تقديراتسياسي

تحولات المعادلات السياسية في لبنان

من هيمنة حزب الله إلى منعطفات ما بعد 7 أكتوبر

على وقع الزلازل الإقليمية، انتخب أعضاء مجلس النواب اللبناني بأغلبية 99 صوتًا من أصل 128 قائد الجيش العماد جوزيف عون رئيسًا للجمهورية، منهيًا بذلك فراغًا رئاسيًّا دام أكثر من سنتين. لم تكن المفاجأة في انتخاب عون، بل في تكليف رئيس محكمة العدل الدولية القاضي نواف سلام، بتشكيل الحكومة في وقتٍ توقع فيه كثيرون إعادة تكليف الرئيس السابق نجيب ميقاتي.

على الجهة الأخرى، وفي الوقت الذي امتلأت خلاله الحياة السياسية في العاصمة اللبنانية بيروت بالضجيج، تعرض الجنوب اللبناني لتفجيرات وتوغلات إسرائيلية، وذلك قبل أيام قليلة من انتهاء مهلة الستين يومًا المخصصة للانسحاب الإسرائيلي من لبنان، والتي بدأت في 27 نوفمبر 2024. ومع ذلك، ليس هناك يقين تام بإتمام عملية الانسحاب ضمن الإطار الزمني المحدد وَفق الاتفاق.

المشهد اللبناني المستجد والمتسارع والذي لا يزال في صفحاته الأولى، لم يكن نتاج اللحظة الراهنة أو التفاعلات اللبنانية الداخلية وحدها، بل كان إلى حد كبير انعكاسًا للحرب الإسرائيلية الأمريكية على محور المقاومة وحزب الله. فقد تصدر حزب الله قبل 7 أكتوبر المشهد، وسعى لتحقيق مكاسب راسخة داخل البنية اللبنانية. إلا أنَّ الضربات التي تلقاها غيّرت طموحاته بشكل جذري، بل وقلبت معادلاته رأسًا على عقب.

في هذه الورقة، نسعى إلى فَهم المعادلات السياسية اللبنانية وتطورها وصولًا الى 7 أكتوبر، والتي كان حزب الله ضابط إيقاعها الرئيس بامتداداته الإقليمية والمحلية. ثم نحلل تطور هذه المعادلات بعد 7 أكتوبر والأحداث المرافقة له والتي أبعدت حزب الله عن تصدر المشهد. ونتناول هذه المعادلات بأبعادها الداخلية والخارجية ضمن استشراف لتعقيدات المستقبل.

لبنان قبل 7 أكتوبر

حزب الله في ذروة صناعة المعادلات

في 31 أكتوبر 2016، انتُخب حليف حزب الله ميشال عون رئيسًا للجمهورية اللبنانية نتيجة لتغيرات في موازين القوى الإقليمية وتعبير عن معادلة وصول إيران للبحر الأبيض المتوسط للمرة الثالثة في تاريخها.

بلغ حزب الله في ذلك التاريخ ذروة نفوذه في الداخل اللبناني، حيث برز كضابط إيقاع للحياة السياسية نتيجة سلسلة من الإنجازات الإقليمية والمحلية، ولتعاظم قوته بمختلف أشكالها.

منذ تأسيسه، نجح الحزب في تحقيق إنجازات بارزة في ميدان المقاومة، بدءًا من التصدي للاجتياح الإسرائيلي في الثمانينيات، مرورًا بتحرير الجنوب اللبناني عام 2000، وانتصار يوليو/ تموز 2006، وصولًا إلى أدواره الإقليمية المتزايدة. هذه الأدوار جعلت أمين عام حزب الله حسن نصر الله وفريقه القيادي عنوانًا أساسيًّا لمحور المقاومة الذي تقوده إيران في المنطقة، خاصة بعد دور الحزب المتقدم في تثبيت نظام بشار الأسد في وجه الثورة السورية، وهو دور بدأ التحضير له منذ استلام الأسد الحكم، وتجلى في الاستعراض العسكري الشهير لحزب الله بحضور الأسد ونصر الله في العاصمة السورية دمشق عام 2000.

استطاع حزب الله بعد هذه التجربة تثبيت مجموعة معادلات: معادلة الردع مع إسرائيل، ترسيخ شرعية سلاحه في الدولة اللبنانية من خلال بيانات الحكومات المتعاقبة التي تبنّت شعار “جيش، شعب، مقاومة”. كما نسج شبكة واسعة من التحالفات السياسية مع قوى من مختلف الطوائف، مما عزز مكانته كصانع قرار أساسي في الساحة اللبنانية. في الوقت نفسه، رسّخ الحزب موقعه داخل الطائفة الشيعية عبر شراكة قوية مع حركة أمل، وحيازته شرعية المقاومة إضافة لتقديمه حزمة خدمات اجتماعية واقتصادية. هذا النفوذ لم يقتصر على الداخل اللبناني، بل امتد ليضع الحزب في موقع فريد كمجموعة ما دون الدولة، قادرة على التأثير إقليميًّا ودوليًّا.

تحولت الأنظار داخليًّا وخارجيًّا نحو حزب الله، الذي بات عنوانًا رئيسيًّا في المشهد اللبناني، متجاوزًا الاهتمام بالدولة اللبنانية نفسها وبالقوى السياسية الأخرى. أصبح الحزب الممثل الأبرز للبنان على المستوى الإقليمي والدولي، وورقة إيران الأقوى في المنطقة، ما جعله محور الاهتمام والجدل في أي حديث عن لبنان ودوره في محيطه.

انقلاب المشهد الإقليمي والتحول نحو معادلات جديدة

لم يكن توسع حزب الله في الداخل اللبناني وفي الإقليم مجرد نتاج قوته العسكرية أو أدواره الإقليمية، بل جاء في ظل التفاهم الإيراني-الأمريكي الذي بلغ ذروته خلال إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما وإبرام الاتفاق النووي مع إيران عام 2015. كان من الطبيعي أن ينعكس هذا الاتفاق على لبنان وحزب الله، الذي وسع حضوره على كافة المستويات.

لكن هذه الحِقبة الذهبية لم تدم طويلًا، إذ تغيّر المشهد بوصول دونالد ترامب إلى السلطة وانسحابه من الاتفاق النووي، مما زاد التوترات وفرض معادلة دولية جديدة عنوانها ارتفاع الضغوط على إيران ومحورها في المنطقة.

في ظل هذه المعادلة، بدأت حملة دولية لإضعاف حزب الله وتقويض نفوذه من خلال فرض عقوبات اقتصادية واسعة النطاق عليه وعلى حلفائه، بالتزامن مع تضييق اقتصادي عام على لبنان. تضافرت هذه العوامل مع فساد النظام السياسي اللبناني لتُنتج انهيارًا اقتصاديًّا شاملًا، ألقى بظلاله على حزب الله بوصفه راعي الرئيس عون والحزب الأقوى داخل المنظومة. وأدى هذا الواقع إلى تحميل حزب الله مسؤولية مزدوجة: مسؤولية التدهور الداخلي الناتج عن الفساد وسوء الإدارة، ومسؤولية تعميق الأزمة نتيجة الضغوط الخارجية التي زادت من عزلة لبنان.

شهدت هذه الفترة نتيجة الظروف الضاغطة، صعود انتفاضة 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، التي مثّلت تحولًا نوعيًّا في العلاقة بين حزب الله والشارع اللبناني. ففي البداية، كان حزب الله عصب الحراك الشعبي، لكنه سرعان ما تراجع عندما ارتفعت موجة الاحتجاجات لتطال المنظومة السياسية بالكلية. وجد الحزب نفسه أمام خيارين حاسمين: إما الانحياز للشارع والمطالبة بإصلاحات جدية تطال الجميع، أو حماية الوضع القائم للحفاظ على حلفائه وحلفاء سلاحه. اختار الحزب الخيار الثاني، مفضلًا حماية سلاحه ومنظومة الفساد التي تدعمه، على حساب الانخراط في مشروع تغيير جذري يمكن أن يضعف شرعية سلاحه الرسمية.

هذا الخيار عزَّز قناعة الشارع اللبناني والدول المناهضة لحزب الله بأنَّه الحامي الأول للمنظومة السياسية الفاسدة، وأنَّ بقية القوى السياسية الرئيسية ليست سوى امتداد لحزب الله. ونتيجة لذلك، تبلور خطاب خارجي يهدف إلى إعادة تشكيل المشهد السياسي اللبناني بالكلية بعيدًا عن الأحزاب التقليدية، وفي الخلفية التركيز على خنق حزب الله اقتصاديًّا وسياسيًّا. 

البحث عن اتفاق جديد ومستدام

كان من الطبيعي أن تؤدي الضغوط المتزايدة على حزب الله وإيران إلى صياغة معادلات جديدة، خاصة مع تولي جو بايدن رئاسة الولايات المتحدة وما حمله ذلك من آمال لدى إيران وحزب الله بإمكانية إعادة فتح باب التفاهمات مع واشنطن. بالنسبة لإيران وحزب الله، أصبح البحث عن صيغة توافقية حول الملفات الإقليمية والدولية أولوية؛ نظرًا لحجم الضغوط الاقتصادية والسياسية التي تعرضا لها، دون أن يعني ذلك تقديم تنازلات بالمجان بعدما حققاه في العقود الماضية.

هذا التوجه نحو التفاهم برز بوضوح في ملف ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، الذي تم بوساطة أمريكية. ورغم أنَّ الدولة اللبنانية هي الطرف الموقع رسميًّا، فإنَّ حزب الله كان حاضرًا في المشهد الخلفي، حيث التزم بالاتفاق وامتنع عن استهداف منصات التنقيب الإسرائيلية، حتى خلال ذروة الحرب الأخيرة. وقبل السابع من أكتوبر، فتح باب الترسيم البري بين لبنان وإسرائيل، تمهيدا لفك الاشتباك بين حزب الله وإسرائيل بشكل سلمي. ومع ذلك، كان الاتفاق لا يزال في مراحله السياسية الأولى حيث احتاج لمظلة أمريكية إيرانية وموافقة إسرائيلية.

لقد كانت معادلة التفاوض التي سعى إليها حزب الله واضحة، إذ ارتكزت على هدفين رئيسيين: ضمان أمن الحدود اللبنانية مع إسرائيل، والدفع نحو مؤتمر تأسيسي جديد يعيد توزيع موازين القوى داخل النظام اللبناني، بما يمنح الطائفة الشيعية تمثيلًا أكبر في هياكل الدولة. ففي ذهن حزب الله، يمثل السلاح، إلى جانب دوره الدفاعي عن الجنوب، تعويضًا عن ما يعتبره خللًا في التمثيل السياسي للطائفة. لذا، فإنَّ حزب الله نظر إلى فك الاشتباك مع إسرائيل -الذي بدأ بترسيم الحدود البحرية واتجه نحو الحدود البرية- كخطوة تستلزم مظلة سياسية أوسع تُترجم داخليًّا عبر تغييرات جوهرية في النظام اللبناني.

إلا أنَّ تحقيق هذا الهدف اصطدم بعدة عوائق، أبرزها غياب التوقيت الإقليمي المناسب وافتقاد الصفقة إلى صيغة شاملة تأخذ في الحسبان تعقيدات المشهدين اللبناني والإقليمي. فلبنان عانى في تلك الفترة فراغًا رئاسيًّا، مع تراجع حزب الله وحلفائه في الانتخابات النيابية، رغم استمراره في الحفاظ على دوره كأقوى قوة سياسية وعسكرية في البلاد مما شل الحياة السياسية اللبنانية بشكل شبه كامل.

على الصعيد الدولي، لم تسفر المفاوضات الأمريكية-الإيرانية ولا تلك المتعلقة بحزب الله عن نتائج حاسمة. أما إسرائيل من جهتها اعتبرت أنَّ حزب الله تجاوز حدوده، ما جعلها أقرب لاتخاذ خطوات عسكرية لعرقلة أي ترتيبات لا تراعي مصالحها الأمنية. ورغم ذلك، فإنَّ إيران وحلفاءها ظلوا يراهنون على إمكانية تحقيق مكاسب عبر التفاوض “على البارد” مستندين إلى معادلة الردع التي رسختها السنوات الماضية قوتهم العسكرية والسياسية.

7 أكتوبر تغير المسارات

في خضم السعي الإقليمي والدولي للوصول إلى معادلة ترضي مختلف الأطراف، جاءت أحداث 7 أكتوبر لتقلب الموازين تمامًا، مما جعل من المستحيل التوصل إلى اتفاقية متكافئة تُرضي الجميع. حجم الحدث وهول تأثيره على الكيان الإسرائيلي، إلى جانب الدعم الأمريكي المفتوح، أدخل المنطقة في مرحلة جديدة من الصراع.

إسرائيل وضعت نصب عينيها صياغة معادلة واضحة، عنوانها إنهاء أي تهديد لأمنها في الإقليم وذلك عبر استخدام القوة المفرطة، مستفيدة من الدعم الأمريكي غير المحدود، والاتفاق العام على الرؤية. الولايات المتحدة، من جهتها، سلّمت بمعادلة إسرائيل وطريقة تحقيقها، معتبرةً أنَّ عملية 7 أكتوبر تمثل انعكاسًا لسياسات المحور الإيراني، رغم أنَّ إيران لم تكن مسؤولة عنها بشكل مباشر. عليه، جاء الرد الأمريكي والإسرائيلي موجهًا إلى المحور بأسره، وليس إلى تنظيم مسلح فحسب.

حزب الله بدوره حاول الحفاظ على معادلته السابقة المتمثلة بوحدة محور المقاومة ومعادلة الردع. دخل الحزب في حرب “إسناد مضبوطة” بهدف تحقيق هذه الرؤية، لكن الطرف المقابل كعمل وَفق خُطط عسكرية واستراتيجية تهدف إلى تصفية المحور بأكمله، مع التركيز على حزب الله كقوة المحور الضاربة.

تفصيليًّا، شمل الهدف الإسرائيلي-الأمريكي إنهاء دور حزب الله الإقليمي، وتقليم أظافره المؤثرة على إسرائيل، وفض الاشتباك مع لبنان بالقوة، وتقويض الحزب داخليًّا وموازنة دوره مع القوى الأخرى، ومعاقبة بيئته الحاضنة.

في المقابل، اعتمد حزب الله على ركيزتين: استمرار الردع، والتنسيق غير المباشر بين إيران والولايات المتحدة، معتقدًا أنَّ ذلك سيحميه من تصعيد شامل. لكنه واجه صدمة مزدوجة: اختراق أمني داخلي كبير، وخديعة أمريكية لإيران، مما جعله عاجزًا عن استيعاب حجم التصعيد وجديته. أدرك حزب الله متأخرًا أنَّ واشنطن وتل أبيب عازمتان على فرض معادلة استئصالية مهما كلّف الأمر.

التصعيد الإسرائيلي كان غير مسبوق، حيث شمل اغتيال قيادات الصفين الأول والثاني في حزب الله باعتبارهم قيادات المحور ومسؤولين غير مباشرين عن 7 أكتوبر، واستهداف البنية التحتية للحزب بما فيها مراكز للقيادة والسيطرة ومخازن للصواريخ. كما نفذت إسرائيل عملية برية في الجنوب اللبناني بهدف تدمير مخازن الصواريخ والأسلحة وضرب قدرات وحدة “الرضوان” الهجومية، بالإضافة إلى نسف القرى الحدودية لتحويل الشريط الحدودي إلى منطقة مكشوفة، مما يصعّب أي محاولات لتكرار سيناريو شبيه بـ 7 أكتوبر من الأراضي اللبنانية. إلى جانب هذه الضربات العسكرية، استُهدفت البيئة الحاضنة لحزب الله بشكل مباشر من خلال توسع الاستهدافات وضرب المؤسسات الخدمية مثل “مؤسسة القرض الحسنومخازن “سجاد”، كما فُرِض تضييق اقتصادي ومعيشي على معاقل حزب الله، بهدف خلق فجوة بين الحزب وجمهوره اللبناني، بما يتماشى مع رؤية “الشرق الأوسط الجديد” التي يسعى إليها نتنياهو.

حاول حزب الله التوصل إلى اتفاق لوقف النزيف العسكري والاقتصادي، وركز على إعادة بناء قوته. ظاهريًّا، لم تتضمن شروط الاتفاق ما يتعارض مع مطالبه، مثل الانسحاب الإسرائيلي الكلي من لبنان والتراجع لما خلف نهر الليطاني. لكن المنتصر عسكريًّا يفرض شروطه، خاصة مع تزامن الاتفاق مع سقوط نظام الأسد في سوريا، ما زاد من ضعف حزب الله إقليميًّا.

تحول الاتفاق من انسحاب تدريجي للقوات الإسرائيلية إلى فرصة لتوسيع نفوذ إسرائيل في الجنوب، مع الإشراف على إعادة تشكيل السلطة اللبنانية. حزب الله، الذي عانى تراجعا استراتيجيًّا داخليًّا، وجد نفسه في موقع دفاعي يفتقد المبادرة التي يتمتع بها سابقًا؛ ناهيك بانتهاء معادلة الردع.

من معادلة المؤتمر التأسيسي إلى التقوقع

انفتح حزب الله قبل الحرب على صياغة معادلة جديدة فخاض مفاوضات لترسيم الحدود وفض الاشتباك (أي إنهاء دور السلاح)، مع السعي إلى تحقيق توازن في السلطة من خلال تثبيت حماية الحدود اللبنانية وضمان مكاسب سياسية واقتصادية للطائفة الشيعية داخل بنية الدولة اللبنانية، بالإضافة إلى تحقيق مصالح استراتيجية لإيران.

مع الضربات التي تلقاها حزب الله والمحور واستمرار الحضور العسكري الإسرائيلي في الجنوب، إضافة إلى التراجع السياسي لحزب الله، تغيّرت أولويات الحزب. أصبح يسعى الآن لمقايضة ما كان يفاوض عليه سابقًا، ولكن هذه المرة من خلال المطالبة بضمانات تتعلق بإعادة الإعمار، والانسحاب الإسرائيلي، والحفاظ على دوره ومكانته ضمن المعادلة اللبنانية وعدم مطاردة سلاحه شمال الليطاني مع انفتاحه بدلًا من ذلك على حوار لاستراتيجية دفاعية شاملة.

هذا الضغط الهائل على حزب الله دفعه إلى التمسك بالقديم، أي بإعادة طرح الرئيس نجيب ميقاتي لرئاسة الحكومة. يعكس ذلك عدم إدراك حزب الله للحظة السياسية الراهنة، حيث تطرح المعارضة الداخلية والخارجية شخصيات ورؤى جديدة، بينما يتمسك الحزب بوجوه المنظومة السياسية الماضية. هذا التمسك يجعل خصوم حزب الله، داخليًّا وخارجيًّا، أكثر قربًا من نبض الشارع الناقم على المرحلة السابقة ورموزها.

في المقابل، طرحت الأحزاب المعارضة لحزب الله معادلة الفيدرالية في مواجهة المؤتمر التأسيسي الذي دعا الحزب إليه. أما اليوم، ومع تراجع نفوذ الحزب، فقد تحوّل الطرح إلى تثبيت اللامركزية الموسعة وتعزيز مؤسسات الدولة. كما ستسعى المعارضة للاستفادة من العودة الأمريكية والسعودية إلى المشهد اللبناني بقوة لتغيير موازين القيادة في الدولة من حزب الله وحلفائه إلى خصومه.

ومع ذلك، خط ثالث قد يتشكل في لبنان، يرتكز على إعادة بناء الدولة بقيادة رئيس الجمهورية جوزيف عون المسيحي ورئيس الحكومة نواف سلام السني، مدعومَين باهتمام خارجي وسجل نظيف. يحظى هذا الخط بتأييد شعبي واسع في ظل الاستياء من معظم الأحزاب الحاكمة فضلًا عن النقمة الدولية على معظم هذه الأحزاب بسبب مشاركتها، ولو بنسب متفاوتة في المشروع السياسي لحزب الله؛ ناهيك بمستوى فسادها.

بروز هذا الخط الثالث قد يسحب البساط من تحت أقدام كافة الأحزاب اللبنانية على اختلاف توجهاتها. تبدو القوى الخارجية أكثر ميلًا لدعمه، وقد يلقى تعاطفًا شعبيًّا أكبر في حال النجاح، خصوصًا بعد إخفاق كافة القوى اللبنانية، وعلى رأسها حزب الله، في استيعاب الحراك الشعبي في 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2019. وستمثل المعادلة الدولية بذلك صفحة لبنانية جديدة شعبية من جانب، مضبوطة ماليًّا، والأهم تحت مظلة الولايات المتحدة وضوابطها.

خاتمة

أدّت الضربات الإسرائيلية الأخيرة، بما فيها الاتفاق اللبناني-الإسرائيلي، إلى فضّ اشتباك بين الطرفين، خاصة في ظل التغيرات الإقليمية والمحلية التي تحول دون عودة حزب الله إلى خيار الحرب. كما أدى هذا الواقع إلى تقييد دور حزب الله الإقليمي بشكل كبير، لا سيما مع عزل سوريا، وتصفية الجيل القيادي لحزب الله بصورة شبه كاملة، وبذلك يكون لبنان وحزب الله قد دخلا في معادلة جديدة.

في هذا السياق، تصاعد الاهتمام الغربي والعربي بلبنان نتيجة تراجع نفوذ حزب الله وما يتيحه ذلك من فرص للدخول إلى الساحة اللبنانية. بالمقابل، ازدادت أهمية الداخل بالنسبة لحزب الله كونه المساحة الأخيرة المتبقية له للتحرك.

لذلك، من المتوقع أن تشهد الساحة السياسية اللبنانية ديناميكية نشطة تهدف إلى تثبيت أحجام القوى السياسية في ظل المشهد الجديد، مع احتمال بروز قوى جديدة قد تعيد رسم المشهد السياسي.

توجد ملفات ذات أهمية كبرى على الطاولة، وستتأثر بالأحجام الجديدة للقوى الإقليمية والمحلية وطريقة تفاعلها. أبرز هذه الملفات مصير سلاح حزب الله، رسم استراتيجية دفاعية جديدة للبنان، ومستقبل القوات الإسرائيلية المتمركزة في الجنوب وطيران الاحتلال في الأجواء اللبنانية. إلى جانب ذلك، تبرز قضايا إعادة الإعمار وبناء المؤسسات والاقتصاد.

إنَّ لبنان بهذا المشهد مقبل على ورشة عمل ضخمة، حيث لا يُعدُّ انتخاب الرئيس وتشكيل الحكومة سوى الخطوة الأولى في مسار طويل مفتوح يمكن أن يكون سلسا أو متشابكًا بحسب تعاطي مختلف الأطراف مع القضايا المختلفة في المرحلة المقبلة.

محمد فواز

باحث في العلاقات الدولية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

انظر أيضا
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى