منذ تدخلها لدعم حليفها بشار الأسد في مواجهة المعارضة المسلحة، واستغلالها لضعف النظام السوري أمام زخم الثورة لتأسيس أول حضور عسكري استراتيجي خارج مجال نفوذها التاريخي منذ أكثر من 30 عامًا تقريبًا، انتهجت روسيا مقاربة “انتهازية” للشؤون الخارجية، أسست فيها القيادة الروسية لمبدأ الترصد واستغلال المتغيرات الجيوسياسية لا صناعتها، ووظفت فيها مجموعة واسعة من الأدوات والأساليب الدبلوماسية والعسكرية والاستخباراتية والسيبرانية والتجارية، لإعادة فرض إرادة موسكو على الساحة الدولية وتوسيع آفاق مصالحها ومساحات الاشتباك مع الغرب.
في مارس 2023 أعلنت موسكو مفهومها الاستراتيجي للسياسة الخارجية، الذي أكدت فيه سعيها “لخلق ظروف خارجية تعزز مكانة روسيا كمركز مؤثر في العالم الحديث”، كما أكدت الرؤية الروسية على مبدأ مشتق من العقيدة العسكرية للجيش لعام 2010 “الدفاع عن روسيا خارج أراضيها”، وهي مبادئ تفصح عن اندفاع ملحوظ نحو الخارج وعن نزعة “هجومية” تهدف لمنح موسكو موقفًا متقدمًا للدفاع عن مصالحها وأطماعها في بيئة دولية تصفها قيادتها “بالمعادية”.
تكشف تحركات موسكو خلال العقد الأخير، عن سعي القيادة الروسية لأخذ زمام المبادرة والفعل في مجالها الحيوي، وفتح مساحات تأثير جديدة وراء البحار. فعلى مستوى الإجراءات الأمنية والعسكرية اتخذت القيادة الروسية مجموعة من القرارات الحاسمة، بدءًا من اقتطاع شبه جزيرة القرم مرورًا بالتدخل في سوريا وصولًا إلى غزو أوكرانيا، وأخيرًا نشر ما بات يُعرف “بالفيلق الروسي” في عدد من دول إفريقيا، أما على الصعيد السياسي فقد تبنت موسكو مقاربة “مطورة” تجاه محيط واشنطن السياسي والجغرافي، تضمنت “التسلل من الشقوق” في العلاقات، فأسست لروابط وتعاون أعمق مع حلفائها الأقوى في الخليج: الرياض وأبوظبي، فضلًا عن سعيها للتقارب مع القاهرة عبر مشاريع الطاقة، ومحطات الطاقة النووية، كما عملت على تعزيز حضورها في النصف الغربي للكرة الأرضية عبر توظيف روابطها وعلاقاتها التاريخية مع عدد من دول أمريكا اللاتينية واستغلال التوتر في علاقات بعض هذه الدول مع واشنطن.
الرشاقة في خدمة الاستراتيجية
لإنفاذ مفاهيم سياستها الخارجية تبنت موسكو ما يمكن أن نطلق عليه “تكتيكات رشيقة”، حيث اعتمدت نمط استغلال الفرص والاستجابة السريعة للأزمات لتوسيع نطاق وصولها وتأثيرها في المشهد الدولي.
ففي الثورة السورية سارعت موسكو لتأسيس موطأ قدم شرق المتوسط، مستغلة تضعضع النظام السوري وحالة التخوف الدولي من انتصار قوى الثورة وتمدد تنظيم الدولة والمجموعات الجهادية، وفي أوكرانيا استغلت إعادة التموضع الاستراتيجي للولايات المتحدة نحو آسيا؛ لاستباق الناتو والتمدد فيما تعتبره مجالها الحيوي.
وفي الشرق الأوسط استغلت التحولات في أسواق الطاقة العالمية بسبب ثورة النفط الصخري، وفترات التوتر بين واشنطن وحلفائها في الخليج وتخوفهم من خفض واشنطن لالتزاماتها تجاههم، لبناء روابط أمتن وفتح مساحات تعاون جديدة أتاحت لها الحد من وطأة العقوبات.
وعبر إفريقيا استغلت أزمات الحكومات المحلية والصراعات الأهلية والتدخلات الإقليمية والدولية؛ لتبني حضور يمتد من سواحل الشمال الإفريقي في ليبيا ثُمَّ دول الساحل في السودان ومالي والنيجر وصولًا إلى الجنوب الإفريقي في موزمبيق، مستغلة مجموعة من الأدوات التكتيكية في جعبتها، مثل: مجموعات المرتزقة القتالية، تفعيل برامج التدريب والتأهيل، مذكرات التفاهم وتعاقدات التسليح -غير المشروط-.
رشاقة موسكو لا تقتصر على تكتيكاتها العملياتية فقط، بل تمتد إلى مواقفها السياسية، حيث لا تتبنى مفاهيم الارتباط العميق بالأنظمة والزعماء، وهو أمر تفرضه الطبيعة المضطربة التي تمثل عامل الجذب الأول لموسكو، ففي ليبيا مثلًا تبني القوات الروسية علاقات مع أطراف متشاكسة: معسكر حفتر وسيف الإسلام القذافي، كما تحافظ على الاتصال بحكومة طرابلس -رغم الدور الذي لعبته في حرب 2019 ضدها-. وتستغل موسكو ما توفره من امتيازات -لا يقدمها غيرها- لشركائها سواء بالدعم السياسي أو اللوجستي والعسكري واحتياج هذه الأطراف لشريك مثلها، في الحفاظ على تماسك هذه العلاقات المتناقضة.
وفي السودان تقترب موسكو اليوم من توقيع اتفاق نهائي مع الجيش السوداني، لإنشاء قاعدة بحرية لوجستية على ساحل البحر الأحمر بمدينة بورتسودان، وهو موقف يمثل تحولًا جذريًّا في موقع روسيا من الصراع الأهلي، بعد أن انحازت قوات الفيلق الروسي لقوات الدعم السريع ووفرت لها الدعم اللوجستي عبر ليبيا، وهي إشارة واضحة على أنَّ الصراعات لا تمثل لها فرصة انحياز وإنما فرصة ولوج. ويمثل الاتفاق مع الجيش السوداني فرصة لموسكو “لتأسيس مراكز دعم لوجستي في البحر الأحمر لتطوير الوجود البحري الروسي ودعمه في كل من المحيط الهندي والخليج الفارسي، وتوسيع خطوط الحركة البحرية من موانيء المناطق الساحلية للبحر الأبيض المتوسط إلى مواني شبه جزيرة القرم ومنطقة كراسنودار” كما نصت عليه استراتيجية روسيا البحرية لعام 2022.[1]
ضمن الرقعة المتسعة للتدخلات الروسية عبر العالم، تمثل منطقة الساحل الإفريقي جنوب الصحراء الكبرى إحدى الجبهات المتقدمة لمفهوم السياسة الخارجية الروسية عمومًا وللاستراتيجية الروسية في إفريقيا خصوصًا، وذلك لما تتيحه المنطقة من نطاق وصول واسع بدءًا من شواطئ البحر الأحمر والمحيط الأطلنطي اللذان يشغلان مكانة أساسية في الطموح البحري الروسي، فضلًا عن ارتباط المنطقة بالسواحل الجنوبية للمتوسط، المجاورة للتمركز الاستراتيجي في سوريا، الذي يمثل منفذ القوات الروسية للقارة عبر ليبيا.
ينشط “الفيلق الروسي” -مجموعة فاغنر سابقًا- بشكل مكثف في دول الساحل الإفريقي وعدد من الدول المحيطة (بوركينا فاسو، إفريقيا الوسطى، ليبيا) التي تمثل عمقًا حيويًّا لدول المنطقة، وتسعى موسكو عبر ممارساتها الأمنية والسياسية في المنطقة إلى تحدي النفوذ الغربي وتقديم نفسها كلاعب دولي موثوق ومؤثر عبر استغلال مجموعة من العوامل مثل: تآكل سيطرة الأنظمة الحاكمة، الصراعات الأهلية وصعود مجموعات التمرد، التدخلات الإقليمية والدولية، القيود والضغوط الغربية المفروضة على حكومات وزعماء المنطقة، الاتجاهات الاجتماعية والسياسية الصاعدة، حيث تتيح هذه الظروف الجيوسياسية والأمنية التي تمر بها المنطقة، الفرصة لموسكو لتوسيع نفوذها الجيوسياسي عبر إجراءات ذات تكلفة محدودة تعود بمكاسب اقتصادية وسياسية كبيرة.
بالتوازي مع استغلال الظروف الجيوسياسية والأدوات التكتيكية المذكورة آنفًا، فعلت موسكو دبلوماسيتها التقليدية عبر إطلاق مبادرات اقتصادية وثقافية، وكثفت نشاطها الدبلوماسي على أعلى مستوى، ما منح مقاربتها تجاه المنطقة صبغة شرعية وعزَّز من صلابة حضورها الأمني والعسكري -غير الرسمي- إذ أصبح من الممكن أن يدرج هذا الوجود ضمن أطر شراكة أو تفاهمات سياسية “شرعية”.
من أبرز هذه المبادرات وأكبرها القمة الروسية الإفريقية التي عُقدت في أكتوبر 2019، التي وعد فيها الرئيس الروسي بوتين بإعفاء الديون ومضاعفة التجارة مع إفريقيا على مدى السنوات الخمس المقبلة، وأتبعت موسكو القمة بزيارات سياسية رفيعة أجراها وزير الخارجية “سيرغي لافروف” ونائبه المبعوث الخاص للقارة “ميخائيل بوغدانوف”، لأكثر من عَشْر دول إفريقية، منها دول مقربة من واشنطن مثل: كينيا، التي تصنفها واشنطن كحليف من خارج الناتو، كما استقبل بوتين عددًا من الزعماء الأفارقة والقادة العسكريين في إطار سعي موسكو لاستقطاب القيادات الباحثة عن الدعم.
يشي اندفاع موسكو نحو إفريقيا وأطراف أخرى من العالم متجاوزة “مجالها الحيوي”، وتوظيفها لمقاربات مختلفة تأزر بعضها بعضًا عما هو أعمق من “الانتهازية” وسياسة استغلال الفرص، فعلى الرغم من أنَّ الوجود الروسي في إفريقيا لا يرتقي في التصنيف للحضور الاستراتيجي، فإنَّه يأتي ضمن رؤية بوتين للنظام العالمي وموقع روسيا منه، حيث يحقق هذا الحضور المتنامي عدة أهداف استراتيجية، مثل:
- تجاوز العزلة المفروضة على موسكو وفتح مساحات “اشتباك” جديدة تسمح لها بنقل معاركها مع الغرب، بعيدًا عن حدودها ومجالها الحيوي.
- استعادة صورتها التاريخية كقوة دولية، تقديم نفسها كبديل عن القوى الغربية، وتقويض قوة ومصداقية خصومها في المحصلة.
- وضع أساسات لوجود استراتيجي مستقبلي فيما يعرف “بالجنوب الدولي” يشدد على كونها قوة دولية.
حسابات التراجع
في مقترح ميزانية الدفاع للعام المالي 2025 حددت وزارة الدفاع الأمريكية خمسة أهداف أساسية، وهي ذاتها أهداف تضمنتها استراتيجية الدفاع الوطني واستراتيجية الأمن القومي للعام 2022. جاء في الهدف الثالث “التصدي لخطر روسيا عدائية جديدة”، وهو تعبير يفصح عن التصنيف الأمريكي لطبيعة الخطر الروسي ومكانته مقابل تهديدات أخرى، حيث ينص الهدف الأول للاستراتيجية على “الدفاع عن الوطن، في مواجهة التهديد المتزايد والمتعدد المجالات الذي تفرضه جمهورية الصين الشعبية”، ويشير اختيار الألفاظ في توصيف الخطرين إلى مدى التباين في التصنيف، فخطر عدائية موسكو هو حالة “جديدة” وصاعدة يجب التصدي لها، في حين أنَّ التهديد الصيني أكثر جدية وعمقًا، ما يستوجب “الدفاع عن الوطن” أمامه.
تعطي هذه الدلالات اللفظية لمحة عن التقييم الأمريكي العملي لتحركات موسكو على مختلف المحاور، وهو ما تؤكده سياسات واشنطن وردود فعلها في العديد من مناطق التماس معها، ففي الساحل والشمال الإفريقي حيث أصبحت روسيا لاعبًا أساسيًّا لا يمكن تجاوزه، أظهرت الولايات المتحدة “برودًا” تجاه تراجع تأثيرها لصالح روسيا، الذي كلفها مؤخرًا قاعدة جوية استراتيجية في النيجر مقابل ظهور بوادر تأسيس قاعدة روسية بحرية في السودان، وفي ملف العلاقات الروسية-الخليجية وتحديدًا العلاقات مع الرياض وأبو ظبي أظهرت واشنطن تقريبًا نفس القدر من “الهدوء”-مع الأخذ في الاعتبار عمق الحضور الأمريكي في الخليج مقابل إفريقيا-، وفي حالة التدخل الروسي في سوريا أبدت واشنطن قبولًا ملحوظًا بهذا الدور، مقابل ما اعتبرته مشاركة مهمة في أعباء ملف “مكافحة الإرهاب”.
إنَّ “التراخي” الأمريكي أمام الاندفاع الروسي على عدد من المحاور، ألقى ظلَّه على التصريحات الحادة والتحذيرات المتكررة من التمدد الروسي وخطره، فالمحصلة العملية خلال نصف العقد الأخير (منذ 2019) أنَّ واشنطن ليس لديها ما تقدمه على هذه المحاور سوى طلقات صوت فارغة، كما أفقدت سياسات الإدارات الأمريكية المرتبكة خلال العقد الأخير هذه التحذيرات مصداقيتها، فخلال الفترة الممتدة من 2014 إلى 2018 أبدت واشنطن ترحيبًا بالدور الروسي في عدد من الملفات، وعلى السبيل الذكر لا الحصر فقد رحبت قيادة أفريكوم في 2017 بالدور الذي تلعبه القوات الروسية في القارة، وامتنعت الولايات المتحدة في 2018 عن التصويت ضد المبادرة الروسية المطالبة برفع حظر التسليح عن إفريقيا الوسطى وتزويدها بالسلاح في مجلس الأمن، كما تغاضت واشنطن طويلًا عن تعاون أبو ظبي أحد أهم حلفائها في الشرق الأوسط مع موسكو عبر تمويل نشاط مجموعة فاغنر ودعم ميليشيات مسلحة في دول مثل السودان وليبيا، قبل أن يشهد الموقف الأمريكي تغيرًا ملحوظًا في 2019، وذلك عقب مراجعة وزارة الدفاع الأمريكية لموقف قيادة أفريكوم وأولوياتها “لتحول تركيز قواتها وجزء من مواردها من مكافحة الإرهاب إلى التهديدات التي تشكلها كل من روسيا والصين”[2].
إنَّ تصاعد النبرة الأمريكية ضد التمدد الروسي لم يدعمه موقف استراتيجي أو حتى وجود خطط عملية للحد من هذا الخطر، وهو ما تمت قراءته على أنَّه تراخٍ وتخبط واضح ناتج عن غياب الجدية والالتزام، وهي رسالة التقطتها الأنظمة الحاكمة وزعماء المنطقة مبكرًا؛ ما شجعهم على التقارب مع موسكو بأريحية أكبر.
تفاوتت القوى المختلفة في مقاربتها للتقارب مع موسكو حسب قراءتها لتطورات المشهد الدولي ومدى ارتباطاها بواشنطن أو اعتمادها عليها، فهناك أطراف انطلقت في قراءتها من الموقف الأمريكي الضمني الذي لم يتبنَ سياسات حاسمة ما جعل من التقارب مع موسكو مسألة “غير مكلفة” أو ليست ذات حساسية كبرى، في حين انطلقت أطراف أخرى من تقديرات جيوسياسية خاصة خلصت إلى ضرورة الانحياز للطرف الأكثر فاعلية ونشاطًا، الذي يشير المنحنى الجيوسياسي إلى استمرار صعوده خلال السنوات القادمة.
ينطلق السلوك الأمريكي تجاه موسكو من تقديرات واشنطن لحدود إمكانات موسكو على المستوى الاقتصادي، التقني، واللوجستي، فالرشاقة الروسية المذكورة آنفًا تعني أيضًا أنَّ حضور روسيا والتزاماتها غير عميقة، ورغم تطلعها إلى بناء حضور استراتيجي وشراكات راسخة، فإنَّها ما زالت بعيدة عن تحقيق هذا الهدف، فعلى صعيد الالتزام الأمني تبدو المساهمة الروسية محدودة تقنيًّا ولوجستيًّا وتتسم بانخفاض التكلفة ما يعني أنَّ قدرتها على التأثير مقرونة بوجود فراغ أمني، فهي غير قادرة على مواجهة خصم من الوزن الثقيل بهذا الحضور المحدود، كما أنَّ قدرتها على بناء شراكات سياسية واقتصادية تظل محدودة بما يمكن أن تقدمه من قيمة مضافة في المجالات المختلفة للتعاون (التقنية، التجارة، التنمية، ..إلخ) وهو ما يضعف فرص الشراكة الاستراتيجية واعتماد القوى المحلية والإقليمية عليها كشريك بديل عن واشنطن، وحتى في المجالات التي تقدم فيها موسكو نفسها كخيار بديل، مثل التسليح، فهي ما زالت بعيدة عن ما تقدمه واشنطن بمسافة كبيرة.
يمتد تقييم واشنطن إلى ساحة أوكرانيا، إذ يشير سلوكها إلى عدم وجود مخاوف كبيرة من الغزو في حد ذاته أو من نتائجه، حيث تميل التقديرات الأمريكية إل تحول أوكرانيا إلى مستنقع يستنزف روسيا اقتصاديا ويضعف نظامها السياسي مع استمرار الحرب على نسقها الحالي، وهو ما تؤكده المعطيات بعد مرور عامين على الغزو، حيث خسرت روسيا ما لا يقل عن 300 ألف جندي بين قتيل وجريح، ودُمِّر أكثر من ثلثي مخزون دباباتها، كما استنزفت ما يقارب عن 44% من صندوقها السيادي، كما أظهر تمرد زعيم مجموعة الفاغنر ظهور بوادر تصدع النظام السياسي.
إن اطمئنان واشنطن للتمدد الروسي ربما يتجاوز “محدودية الإمكانات الروسية” في المجالات المختلفة إلى اعتبارات تاريخية في الجغرافية السياسية، حيث فشلت المحاولات التاريخية لروسيا في تحقيق وجود استراتيجي مستدام خارج مجالها الحيوي، كما لم تستطع عبر تاريخها التحول من قوة بحرية إقليمية إلى قوة دولية؛ وهو طموح قديم متجدد منذ عهد بطرس الأول. ويشكل اعتماد موسكو جزئيًّا على حلفاء واشنطن في المنطقة لتجاوز العقوبات وتوسيع نطاق تأثيرها في المشهد الدولي، عامل اطمئنان آخر يعطي واشنطن الثقة في القدرة على ضبط حالة التمدد العدائية، لكن القراءة الأمريكية “للعدائية” الروسية ليست على درجة واحدة، وهي تعتمد بشكل كبير على حساسية “موقع الاشتباك” وقربه من الخطوط الحمراء للأمن القومي الأمريكي، فمثلًا النشاط الروسي في ملف تصدير المهاجرين غير النظاميين من إفريقيا إلى الولايات المتحدة عبر دول أمريكا الجنوبية، مثل نيكاراغوا، قد يمثل تهديدًا جادًا يضطر واشنطن لرد حاسم، لما يمثله هذا الملف من قضية شائكة ومؤثرة في ديناميكيات السياسية الأمريكية الداخلية ولما يفرضه من تحدٍ أمني جديد في الجغرافيا القريبة.
حدود الهيمنة
تواجه الولايات المتحدة صعوبة بالغة في تخصيص وإدارة مواردها للوفاء بالتزاماتها الأمنية والحفاظ على تأثيرها السياسي حول العالم وعبر القضايا المختلفة، ومع تزايد تعقيد وتشابك القضايا الدولية وارتباطها ببعضها، وبروز تحديات جديدة وتعدد الخصوم وسرعة حركتهم، تجد واشنطن نفسها أمام تحدي بناء استراتيجيات متماسكة تلائم المناطق والقضايا المختلفة، وهو ما يؤثر في المحصلة على قدرتها على التكيف مع الظروف الجيوسياسية المتغيرة والاتجاهات الصاعدة وبناء السياسات حولها.
ويمثل نموذج النيجر شاهدًا على هذا التحدي، إذ حاولت واشنطن ممارسة نفس السياسات التي تمارسها في مناطق أخرى من العالم -تملك فيها وجود أكثر عمقًا وصلابة- دون اعتبار خصوصيات المشهد النيجيري وأثر محيطه الإفريقي، حيث أدى وقف المساعدات المالية عقب الانقلاب الحاصل في يوليو 2023 ثُمَّ ضغط مبعوثي واشنطن العسكريين والسياسيين المستمر على المجلس العسكري لإنهاء التعاون مع روسيا، والتلويح بقطع المساعدات الإنسانية إلى تدهور العلاقة بين الطرفين، ما أدى إلى طلب المجلس العسكري مغادرة القوات الأمريكية من أحد أكبر وأهم قواعدها الجوية والاستخبارية بالمنطقة.
لا شك أنَّ خسارة موطئ قدم في موقع تصفه واشنطن “بركيزة استقرار الساحل”[3] يمثل انتكاسة للوجود الأمريكي في الغرب الإفريقي والنفوذ الأمريكي في إفريقيا عمومًا، لكن هناك ما يشي بأنَّ واشنطن لم تتحسر طويلًا على خسارتها هذه، فقبل هذه الانتكاسة بسنوات درست واشنطن بجدية تخفيف أعبائها في غرب إفريقيا وإفريقيا عمومًا ضمن استراتيجية إعادة التموضع وإعادة نشر القوات حول العالم، وهو ما عبر عنه وزير الدفاع الأسبق مارك إسبر بقوله: “نبحث عن الابتعاد عن 18 عامًا من عمليات نشر القوات لمكافحة الإرهاب في الأماكن المضطربة بسبب التشدد والتمرد، حيث يتنقل الآلاف من القوات الأمريكية في محاولة للحفاظ على الحد الأدنى من الاستقرار، ولكن دون احتمال كبير للتوصل إلى حلول نهائية.”[4]
تبدو واشنطن واعية بحدود قدراتها وأولوياتها، وربما كان وعيها بإمكاناتها وإمكانات خصومها هو أحد أهم الدوافع التي وجهت سلوك واشنطن تجاه سياسات موسكو الخارجية، ففي الوقت الذي تبحث فيه عن إعادة تخصيص مواردها لمواجهة ما تعتبره تهديدًا وجوديًّا، لا يمكنها التنصل من التزامات أثقلت كاهلها لعقود والتي تتصدرها حماية وجودها في الشرق الأوسط، أمن دولة الاحتلال، محاربة الإرهاب، ضبط المضايق والممرات البحرية الدولية وطرق التجارة، وغيرها من التزامات لا يمكنها التخلي عنها دون تآكل نفوذها بشكل دراماتيكي، وقد سعت واشنطن لمعالجة هذه القضايا عبر دبلوماسيتها لمحاولة احتواء التهديدات التي تواجهها، عوضًا عن التصدي لها بالقوة، وهو ما يمثل توجها استراتيجيا جديدا عبر عنه مدير جهاز الاستخبارات المركزية ويليام بيرنز بقوله “الدبلوماسية هي الأداة الرئيسية التي نحتاجها لإدارة العلاقات الخارجية، والحد من المخاطر الخارجية، واستغلال الفرص لتعزيز أمننا وازدهارنا… نحن لم نعد القوة المهيمنة، ولكن بوسعنا أن نكون القوة المحورية لسنوات عديدة قادمة، وستكون المهمة هي استخدام ما تبقى من النافذة التاريخية للتفوق الأمريكي لتشكيل نظام دولي جديد، نظام يستوعب اللاعبين الجدد وطموحاتهم بينما يعزز مصالحنا الخاصة.”[5]
يندرج الاتفاق النووي الإيراني، موجة التطبيع الثالثة واتفاق أبراهام، ورعاية التسويات بين حلفائها في المنطقة (المصالحة الخليجية) و(تقارب القاهرة وأبو ظبي مع أنقرة) ضمن التسويات التي عملت واشنطن على ترسيخها عبر دبلوماسيتها، ويبدو أنَّ موقف واشنطن من تدخل موسكو في سوريا وتمددها في إفريقيا يندرج تحت هذا السياق، إذ يمكن أن تلعب الأخيرة دورًا مهمًا في ملف “مكافحة الإرهاب” يضعها أمام التزام أمني ومالي كبير، لتضرب واشنطن عصفورين بحجر واحد: التحلل من جزء من أعبائها، وإثقال كاهل موسكو بها.
لكن المعضلة التي تواجه واشنطن اليوم؛ هي أنَّ التحديات الأمنية متشابكة بطبيعتها، فما يجري في الساحل الإفريقي يمتد أثره لمياه البحر الأحمر والمتوسط، الذي يوثر بدوره في المشهد الأمني والسياسي في الخليج والشام، كما أنَّ تنفس الدول والمجموعات العدائية الصعداء في المناطق غير المهمة للولايات المتحدة يمثل تهديدًا بصعود أيديولوجية وخطاب هذه الكيانات واكتسابه للمصداقية، ما يقوض نفوذ الولايات المتحدة ودورها على مستوى أعمق، حيث قد يؤدي ابتعاد الولايات المتحدة عن هذه الملفات -غير ذات الأولوية- إلى تقويض جهود عقود طويلة من البناء، كما أنَّ احتمالية تحول التهديدات الصغيرة إلى تهديدات استراتيجية في ظرف سنوات يظل احتمالًا واردًا؛ فالالتفات لقضايا ومناطق دون أخرى يعني ظهور ثغرات ونقاط عمياء تهدد مصالح وأمن واشنطن، وتمثل هذه الثغرات فرصة للتطور على طريقة كرة الثلج لتتحول من ثغرة إلى تهديد أكثر خطورة وجدية، فما يبدأ اليوم كعمليات محدودة لتهريب مهاجرين غير نظاميين على بعد 1000 كم من الحدود الأمريكية، قد يمتد أثره غدًا ليعبث بالديموغرافيا والأمن ويضرب استقرار النظام السياسي الأمريكي في المحصلة.
[1] MARITIME DOCTRINE OF THE RUSSIAN FEDERATION, 2022
[2] LEAD INSPECTOR GENERAL REPORT TO THE UNITED STATES CONGRESS, 2019
[3] Integrated Country Strategy: Niger, 2022
[4] Helene Cooper, Thomas Gibbons-Neff, Charlie Savage and Eric Schmitt, Pentagon Eyes Africa Drawdown as First Step in Global Troop Shift, New York Times, Dec 2019
[5] The Back Channel. William J. Burns, Random House, 2019