارات الضخم، وذلك عبر رفع كفاءتها وقدرتها على التنسيق ومشاركة المعلومات والعمل ضمن استراتيجية موحدة.

في 2005 نشر مكتب إدارة الاستخبارات الوطنية (ODNI) وثيقة باسم “الاستراتيجية الاستخبارية الوطنية”، قدم فيها رؤية المؤسسة للتغييرات الإدارية التي يجب أن يخضع لها مجتمع الاستخبارات، وكتب مدير الاستخبارات الوطنية حينها جون نيغروبونتي “إنَّ مهمتنا واضحة وتتلخص في:

  • دمج الأبعاد الخارجية والداخلية للاستخبارات الأمريكية لسد كافة الثغرات في فهم واستيعاب المخاطر والتهديدات المحدقة بأمننا القومي.
  • تعميق وتطوير أساليب وأدوات تحليل المعلومات.
  • ضمان أن تفرز موارد مجتمع الاستخبارات نتائج على المدى المنظور، وترفع من قدراتنا في المستقبل.

إنَّ الاستخبارات الوطنية يجب أن تتسم بالتعاونية، الموضوعية، الدقة، وبعد النظر، كما يجب على وكالات المخابرات المختلفة تَفَهُّم أنَّ الثقافات المؤسساتية التي شكلتها على مدار فترة عملها قابلة للتطوير والتغيير للصالح الوطني، إنَّ الاستخبارات الوطنية يجب أن تواكب تهديدات القرن 21 والتي نادرًا ما تتقاطع مع التهديدات التقليدية التاريخية”[3]

يكشف الاقتباس السابق عن معضلتين أساسيتين واجهتا مجتمع الاستخبارات الأمريكي، الأولى هي البيروقراطية التي تحكم عمل مؤسساته المتضخمة، والثانية: ترامي أطرافه واتساع نطاقه، حيث تمثل المشكلتان عائقًا أمام إنجاز مهام تبادل المعلومات والتحليل والدعم الفني والتقني بالكفاءة والسرعة المطلوبتين، فضلًا عن مواءمة أولويات الأجهزة المختلفة وتوظيف مواردها ضمن استراتيجية كبرى موحدة بقيادة مركزية.

ورغم المساعي الأمريكية الجدية لمعالجة مشكلات مجتمع الاستخبارات فإنَّ التشريع الصادر عن الكونجرس لم يمنح الإدارة المستحدثة الصلاحيات اللازمة لإحداث هذا النوع من التغيير، حيث كان دور مدير الاستخبارات الوطنية وصلاحياته غير محددان بشكل جيد، كما أنَّه لم يتمتع بصلاحيات اتخاذ القرارات بشأن ميزانية وكالات الاستخبارات الأمريكية الأساسية وتعييناتها، على عكس ما أوصت به اللجنة الوطنية التي تولت التحقيق في هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001.

أدت مشكلة غياب الإطار القانوني الدقيق المنظم لعلاقة أجهزة وإدارات الاستخبارات المختلفة إلى تقويض جوهر قانون الإصلاح، ما أسس لبيئة “واقعية” تكون فيها الكلمة العليا للأجهزة صاحبة الموارد الأكبر مثل وكالة المخابرات المركزية (CIA) ووكالة الأمن القومي (NSA) التي تمتلك موارد بشرية مالية، وتقنية ضخمة.

بطبيعة الحال عززت هذه البيئة من موقع وصلاحيات قيادات هذه الأجهزة ومسؤوليها، ما أفرز حالة “لا مؤسسية” في العلاقة بين الأجهزة، إذ اعتمدت كفاءة التنسيق والتعاون بين الأجهزة على توافق قادتها وعلاقتهم ببعضهم بشكل كبير[4]، وهي ذات المعضلة التي استحدث منصب مدير المخابرات الوطنية لحلها، ومع اشتعال حربي العراق وأفغانستان وسعي إدارة بوش للحد من القيود البيروقراطية والقانونية التي قد تعيق جهود الحرب، اكتسبت هذه الأجهزة وقياداتها نفوذ أوسع وتأثير أكبر على البيت الأبيض، وهو ما تنبأت به عدة شخصيات كبيرة في مجتمع الاستخبارات والدفاع بما فيهم مدير وكالة المخابرات المركزية الأسبق “روبرت جيتس”، ما دفعها لرفض تولي المنصب الذي تم اعتباره منصبًا شكليًّا دون صلاحيات حقيقية.

تنطلق مقاربة فريق ترامب لإعادة هيكلة مجتمع الاستخبارات ووكالة المخابرات المركزية من هذه النقطة تحديدًا، حيث يؤكد كارماك في رؤيته المطروحة في مشروع 2025 ضرورة توظيف الأشخاص المناسبين ليس على مستوى المناصب العليا فقط وإنما على مستوى الإدارات الفرعية والمراكز الحيوية، وذلك لوجود قناعة -مبنية على تجربة- بقدرة هذه الجهات على التملص من توجيهات البيت الأبيض وسعيها لإعاقة تنفيذ كل ما لا يتوافق مع اتجاهها، ما يتطلب “زرع” عناصر موالية في مختلف المستويات والمواقع.

تستهدف التغييرات المقترحة وكالة المخابرات المركزية (CIA) على وجه التحديد، كما أنَّها لا تقتصر على إجراء تعيينات داخل الوكالة فقط وإنما على تقليص دورها العام ضمن مجتمع الاستخبارات لصالح جهات أخرى أقرب للبيت الأبيض، حيث ينص مشروع الإصلاحات الذي تتبناه شخصيات رفيعة حتى من خارج البيت الأبيض مثل رئيس لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ “توم كوتون” على ضرورة تعزيز دور مكتب مدير الاستخبارات الوطنية (ODNI)، ليكون أداة الرئيس في توجيه مجتمع الاستخبارات وضبط الأجهزة الكبيرة.[5]

جذور أزمة الثقة: إرث الستينيات وترسبات المكارثية

تمتد مشكلات مجتمع الاستخبارات إلى مساحات أخرى، تأتي على رأسها أزمة الثقة مع المستوى السياسي، وهي مشكلة تاريخية فاقمها ترامب بشكل كبير خلال ولايته الأولى عبر اصطدامه العلني بوكالة المخابرات المركزية ومكتب التحقيقات الفيدرالي وتصريحاته “المتهورة” حول تدخلها في المشهد السياسي المحلي والانتخابات الرئاسية، وقد تراوحت تصريحات ترامب بين اتهامات بتدني كفاءة أجهزة المخابرات إلى تورطها في مؤامرات داخلية باعتبارها جزءًا من الدولة العميقة على حد تعبيره.[6]

مثَّل ترامب حالة فريدة في التعاطي الإعلامي مع أجهزة مجتمع الاستخبارات، لكنه عبَّر عن مشكلة كامنة في تاريخ العلاقات بين البيت الأبيض وبيئة الاستخبارات، فالصلاحيات والسرية التي تتمتع بها الأجهزة الرئيسية تمنحها قدرًا كبيرًا من الاستقلالية عن البيت الأبيض في صنع السياسات وتحديد أولويات الأمن القومي، ما يجعل التعامل معها عملية محفوفة بالتعقيدات، وقد شهد التاريخ السياسي الحديث للولايات المتحدة فترات توتر عديدة بين الرئاسة ووكالة المخابرات المركزية بدءًا من جون كينيدي ووصولًا إلى ترامب.

تمتد جذور الأزمة حتى ستينيات القرن الماضي، الذي شهد أحداثًا وتحولات جسيمة في التاريخ السياسي الأمريكي، من بينها اغتيال الرئيس جون كينيدي عام 1963، وتوقيع الرئيس ليندون جونسون قانون الحقوق المدنية (حقوق السود) عام 1964. وبشكل عام، اتسمت الفترة الممتدة من 1963 إلى 1974 بمحطات مفصلية أسست للواقع الأمريكي الراهن.

كانت تلك الحقبة أحد أكثر الفترات توترًا بفعل تنامي مخاوف النخب السياسية والأمنية من تبعات انتشار الأيديولوجيا الشيوعية وتزايد الحراك المناهض لحرب فيتنام وتصاعد احتجاجات حركات الحقوق المدنية، وهي قضايا لعبت فيها أجهزة المخابرات أدوارًا “سلبية”، ففي خضم هذه الأجواء أطلقت وكالة المخابرات المركزية ما عرف “بعملية الفوضى” (Operation CHAOS) بهدف مراقبة ومكافحة الدعاية الشيوعية وحركات الاحتجاج الداخلية.

تحت مظلة العملية، انتهكت وكالات المخابرات العديد من الحقوق الأصيلة في الدستور والقانون الأمريكي، مستمدة شرعيتها وثقافتها من إرث المكارثية[7]، ما أدى إلى غضب عام وتحقيقات رسمية أدت لإنشاء لجان دائمة للرقابة على الاستخبارات وسن قانون مراقبة الاستخبارات الأجنبية لعام 1978.[8]

مثلت عملية الفوضى ذروة العمل الاستخباري الداخلي؛ حيث وسعت وكالة المخابرات المركزية برنامج المراقبة الخاص بها إلى داخل الأراضي الأمريكية، ليشمل عشرات الآلاف من المواطنين، بما في ذلك الصحفيين والطلاب ومجموعات الحقوق المدنية، مخالفة بذلك قانون الأمن القومي لعام 1947 الذي يحصر عمل الوكالة في العمليات الخارجية ويمنعها من ممارسة مهام تجسسية داخلية، ورغم أنَّ مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) كان الجهة الأساسية في عمليات التجسس الداخلية فإنَّ الوكالة قدمت له دعمًا كبيرًا عبر برامجها وإمكاناتها.

مع انتهاء حرب فيتنام وتراجع المد الشيوعي وانتصار حركة الحقوق المدنية، خفت حدة التوتر في الأجواء الداخلية، وخف احتكاك وكالة المخابرات المركزية بالسياسة المحلية على ضوء الإصلاحات القانونية عبر الكونجرس[9]، لكن التجربة السلبية خلال الستينيات والسبعينيات خلفت انطباعات سلبية عميقة لدى كل من الناخب الأمريكي والنخبة السياسية.

لقد أدت الإخفاقات والتغيرات الكبرى على مدار السنوات إلى تراجع مصداقية الوكالة والثقة في مهنيتها على المستوى الشعبي والسياسي، ومع التحولات في البيئة الدولية وطبيعة التهديدات والأولويات الأمريكية، ظهرت على السطح نقاشات وشكوك جدية حول قدرتها على أداء مهامها المركزية (كشف التهديدات، التحليل الاستخباري، إصدار التقييمات الاستراتيجية، الإنذار المبكر والحماية)، وهو ما تؤكده دراسة أجراها مشروع الدراسات الاستخبارية في جامعة أوستن-تكساس بالتعاون مع مجلس شيكاغو للعلاقات الدولية؛ حيث تظهر الدراسة تراجع نسبة الأمريكيين المؤمنين بقدرة أجهزة مجتمع الاستخبارات على أداء مهمتها بحماية الدولة والشعب الأمريكي من 66% في 2019 إلى 56% في 2021 كما بات يعتقد بشكل جازم ما يقدر بـ 17% من الأمريكيين أنَّ هذه الأجهزة تمثل تهديدًا على حريتهم[10].

اليوم يزداد تعقيد أزمة الثقة بفعل التحولات الفكرية التي مر بها المشهد السياسي الأمريكي، فمع تزايد حدة الاستقطاب السياسي الداخلي في الولايات المتحدة، وميل الثقافة السياسية نحو اليسار خلال العقدين الماضيين، ازداد شعور قطاع واسع من المحافظين واليمين السياسي بأنَّ وكالة المخابرات المركزية –أسوة بعدد من المؤسسات الفيدرالية– تتبنى تصورات التيار التقدمي أو اليساري، وتنحاز لقراءته السياسية، خصوصًا مع تزايد عدد المبادرات والبرامج الداخلية الحديثة التي تروج لمفاهيم “الصوابية السياسية” وتسعى لبناء الكادر الوظيفي على أساس مفاهيم المساواة والتعددية. وقد أدت هذه السياسات إلى تشكيل تيار عريض يرى أنَّ مؤسسة بحجم وكالة المخابرات المركزية أصبحت رهينة لأيدولوجيا يسارية تقدمية، ما جعلها أشبه بطرف سياسي، وقد تجاوزت هذه الانطباعات قواعد اليمين الشعبية إلى قطاعات شعبية أوسع عبر الشارع الأمريكي، حيث يشير استطلاع أجراه مركز الدراسات السياسية الأمريكية في جامعة هارفارد سنة 2023 إلى اعتقاد 70% من المشاركين أنَّهم “قلقون” بدرجات متفاوتة من احتمال تدخل وكالات الأمن والمخابرات في الانتخابات القادمة.[11]

11 سبتمبر: كثير من العنف قليل من التحليل!

انطلقت الألفية الجديدة بأحداث سبتمبر التي بلغت هزاتها بنية وهيكلة وكالات وأجهزة المخابرات والأمن في الولايات المتحدة واستراتيجياتها، وعلى رأسها وكالة المخابرات المركزية (CIA)، حيث اتجهت إدارة بوش إلى تفعيل الوكالة كجهاز تنفيذي تدور مهامه بشكل أساسي على تنفيذ استراتيجية مكافحة الإرهاب على المستوى العملياتي.

أصبح مركز مكافحة الإرهاب (CTC) قلب وكالة المخابرات المركزية النابض، ومع اتساع نطاق الحرب على الإرهاب جغرافيًّا وعملياتيًّا، تحولت هذه المهمة إلى مركز تفكير وجهود الوكالة إلى حد أعادت فيه تشكيل نفسها وهويتها حولها، ويشبه ضباط الـ CIA التغييرات التي طرأت على هيكل الوكالة ومهمتها بأنَّها أشبه بتغيير تصميم وتركيب طائرة أثناء تحليقها في الجو[12].

مع اقتراب نهاية إدارة بوش اتجهت الإدارة إلى تعزيز صلاحيات الوكالة وتوسيع نطاق أعمالها العسكرية، فتبنت في اكتوبر 2008 نهجًا جديدًا في الاستهداف المباشر بالطائرات دون طيار عُرف باسم “الضربات التوقيعية Signature Strikes“، وهو نهج يعتمد على “أنماط المعيشة” في تحديد أهداف الاغتيال عوضًا عن المعلومات الاستخبارية الدقيقة، حيث يدخل الذكور البالغين (سن الخدمة العسكرية) ضمن دائرة الاستهداف أو الاغتيال بمجرد رصدهم ضمن تجمعات بشرية في مناطق معينة، أو إذا كان لديهم اتصالات مع أشخاص يشتبه في كونهم إرهابيين أو متشددين.

وفي عهد أوباما اتسعت صلاحيات اتخاذ القرار والعمل العسكري فلم تكن عمليات الاغتيال ضمن برنامج “الضربات التوقيعية” تتطلب أكثر من موافقة نائب رئيس وكالة المخابرات المركزية[13]، ووسع أوباما في أكتوبر 2009، ما يعرف ب “مربعات الاستهداف” في باكستان، أي النطاق الجغرافي الذي يسمح لوكالة الاستخبارات المركزية بملاحقة أهدافها فيه، كما منح الوكالة تفويضًا لشراء مزيد من الطائرات المسيرة وزيادة الموارد المخصصة لقواتها شبه العسكرية.

من عمليات القتل والاختطاف وإدارة المعتقلات السرية وبرامج التعذيب إلى القصف باستخدام الطائرات المسيّرة، تطور دور وكالة المخابرات المركزية العملياتي و”العسكري”، وتوسعت صلاحياتها وترسانتها الحربية وحجم وحداتها “شبه العسكرية”، وقد انعكس هذا التحول على هوية الوكالة ونمط عملها.

يؤكد مدير قسم الموارد الوطنية في الوكالة هنري كرامبتون وقائد إدارة العمليات السرية للإطاحة بطالبان في 2001، أنَّ التغييرات التي أجرتها إدارة بوش غيرت أولويات الوكالة واتجاه تفكيرها كليًّا وقد جاء ذلك على حساب كفاءة الوكالة في ملفات حيوية أخرى، يقول كرامبتون “كان يجب تقويض النظام القائم، لقد دخل أحد رؤساء الأقسام إلى مكتبي وكان يصرخ: هذه التغييرات والانتقالات أضرت العمليات في أوروبا!”[14]

لقد كان الهدف من هذه التغييرات تحقيق أكبر قدر من الفاعلية القتالية في “الحرب على الإرهاب”، إلا أنَّها جلبت معها إشكالات من نوع آخر، حيث أدت إلى حرف البوصلة المهنية للوكالة وضمور قدرات التحليل الاستخباري وتراجع التقديرات الاستراتيجية، والقدرة على متابعة القضايا والتهديدات الدولية وتقييمها بشكل دقيق[15].

لقد أحدثت هجمات 11 سبتمبر تشوهات كبيرة في وكالة المخابرات المركزية، ليس آخرها الارتباك الاستراتيجي وتدهور القدرات التحليلية في مجالات حيوية، والتسييس الذي ظهر في أوضح صوره في تورطها في كذبة أسلحة الدمار الشامل[16]، بالإضافة إلى معضلة تهلهل البنى التنظيمية والأطر القانونية، والبيروقراطية القاتلة، حيث وضعت كل هذه الإشكالات كبرى مؤسسات مجتمع الاستخبارات أمام تحديات بنيوية كبرى أثرت في كفاءتها وأدوارها الاستراتيجية فضلًا عن علاقتها بالمستوى السياسي.

على صعيد آخر، انعكس تضخم دور الوكالة في الخارج على وزنها داخليًّا، فقد أدت سياسات “الشيك المفتوح” التي أرساها بوش ورسخها أوباما[17] إلى نشوء ديناميكيات جديدة في المشهد المؤسساتي والسياسي الأمريكي، حيث تداخلت مهام وصلاحيات المؤسسات بشكل كبير، ما أربك عملية صنع واتخاذ القرار وأثار مخاوف وتساؤلات داخل المؤسسة السياسية (الكونجرس، البيت الأبيض) حول انعكاسات تضخم دور الوكالة على السياسة الخارجية وعلاقتها بالإدارة الأمريكية.

يضاف إلى مشكلات الوكالة طبقة أخرى من التعقيد، فقد أدى الانخراط المكثف في “الحرب على الإرهاب” لنحو 15 عامًا إلى تأطير عقلها إلى حد كبير وإضعاف قدراتها في مساحات أخرى[18]، أهمها مواجهة التهديد الصيني وفضاء الاستخبارات الاقتصادية والتقنية، وهو ما أثار قلق النخب الأمنية والسياسية بكل أطيافها، وخلق شعور بالحاجة إلى ضرورة إعادة ضبط بوصلة المؤسسة الاستخبارية.

الانحراف التاريخي ومساعي الترميم

مع وجود تباين كبير في الموقف والتقييم العام بين نخب اليمين واليسار، إلا أنَّها تتشارك في بعض التقييمات المتعلقة بكفاءة وكالة المخابرات المركزية وأوجه القصور التي يجب معالجتها، وعلى رأسها قضية تراجع التقديرات الاستراتيجية، وضرورة استعادة ثقة الجمهور الأمريكي وترميم العلاقة مع المستوى السياسي. ومع التفات إدارة أوباما للتهديد الصيني وعودة التنظير لصراع القوى الكبرى، أطلق المدير الأسبق للوكالة “جون برينان” برنامجًا إصلاحيًّا لتصحيح ما وصفه برينان بـ “انحراف تاريخي”[19].

استهدفت إصلاحات برينان إعادة تفعيل دور الوكالة التحليلي على مستوى استراتيجي إذ طور ما عرف بـ “المراكز التكاملية Integrated Centers” أو “مراكز المهام Mission Centers” وهي عبارة عن وحدات مشتركة تجمع بين خبراء من إدارة التحليل (DA)، وضباط من إدارة العمليات (DO)، بالإضافة إلى متخصصين من إدارة العلوم والتكنولوجيا (DST) والابتكار الرقمي (DDI)، وذلك بهدف التركيز على منطقة جغرافية أو موضوع محدد، لتعزيز بُعد التحليل الاستراتيجي، وقدرات التحليل الاقتصادي والتكنولوجي ضمن أولويات الوكالة الجديدة وعلى رأسها التهديد الصيني.

تمكن برينان عبر ولايته التي استمرت لأربع سنوات 2013-2017 من معالجة جزء من المشكلة، وهو مسار أكمله خليفته الثالث “ويليام بيرنز” الذي استحدث مركز مهمة الصين (CMC) في أكتوبر 2021 بهدف تطوير تقديرات التحليل الاستخباري والاستخبارات الاقتصادية المتعلقة ببكين. كما عزز بيرنز خلال ولايته مكانة التحليل الاستراتيجي على حساب العمل السري والميداني، وقد ضاعف بيرنز الميزانية المخصصة للوحدات والبرامج الصينية في الوكالة لتبلغ حوالي 20 %من إجمالي ميزانية الوكالة.[20]

ضمن عملية إعادة الهيكلة، عمل كل من برينان وبيرنز على الحد من الجانب العملياتي للوكالة عبر تقليص البرامج والأقسام النشطة في هذا الجانب، فمثلًا ألغي ما يعرف بجهاز الخدمة السرية (NCS) وهو الجهة المسؤولة عن إدارة أسطول الطائرات دون طيار، ودُمِجَ تحت إدارة العمليات التي أصبحت خاملة بشكل كبير[21]. على صعيد آخر اتجهت الوكالة تحت إدارة بيرنز نحو مزيد من الانفتاح على الجمهور الأمريكي لاستعادة ثقته عبر تبني استراتيجية رفع السرية، حيث أتاحت الوصول للعديد من الوثائق والتقديرات الاستخبارية الصادرة عن الأقسام المختلفة للوكالة، كما رفعت وتيرة تبادل المعلومات مع شركاء واشنطن وحلفائها الدوليين.

مشروع 2025: عودة لنقطة الصفر

مقابل نقاط التوافق في التقييم التي أشرنا إليها، فإنَّ دائرة ترامب الأولى تتبنى موقفًا يتسم بريبة شديدة تجاه CIA، ويطرح “مشروع 2025” الذي تتبناه الإدارة الجديدة رؤية مختلفة بشكل جذري عن تلك التي عمل عليها برينان وبيرنز طيلة مدة ولايتهما (ثمان سنوات)، حيث تشير أوراق مؤسسة “هيريتيج” إلى ضرورة تعزيز دور العمليات السرية وتحويل الوكالة لأداة تنفيذية في يد الرئيس وتقليص دورها التحليلي وتفعيل أجهزة أخرى على رأسها إدارة الاستخبارات الوطنية (DNI).

من ضمن الإجراءات المقترحة لإنفاذ الرؤية السابقة: نقل تبعية مشروع المصادر المفتوحة (OSE) التابع لإدارة الابتكار الرقمي بوكالة المخابرات المركزية إلى إدارة الاستخبارات الوطنية، ويستهدف هذا المقترح ضرب عصفورين بحجر واحد، الأول: تعزيز هيمنة إدارة الاستخبارات الوطنية على قواعد البيانات ما يعزز قدراتها التحليلية، الثاني: الحد من تفوق وكالة المخابرات المركزية في هذا المجال ودفعها باتجاه فاعلية عملياتية أكبر.

 وقد أكد ترامب عدة مرات عدم رضاه عن توجه CIA إلى بناء قاعدة تحليلية عميقة، وانتقد تحفظها في مجال العمليات السرية، أما رئيس الوكالة الجديد “جون راتكليف” فقد تحدث عن ضرورة التركيز على تفعيل الاستخبارات البشرية (HUMINT) والعمليات السرية (covert action)، وهي تصريحات تتسق مع ما ورد في أوراق “مشروع أمريكا 2025” التي تستهدف تقليل اعتماد البيت الأبيض على الوكالة في قراءة القضايا الدولية وفهمها.

تبحث إدارة ترامب عن تحقيق أعلى قدر من المركزية في صنع واتخاذ القرار، ما يتطلب حسب “مشروع 2025” تعزيز صلاحيات ودور مدير الاستخبارات الوطنية (المستشار الأمني الأقرب للرئيس)، وتحجيم منصب مدير وكالة المخابرات المركزية، والأقسام المركزية داخل الوكالة مثل المجلس الوطني للاستخبارات (NIC)، وهو الجهاز التحليلي المسؤول عن صياغة تقرير الاتجاهات العالمية، الذي يصدر كل أربع سنوات بالإضافة إلى إعداد تقييم التهديدات السنوي (ATA)، والأهم تقديرات الاستخبارات الوطنية (NIEs)، وهو تقرير شامل يلخص وجهات النظر المختلفة لأجهزة مجتمع الاستخبارات حول القضايا العالمية.

أطلقت الإدارة الجديدة منذ أيامها الأولى في البيت الأبيض عملية هي أقرب لحملات التطهير، لإزاحة كل من له علاقة أو ارتباط بالحزب الديموقراطي واتجاه اليسار التقدمي، ومن أبرز الأمثلة على التغييرات داخل وكالة المخابرات المركزية تعيين “دونالد هولستيد” على رأس المركز الوطني لمكافحة الإرهاب (NCTC)، وتعيين “مارك فراونفيلتر” لقيادة المركز الوطني للأمن ومكافحة التجسس (NCSC)، كما تعمل الإدارة على إعادة تشكيل المجلس الوطني للاستخبارات لرفع عدد مقاعد خبراء المجلس –بمن فيهم رئيسه– من أجهزة ووكالات غير CIA ليكونوا أغلبية داخل المجلس، وذلك للحد من هيمنة الوكالة على صياغة التقرير اليومي للرئيس والتقارير الدورية الأخرى التي يتولى المجلس إنتاجها، والتي تؤثر في الرئيس وصناع القرار في البيت الأبيض.

يرى فريق ترامب أنَّ تحجيم دور وكالة المخابرات المركزية السياسي ضروري لإحكام السيطرة على مجتمع الاستخبارات؛ حيث لا تكفي الإجراءات الإدارية أو الإقالات لمديري الأقسام والإدارات لأنَّ مركزية الوكالة في الأوساط الاستخبارية والأمنية تعطيها نفوذًا كبيرًا يمتد لأجهزة ووكالات أخرى ضمن مجتمع الاستخبارات، مما يمنحها قدرة كبيرة تتمثل في التأثير على عملية صنع القرار، فمثلًا رغم أنَّ المجلس الوطني للاستخبارات يتبع إداريًّا لمدير الاستخبارات الوطنية بموجب إصلاحات 2004، فإنَّه يقع تحت تأثير وكالة CIA التي تملك فيه العدد الأكبر من الممثلين، كما يوجد المجلس بمقرها في لانغلي ويعمل مع أقسامها وإداراتها بشكل مقرب، ما يجعله جزءًا منها بحكم الأمر الواقع.

تستند المقاربة السابقة إلى قناعة يطرحها مشروع 2025 بأنَّ وكالة المخابرات المركزية اكتسبت خلال الإدارات السابقة صبغة سياسية، ما جعلها تعمل وفق قراءات سياسية مستقلة، أما نقل صلاحياتها إلى إدارة الاستخبارات الوطنية فهو وسيلة لاحتواء ثقافة تمر راسخة في الوكالة، حيث يرى رواد المشروع أنَّه كثيرًا ما يتم تعطيل تنفيذ توجيهات الرئيس بحجج بيروقراطية وفنية مختلفة تخفي خلفها معارضة سياسية.

أفول الاستراتيجية

يكشف السرد السابق عن حجم وتنوع التعقيدات التي تحيط بطبيعة عمل وكالة المخابرات المركزية، وكيف يؤثر ذلك في أنماط عملها وديناميكيات السياسة الداخلية، كما يكشف عن دور التحديات والتهديدات الأمنية الخارجية التي واجهتها وتواجهها في تشكيل تفكيرها وعلاقتها ببيئتها ومحيطها السياسي.

على صعيد آخر، فإنَّ تتبع خيوط الخلاف بين وكالة المخابرات المركزية والبيت الأبيض، وسياسات الأخير منذ انطلاق الألفية الثانية، يكشف بوضوح عن ضيق أفق هذه التجاذبات وغياب الحس الاستراتيجي عنها، ويشير وزير الدفاع ومدير وكالة المخابرات المركزية الأسبق روبرت جيتس إلى قضية تراجع الحس والتفكير الاستراتيجي في مذكراته “الواجب” بقوله:

“لقد أصبحت واشنطن مهووسة بالمناورات السياسية قصيرة الأجل إلى الحد الذي جعلنا نفقد القدرة على صياغة استراتيجيات متماسكة على المدى البعيد. وفي كثير من الأحيان، تطغى الأمور العاجلة على الأمور المهمة، وبهذا فقدنا قدرتنا على التفكير الاستراتيجي في خضم الضجيج”.

يتحدث جيتس من واقع خبرة وتجربة شاملة تمتد عبر فترات زمنية متنوعة، حيث شغل منصب نائب مدير الاستخبارات المركزية خلال حقبة الحرب الباردة في الثمانينيات ثم تولى منصب مدير وكالة الاستخبارات المركزية خلال (1991-1993)، قبل أن يعود في 2006 لتولي منصب وزير الدفاع

إنَّ متابعة ديناميكيات السياسة الداخلية الأمريكية ونقد شخصيات برصيد خبرة متميز، يؤكد أنَّ الاستنتاج السابق هو أكثر من رأي يعبر عن جربة فردية، وإنما يمثل تعبيرًا عن حالة حقيقية تهيمن على المشهد الأمريكي، فقد خضعت السياسة الخارجية والسياسات الأمنية طويلًا للحسابات قصيرة المدى وملاحقة الانتصارات القريبة والإعلامية أكثر من خضوعها للحسابات الكبرى والرؤى الاستراتيجية.

ورغم أنَّ الحالة السابقة لم يفرزها حدث معين، وإنما جاءت نتيجة تراكم وتتابع التحديات والتعقيدات الأمنية والسياسية -مع توقف العقل الاستراتيجي في واشنطن عند مرحلة الحرب الباردة- فإنَّ هجمات 11 سبتمبر كانت عنصرًا أساسيًّا في هذا التراجع، حيث أسست لواقع استنزاف حال دون بناء واشنطن لنظرية استراتيجية لما بعد الحرب الباردة.

لقد أخلت تلك الهجمات باتزان الولايات المتحدة، فقد نُفذت في ذروة الهيمنة الأمريكية التي جسدت نظرية القطب الواحد على مستويات عدة (سياسية، ثقافية، أمنية، اقتصادية، وتقنية) إذ لم يكن متصورًا أن تُضرب هذه القوة في معقلها وبهذه الصورة الصادمة، ويمكن القول إنَّ صدمة الضربات أفقدت الولايات المتحدة الإحساس بذاتها والقدرة على التفكير على مستوى استراتيجي والتنبؤ بنتائج انخراطها المكثف في الحرب على الإرهاب على المدى البعيد.

من زاوية أخرى، كان الفارق الضخم في القوة عاملًا آخر في تشكيل العقل السياسي الأمريكي ورسم السياسة الخارجية المعاصرة، فعلى عكس حالة المواجهة مع الاتحاد السوفييتي في حقبة الحرب الباردة كانت طبيعة المواجهة في حقبة القطب الواحد ومع خصم غير تقليدي مغري لصانع القرار الأمريكي بالاعتماد على القوة المفرطة كأداة كافية للحصول على النتائج المطلوبة. لقد أدى الانشغال بفكرة رد الاعتبار وترميم الصورة عبر استئصال هذا التهديد وضربه بلا هوادة إلى تخدر الحس والتخطيط الاستراتيجي وفقدان الاتصال بالمشهد الجيوسياسي الكلي.

ويؤكد المؤرخ والمفكر الأمريكي هال براندز هذا التشخيص، حيث يشير في كتابه “صناعة لحظة القطب الواحد: السياسة الخارجية الأمريكية وصعود نظام ما بعد الحرب الباردة” قائلًا:

“لقد نجحت الولايات المتحدة في بناء هيمنتها بعد الحرب الباردة بجهد كبير من خلال المبادرات الدبلوماسية والقوة العسكرية والتفوق الاقتصادي. ولكن إذا اعتقد صناع السياسات أنَّ هذه الهيمنة مستمرة ذاتيًّا، ولا تتطلب سوى القليل من المعايرة أو التجديد، فإنَّها سوف تتلاشى. إنَّ غياب الوعي بالذات والحس الاستراتيجي اليوم هو شكل من أشكال الانحدار”

اليوم، تنطلق مبادرة فريق ترامب للإصلاحات من قراءة داخلية تضع المعارك الأيدلوجية والحزبية، والعلاقة بين البيت الأبيض والوكالة كركيزة أساسية في خُطة التغيير، ما انعكس سلبًا على الجانب الاستراتيجي لهذه الرؤية.

بطبيعة الحال فإنَّ بناء الاستراتيجيات يتطلب تناغمًا داخل النظام، وتوحيد مراكز صناعة القرار تحت قيادة واحدة، ما يقتضي إجراء تعديلات على الهيكلة والسياسات، لكن المشكلة المتلبسة بطرح إدارة ترامب أنَّها تفتقر للإطار الاستراتيجي الناظم لهذه الإجراءات، فهي -فيما يبدو- تقتصر على محاولة إخضاع الوكالة وتحويلها لزناد، وبالتالي فإنَّ “الإصلاحات” لم تأتِ ضمن رؤية استراتيجية جامعة تستهدف تحقيق منجزات أو سد فجوات كبرى في قضايا الأمن القومي والجيوبوليتيك.

من بين كل الأسئلة السابقة التي تواجه مجتمع الاستخبارات على المستوى الاستراتيجي والمهني، لم يقدم مشروع 2025 إجابة سوى عن إشكالات محدودة تتعلق بالعلاقة مع البيت الأبيض بشكل أساسي، وهو ربما تعبير واضح عن موقع أجهزة الاستخبارات في رؤية الإدارة الجديدة التي تملك إجابات مسبقة للتحديات الجيوسياسية والأمنية ولا تود الاستماع لوجهات نظر أخرى.

لقد كانت مقاربة إدارة بوش شبيهة كثيرًا -من جهة منهجية التعاطي- بمقاربة إدارة ترامب الحالية، فقد حملت هي الأخرى استنتاجات مسبقة سعت لتعزيزها والعمل وفقها بعيدًا عن صحتها من خطأها أو دراسة تداعياتها، وكان المثال الأبرز على ذلك فضيحة كذبة أسلحة الدمار الشامل حيث ضغطت إدارة بوش على وكالة المخابرات المركزية لإصدار تقارير تدعم هذا الادعاء.

في ظل هذا التشابه بين الإدارتين فليس مستبعدًا أن تنزلق إدارة ترامب إلى أزمات مشابهة لتلك التي تورطت فيها إدارة بوش الابن، والتي قادت وكالة المخابرات المركزية إلى مشكلات مزمنة مثل تآكل المصداقية وتراجع قدرات التحليل والتفكير الاستراتيجي، وتدني معدلات الثقة، دون أن تقدم نتائج على المستوى الاستراتيجي.

يتسم سلوك إدارة ترامب العام بالتعسف، وهو سلوك ناتج عن رغبة في إحداث تغيير كبير وشامل في المشهد السياسي الأمريكي في فترة قصيرة، دون مراعاة لتأثير التغيرات السريعة والعنيفة في أكثر من مستوى على استقرار البيئة الداخلية والخارجية على حد سواء، ما ينذر بفترة مضطربة ليس على مستوى السياسات الخارجية فقط وإنما على صعيد استقرار الإدارة ومؤسساتها.

تمثل رؤية مشروع 2025 لمجتمع الاستخبارات امتدادًا للسلوك العام الموصوف سابقًا، وهي تحمل داخلها عدائية كبيرة تجاه المؤسسات الفيدرالية، حيث لا تراها كأدوات حكم وإنما كطرف سياسي يجب إخضاعه، وهي رؤية تحمل قدر من الصحة في ظل هيمنة ثقافة اليسار على المشهد السياسي والبيروقراطي، لكن في المقابل قد تحرم هذه المقاربة المتمركزة حول قضايا الداخل الأمريكي والصراعات الحزبية إدارة ترامب من الاستفادة من الخبرة التراكمية والكفاءات بهذه المؤسسات، ما قد يعيق بشكل كبير القدرة على التفكير والتخطيط الاستراتيجي ويؤثر سلبا في كفاءة واشنطن في إدارة ملفات السياسة الخارجية وقدرتها على استيعاب التهديدات والتعامل معها وفق منطق استراتيجي.


[1]  أنفق إيلون ماسك ما يقارب 260 مليون دولار عبر لجنة عمل سياسي (America PAC) للترويج لدونالد ترامب في ولايات حاسمة مثل بنسلفانيا.

[2] يتألف مجتمع الاستخبارات الأمريكي من 18 وكالة ووزارة ومكتب، تضم وزارة الدفاع أكبر عدد من وكالات الاستخبارات (تسع)، تليها وزارة الأمن الداخلي (اثنتين) ووزارة العدل (اثنتين). ثم وزارة الخزانة ووزارتا الطاقة والخارجية، ولكل منها وكالة استخبارات واحدة. وأخيرًا، مكتب مدير الاستخبارات الوطنية ووكالة المخابرات المركزية، وهي وكالات مستقلة.

[3]  The national intelligence strategy of the United States of America (transformation through integration and innovation)

[4] يروي مايكل ماكونيل مدير وكالة الأمن القومي ومدير الاستخبارات الوطنية الأسبق أنَّه اتصل بروبرت جيتس وزير الدفاع آنذاك قبل قبوله تولي المنصب ليتأكد أنَّه سيكون متعاونًا، ويضيف أنَّ العمل لم يكن ليسير لولا معرفة قادة الأجهزة ببعضهم وعلاقاتهم السابقة وذلك لغياب الإطار القانوني المنظم لهذه العلاقات بشكل دقيق، حيث لا يمكن لمدير الاستخبارات الوطنية أن يمارس عمله بفاعلية دون أن يكون هناك توافق (وعلاقة شخصية جيدة) مع شاغلي مناصب كبيرة مثل وزير الدفاع ومدير وكالة المخابرات المركزية. (Dir. Of National Intelligence Roundtable, Feb 7th 2025)

[5] Mandate for leadership: the conservative promise (Project 2025), Heritage foundation, 2023

[6] Trump has promised to overhaul U.S. intelligence, PBS, Nov 2024

[7] برزت المكارثية (McCarthyism) في خمسينيات القرن الماضي، وهي اتجاه سياسي معادي للشيوعية ركز على ملاحقة “المتعاطفين مع الشيوعية” في أروقة الحكومة الفيدرالية والجيش واشتهرت بجلسات التحقيق مع المسؤولين، وقد ألحقت ضررًا كبيرًا بتماسك منظومة الحقوق والحريات حيث تعرض كثير من الأشخاص للعزل الوظيفي والمقاطعة الاجتماعية دون أسس قانونية ورغم عدم وجود أدلة على التهم المنسوبة إليهم.

[8] Foreign Intelligence Surveillance Act (FISA) of 1978

[9] Church Committee and Pike Committee (1975–1976)

[10]   U.S. Intelligence Is Facing a Crisis of Legitimacy, Foreign policy, May 2024

[11] Efforts to improve diversity and equality in intelligence community not paying off, Intelligence Online, Nov 2023

[12] Black site, The CIA in the post 9\11 world, Philip Mudd, 2019

[13] Dirty Wars: the world is a battlefield, Jeremy Scahill, Page 181

[14] Black site, The CIA in the post 9\11 world, Philip Mudd, 2019

[15] أصدر المجلس الاستشاري الاستخباراتي (PIAB) للرئيس الأمريكي، باراك أوباما، تقريرًا سريًّا في أواخر 2012 يؤكد أنَّ تركيز وكالة الاستخبارات المركزية وغيرها من الوكالات الاستخبارية قد “تشوه” بسبب تهديد تنظيم القاعدة، إنتيلجنس أونلاين، مارس 2013

[16] أصدر المجلس الوطني للاستخبارات (NIC) التابع لوكالة المخابرات المركزية في 2002 تقريرًا بوجود أسلحة دمار شامل في العراق.

[17] شهدت ولاية أوباما أكبر حملة اغتيالات بالطائرات دون طيار، وقد أذن خلال السنة الأولى بعدد ضربات أكبر من الضربات التي شنها بوش خلال 8 سنوات.

[18] أصدر المجلس الاستشاري الاستخباراتي (PIAB) للرئيس الأمريكي، باراك أوباما، تقريرًا سريًّا في أواخر 2012 يؤكد أنَّ تركيز وكالة الاستخبارات المركزية وغيرها من الوكالات الاستخبارية قد تشوه بسبب تهديد تنظيم القاعدة، إنتيلجنس أونلاين، مارس 2013

[19] جلسة استماع لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ، 7 فبراير 2013

[20] Four years at Langley, part 2: William Burns and the CIA’s adaptation to strategic competition, Intelligence Online, Jan 2025

[21] CIA’s Directorate of Operations feels left out, Intelligence Online, Jan 2023

يوسف لطفي

كاتب ومحلل سياسي متخصص في الشأن الأفريقي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى