هذا المقال جزء من سلسلة ستصدر تباعا بعنوان “فهم العدو” وذلك للتسهيل على صناع القرار والمناصرين للقضية أن يتعاملوا مع المشهد بشكل استراتيجي واستحضار الصورة الكلية. يسعى المقال المرفق للإجابة على السؤال الخاص بفهم نتنياهو تحديدا، كقائد للدولة، قبل التوسع في فهم باقي الجهاز القيادي – الإداري والمجتمع الداخلي.
أولا: لماذا نتنياهو؟ -مركزية القائد في الحرب
“لا توجد خطة ظلت على حالها بعد الاصطدام الأول مع العدو” مولتكه
غالبا ما كانت الحروب محور التاريخ. وغالبا ما كان القادة محور الحروب. إن دور القيادة الاستراتيجية في الحرب يختلف عن القيادة في أي مجال آخر من المجالات. إذ تُعد الحرب هي أكثر خيار غير عقلاني في الحياة، وبالتالي فإن مهمة القادة، كما ذكرها مارتن فان كريفلد: “تتلخص في إرسال الجنود لحتفهم”.
ولكي يقوم القائد بهذا الدور الصعب يحتاج لترسيخ مشروعية الحرب وسببها أولا ثم تحريك عاطفة وغضب الجماهير للمشاركة في الحرب، مع توفير الموارد اللازمة للاستدامة، ثُمَّ أخيرًا توفير الغطاء السياسي لتحييد الأطراف الخارجية ما أمكن. وفوق كل ذلك، هناك عملية التوجيه والمراقبة المستمرة للحرب، والتأكد من أنها تخدم الهدف السياسي والنتيجة السياسية المرجوّة. وهذا أخطر ما في العملية القيادية على الإطلاق. فالهدف والنتيجة السياسية للحرب لا بُدَّ أن تبرر الثمن المدفوع من قدرات وموارد وكوادر وأخيراً، الوضع السياسي والذي له أهمية خاصة.
أخيرا يجب القول إن عملية التوجيه هذه وحساب المكاسب ليست معادلات رياضية باردة تتم في حالة من الراحة والتأمل الصوفي الهادئ. بل هي أكبر معضلات الحرب على الإطلاق، لأن الحرب كيان لا يمكن السيطرة عليه بالكامل. فلابد أن تخرج بعض الأمور عن السيطرة، وسيكون هناك نقص دائم في المعلومات الحرجة، فضلا عن صعوبة التفسير القاطع للمعلومات المتوفرة، يُضاف لذلك كله التحديات التي يخلقها الخصم باستمرار، وستتسارع الأمور حتى يُصبح من الصعب أصلا فهم ما يجري فضلا عن التصرف بناء عليه. هذا كله يوضح الأهمية الاستثنائية والصعوبة الهائلة في القيادة الاستراتيجية. وقد شدد على هذه المعاني معظم منظري الحرب أمثال لوتواك وكولن جراي وكلاوزفيتز وهاندل وغيرهم حتى أصبحت أساسا في تعليم قيادة الحرب ونصت عليها العقائد القتالية الحديثة.
يبقى لنا أن نقف على مسألة فارقة في فهم القيادة الاستراتيجية وهي الفرق بين القيادة في العصور السابقة والقيادة في القرن المعاصر. فبما أن شكل الحرب والمجتمعات تغير بشكل جوهري، كذلك تغيرت الطريقة التي يمارس بها القادة مهامهم. لقد انتهى عصر الإسكندر الأكبر والفاتحين المسلمين الأوائل ونابليون بونابرت، وقت كان القائد البطولي الحكيم -ما أطلق عليه كلاوزفيتز القائد العبقري- هو من يأخذ بزمام الأمور، ويتجاوز جميع الأشخاص والعقبات ليرسم طريقه للنصر بشكل ملحمي مبهر.
إن تعقد الحرب التي أصبحت تشن عبر خمسة أبعاد: البر، البحر، الجو، الفضاء، الطيف المعلوماتي والحرب السيبرانية، مضافا إليه تعقد شكل الاقتصاد، وزيادة عدد الفاعلين السياسيين من الدول وجماعات ما دون الدولة، وفوق كل ذلك تعقيد وضخامة جهاز الدولة والحكم بما يعنيه ذلك من تناقضات فضلا عن الصراعات الداخلية… كل ذلك أدي لشكل جديد من القيادة الاستراتيجية تكون مهام القائد الأساسية فيها:
أولا: فهم طبيعة الحرب وما تعنيه الاستراتيجية العسكرية في العصر الحالي. وهو ما يسميه محمد بريك المدار المعرفي للقادة، فهذا أساس السلوك القيادي اللاحق، وهو ما يُحدث الفارق الجوهري حقا بين القادة! ويتضمن هذا الأمر فهم أبعاد الحرب الحديثة المذكورة أعلاه، وكيف تتحرك الآلة العسكرية فيها، والعلاقة بين هذه الأبعاد وقيود الاستخدام..إلخ. لكن ليس مطلوبا أن يكون القائد خبيرا في جميع هذه الأبعاد، بل إن هذه الخبرة أصلا غير ممكنة كما أوضح كولن جراي. ما هو ممكن، بل واجب، أن يكون لديه مقدار المعرفة الذي يؤهله للحكم على أداء الخبراء في هذه التخصصات ومدى مطابقة جهودهم للهدف السياسي. وباختصار، لابد من فهم كيفية توظيف هذه الأداة بل وتطويرها وتحريفها-تعديلها كي تتوائم مع أهداف الحرب وبيئتها السياسية.
ثانيا: بناء هيكل صنع القرار الاستراتيجي بشكل سليم. يكون فيه حوار بين العسكري والسياسي مع وجود السلطة لدى السياسي، لكن في غير طغيان أو تهميش للخبرة الفنية، وفوق كل ذلك، التخلص من آفات صنع القرار الشهيرة مثل الافتراضات العمياء الجازمة والهوس الأيديولوجي مع توحيد الفهم في كامل هيكل صنع القرار للعدو ومراجعة الفرضيات باستمرار.. إلخ.
ثالثا: التأكد من بناء المؤسسات والجيوش والمجتمع بالكفاءة والاحترافية التي تُمكن القائد من حصد النصر بهم. في المساحة العسكرية، يعني ذلك تطوير القدرة القتالية الشاملة التي تتجاوز مجرد التسليح ويمكن اختصارها في القوة المادية للأسلحة واللوجستيات والمعدات والأفراد وكل هذا يشمل الكم والنوع. والقوة المعنوية من روح معنوية وجودة القيادة والتدريب ومستوى الانضباط والإيمان بالقضية. والقوة الفكرية أو المستوى المفاهيمي الذي يتضمن المبادئ والاستراتيجيات والمذاهب العسكرية التي ستقوم بتوجيه استخدام القوات العسكرية وتوفر القدرة على التكيف وتضمن التطور المستمر الضروري في الصراعات.
وباختصار فإن خبرة الحرب الحديثة تقول بأن المنظمة والتنظيم سيتممان ويكملان حلقة وضع الإستراتيجية وتنفيذها ومراجعتها بشكل صحيح. ورغم أن القائد هو من يأخذ القرارات ويوجه التيار وهو المركز الذي لا غنى عنه، بل سيكون دوره في منعطفات الصراع جوهريا وحاسما، إلا أنه يعمل من خلال منظمة بيروقراطية تساعده على تعيين البدائل بشكل نقدي، وتنسيق المدخلات المتناقضة، والإشراف على التنفيذ وتحليل التأثير كما أوضح كولن جراي.
في الجزء المتبقي من المقال سنفحص نتنياهو كقائد لدولة الاحتلال وأداؤه الاستراتيجي في الحرب الحالية.
“في دولة ديمقراطية ذات انتخابات حقيقية غير مزورة، فإن الحكم كل هذه المدة ليس بالأمر السهل. إذ يتطلب أكثر من مجرد الحظ السعيد والسياسات الذكية؛ يحتاج المرء أيضا للكفاءة والمهارة. وسواء أحببته أو كرهته، فقد استخدم نتنياهو الأمرين معًا” آرون ميلر
نتنياهو: النشأة والشخصية
يُعد نتنياهو أهم شخصية في تاريخ إسرائيل بعد المؤسس الأول بن جوريون. فقد استطاع بكاريزميته القوية وبراعته السياسية مع ألاعيبه وحيله الممزوجة بكفاءته الاقتصادية والدبلوماسية أن يكون أطول رؤساء الوزراء الإسرائيليين حكما. وقد ظل عنوان الأمن ورمز القوة والسيطرة في أذهان شعبه إلى أن نزل به زلزال 7 أكتوبر الذي غير كل شيء في معادلة الصراع.
في فترة نشأته، يعتقد أفيشاي مارجاليت أن الشخصية الأكثر أهمية في تعليمه السياسي هو والده، بنزيون، المؤرخ الصهيوني المنظّر لإسرائيل الكبرى والذي اعتقد في صميمه أن غالبية العرب – حتى العرب الإسرائيليين – يشكلون تهديدًا وجوديًا لإسرائيل، كما “اعتبر القيادة الفلسطينية استمرارًا للنازيين وتجسيدًا للشر”. ومن خلال الشواهد العملية يمكن القول إن نتنياهو ورث الكثير من نظرة والده للعالم. حيث يتذكر أصدقاؤه تحذيره من معاهدة السلام الإسرائيلية مع مصر، وموقفه الرافض لها بشدة من منظور أيديولوجي.
لكن كما أوضح جوشوا ليفر، فإن نتنياهو ليس أيديولوجياً بالمعني التقليدي الديني في إسرائيل. كما أن معارضته الدائمة لحل الدولتين غير مرتبطة بالأساس بوعد ديني أو دوافع عقائدية. ورغم أن معظم أنصاره، بطبيعة كونهم يمينيين، هم من المحافظين المتدينين، إلا أنه علماني بشدة ولا يلتزم بالشريعة اليهودية. غير أن نظرته للعالم تشكلت من خلال التشاؤم العميق. ويمكننا القول إن هذا التشاؤم، جزء منه سببه الواقع الصعب أمام دولة الاحتلال، والجزء الآخر هو تفسيره لنتائج المبادرات السياسية وتاريخ إسرائيل مع العرب منذ نشأتها. وقد دلل ليفر على هذا بحديث نتنياهو مع أعضاء الكنيست في عام 2015: “لقد سُئلت عما إذا كنا سنعيش بالسيف إلى الأبد، نعم هذا صحيح”.
لقد استوعب نتنياهو هذا الرأي منذ كان طفلاً…ووفقاً لهذه الحسابات والمنظور، فإن أي دولة فلسطينية ستتحول إلى دولة إسلامية تهدد وجود إسرائيل؛ ولذلك فإن السيطرة الإسرائيلية غير المحدودة على الأراضي المحتلة هي ضرورة مطلقة لبقاء اليهود.
لكن لا ينبغي أن نكون سطحيين في تفسير كامل سلوك نتنياهو الاستراتيجي استناداً لهذه التعاليم والتصورات. فهو يتحرك في بيئة تفرض عليه معطياتها، كما حدث وقت إدارة الرئيس الأمريكي أوباما، وستتباين غلبة النزعات الشخصية حسب خطورة الموقف وتعقيد المواجهة. لكن سيبقي هذا ملمحا هاما له تأثيره ضمن باقي التأثيرات من باقي مكونات الحرب المختلفة.
أخيرا، كنظرة عامة على سماته الشخصية، يظهر بوضوح ذكاؤه الاجتماعي والسياسي ومهارات التواصل والإقناع التي شحذها من عمله كمدير تسويق وعززها بدروس في التمثيل والأداء. هذا مع اطلاع واسع ومتنوع كما ذكر في مذكراته الشخصية. لكن لعل إحدى أبرز سماته على الإطلاق هي طموحه الجامح الذي تحول في النهاية، بعد ما حققه من إنجازات، إلى إيمان غبي بنفسه كما ذكر الوزير السابق وحليف نتنياهو القديم زئيف إلكين : “لقد بدأ برؤية عالمية تقول: ’أنا أفضل زعيم لإسرائيل في هذا الوقت”. “ثم تحولت إلى “إن أسوأ شيء يمكن أن يحدث لإسرائيل هو توقفي عن قيادتها، وبالتالي فإن بقائي يبرر أي شيء”. ومن هناك، يمكنك الوصول بسرعة إلى استنتاج مفاده “الدولة هي أنا”. وهذا ما يؤمن به في صميم قلبه”.
المسيرة السياسية والأزمة الداخلية
أولا: القاعدة الجماهيرية وشرائح الناخبين:
إن انطلاق ونجاح نتنياهو كسياسي قام على إثبات أنه فارس اليمين ومؤمنه المخلص، حتى لو كان سيغير من سياساته قليلا ويتلاعب بوعوده لاحقا بسبب الضغوط الأمريكية. لقد راهن نتنياهو بشكل صحيح على القلق الصهيوني تجاه الآخر، وكذلك الطمع في الدولة المنيعة. فهذان الشعوران يقفان عقبة متأصلة أمام التفاوض مع الفلسطينيين وكذلك يدفعان للهيمنة الإسرائيلية الكاملة. أبرز الأمثلة على ذلك ما حدث عام 1995 حين وقف نتنياهو في حشد من عشرات الآلاف اليمينيين مع شعارات “الموت للعرب” في احتجاج لليمينيين على مسار التسوية بين إسحق رابين رئيس الوزراء في ذلك الوقت، ومنظمة التحرير الفلسطينية. وكان من تداعيات هذا الحراك مقتل رابين على يدي يميني متطرف يُدعى إيجال عمير. كان هذا الرهان، بهذه الدرجة من التهور والحدة، محفوفا بالمخاطر، فنتنياهو وقتها لازال سياسيا صاعدا أمام يسار لديه إنجازات في أعين الجمهور إلا أنه أدى لفوزه في نهاية المطاف. ورغم بعض الانتكاسات ظل هذا نهج نتنياهو الذي أنقذه من ورطات الانتخابات. من ذلك ما حدث عام 2015 عندما شن في مقطع فيديو شهير هجوما على المرشحين الآخرين زاعما أنهم يقودون إسرائيل للهلاك بسبب قاعدتهم من الناخبين العرب، وكان هذا أحد أكبر أسباب فوزه.
ثانيا: الحزب ودولاب الدولة:
عمد نتنياهو إلى إقصاء كل من قدر على إقصاءه من المنافسين، واشتهر بالانقلاب على الحلفاء السابقين مما أثار موجات من الخصومات الشخصية وسياسة الرأي الواحد، والتي تحولت في أواخر سنواته إلى شعبوية فجة بسبب مطاردات المحاكم في عدة قضايا فساد، متهما بالرشوة والاحتيال وخيانة الأمانة. فمع كون سياسة الرأي الواحد والصوت الواحد نزعة شخصية لديه، إلا أن الأمر تطور بشكل جذري عام 2020 مع مطاردة المحاكم له، وأصبح أسلوب نتنياهو السياسي ملوثا بجنون العظمة كما في الخطاب الشهير الذي قال فيه قبل المحاكمة: “لقد انضمت عناصر في الشرطة والنيابة العامة إلى الميديا اليسارية ــ أسميها عصابة، وذلك لتلفيق قضايا لا أساس لها ضدي والانقلاب على إرادة الشعب “.
كان هذا بمثابة تبلور ما أسماه بعض المعلقين الإسرائيليين “الببيبية” وهي مزيج من القومية العدوانية ونظرية المؤامرة مع إدانة معارضي نتنياهو باعتبارهم خونة. بالتالي منح نتنياهو المناصب والوزارات لأعضاء الليكود واليمينيين، بحيث كان الولاء الشخصي شرطًا أساسيًّا للقبول. ومع تراجع شعبية ائتلافه، حافظ نتنياهو على الائتلاف من خلال منح المتطرفين والقوميين العرقيين مناصب رفيعة داخل حكومته. من ذلك شخصيات مثل إيتمار بن جفير، وزير الأمن القومي الحالي واليميني المتطرف الذي أدين سابقًا بالتحريض على العنصرية والإرهاب. ومثل وزير المالية ومسؤول الإدارة المدنية في الضفة، القومي الديني المتعصب سموتريتش، الذي يعتبر أهل الضفة نازيين، ودعا إلى الضم الرسمي للضفة الغربية وطرد أي فلسطيني يقاوم، ثم مؤخرا كرر الدعوة ولكن هذه المرة في غزة.
ثالثا: أسلوب القيادة:
في كتابه الشهير “سنوات نتنياهو”، يقدم بن كاسبيت وجهة نظر نقدية لعملية صنع القرار لدى نتنياهو. حيث أوضح أنه كزعيم متأثر بشدة بالبقاء السياسي والاعتبارات الشخصية، وغالبًا ما يعطي الأولوية لهذه الاعتبارات على المصالح الاستراتيجية أو الوطنية الأوسع.
مجددا، لا يعني ذلك أنه يتحرك بأنانية وانكفاء على الذات وفقط. فبدون براعة استراتيجية لم يكن ليصل لهذه النجاحات. لكن لا ينفي ذلك سحق نتنياهو أو طرده لأي منافس محتمل داخل الليكود، وأن هذا ملمح جوهري في قيادته الفردية النرجسية. وبحلول عام 2015، تحول الحزب الذي كان يضم الليبراليين الاقتصاديين والاجتماعيين إلى حزب شعبوي استبدادي يتمحور حول شخصيته الكاريزمية.
استراتيجيًّا، ما يهم الانتباه له هنا -بغض النظر عن مبالغات الخصوم- هو أن قيادة نتنياهو وهيكلته لمؤسسات صنع القرار تُظهر إشكالا ضخما وواضحا. بحيث تكون الأولويات الاستراتيجية مهملة في اللحظات الحرجة، أو في أحسن الأحوال في المرتبة التالية للمصلحة الشخصية. خاصة بعد مشاكل الفساد. بل يمكن القول أنه شَكّلَ عقلا جمعيا تغلب عليه النزعة الأيديولوجية في دائرة صنع القرار، وبالتالي تراجعت القدرة المؤسسية على صياغة استراتيجية فعّالة ابتداء، وعلى مراجعة فرضيات القائد بشكل سليم.
السياسة الخارجية وتوجهات الأمن القومي
“على مدار 25 عاما مضت قيل لنا أن السلام مع العرب متوقف على الفلسطينيين.. إنني أعتقد أن الطريق إلى السلام لا يمر عبر رام الله، بل يتجاوزها: فبدلاً من الذيل الفلسطيني الذي يهز العالم العربي، أرى أن السلام يجب أن يبدأ بالدول العربية، الأمر الذي من شأنه أن يعزل العناد الفلسطيني” نتنياهو، هاآرتس
حدث الانبهار الحقيقي من مسيرة نتنياهو على خلفية ما حققه في مساحة الأمن القومي. حيث تعد حكومته الممتدة من عام 2009 إلى عام 2019، من أهدأ الفترات في تاريخ إسرائيل. ولم تكن هناك حرب كبرى رغم التوترات الشديدة والمستمرة في المنطقة خلال هذا العقد. الفكرة الأساسية هنا هي نظرته المختلفة للصراع على أنه وضع طبيعي يمكن التعايش معه وإدارته لأجل غير مسمى، والتي اعتبرها البعض إعادة تشكيل المشهد وطريقة النظر برمتها أي تغيير البرادايم بتعبير بواز بيسموث.
فبدلا من محاولة حل الصراع العربي-الإسرائيلي والوصول لنهاية سياسية مستقرة، عمل نتنياهو على احتوائه وتوجيهه عن طريق عزل غزة عن الضفة أولا، ثم عزل فلسطين عن العرب والعالم ثانيا. وسعى لتنفيذه عبر تجاوز الفلسطينيين وتوقيع اتفاقيات تطبيع مع دول عربية، والتوسع في العلاقات مع دول شرق أوروبا وإفريقيا مقابل التبادل الاقتصادي وتكنولوجيا المراقبة والاتفاقيات الأمنية.
الخطير هنا هو أن هذه الاستراتيجية الجديدة نالت قبولا واسعا في إسرائيل وفي دوائر صنع القرار حتى من قبل خصومه السياسيين. كان من أبرز من ناقش هذه المسألة جوشوا ليفر:
“إن حكومة “التغيير” قصيرة العمر بقيادة يائير لابيد ونفتالي بينيت، والتي أطاحت بنتنياهو لفترة وجيزة في ربيع عام 2021، لم تنحرف عن نموذج نتنياهو، بل عمقته أكثر… ومع تحول إسرائيل نحو اليمين، تمكن نتنياهو من الالتفاف حول اليسار والوسط في هذه القضية. ففي الحملة الانتخابية الإسرائيلية الأخيرة، بالكاد ذكر منافسه الرئيسي، بيني غانتس، قضية السلام الفلسطينية، وعندما فعل ذلك، تفاخر بعدد من قتل من “الإرهابيين الفلسطينيين” حسب تعبيره.
لقد كان لنموذج إدارة الاحتلال العديد من المزايا العملية في نظر المروجين له. فالإبقاء على الوضع الراهن يقلل من خطر إثارة غضب المجتمع الدولي. كما أن الاحتلال المؤقت، افتراضيا، مكّن إسرائيل من إبقاء الفلسطينيين محرومين من حقوقهم، بدلا من الضم الرسمي وما قد يترتب عليه من منح الجنسية للفلسطينيين في تلك الأراضي التي ضمتها. الأمر الذي، من وجهة نظر إسرائيلية، سيهدد بتعريض الأغلبية الديموغرافية اليهودية للخطر.. لقد تمكن نتنياهو من إقناع عدد كاف من الإسرائيليين بأن هذا المستقبل، مهما كان غامضا وإشكاليا، فهو أقل خطورة بكثير من الاعتراف بدولة فلسطينية “.
عسكريا، ترجمت العقيدة القتالية الإسرائيلية المسماة بالمعركة بين الحروب “جز العشب” هذه الاستراتيجية الشاملة. حيث عملت إسرائيل على شن عمليات عسكرية تتراوح بين المتوسطة والصغيرة لأجل تقليم التهديدات النامية وردع إيران ومحور المقاومة، دون التورط في حرب شاملة تقتضي رؤية لمسار أو حل سياسي يتنافى مع الرؤية السياسية العامة.
أخيرا، وظّف نتنياهو التهديد والإيراني والنزاع السني-الشيعي لاختراق الدول العربية ابتداءً بدولة الإمارات التي مهّدت، بالتوازي مع الأمريكي، للتوسع الإسرائيلي في المنطقة. لكن لم يكن التطبيع بسبب هذا التهديد فقط بل تنوعت الأسباب والمغريات حسب كل دولة، حيث تراوحت المغريات بين الاستقرار الاقتصادي وبين الاستقرار الأمني وتوفير أدوات السيطرة على الوضع الداخلي. ولن يكون من الوهم توقع أن الأمر في معظم الحالات خليطًا من هذا وذلك.
لكن أخطر شيء، ولعله من أبرع التفسيرات للوضع الإقليمي وحالة الصراع العربي الإسرائيلي، ما كتبه د.محمد بريك بشكل تفصيلي بأن التمدد الإسرائيلي في الإقليم ونجاح نتنياهو خلال العقد المنصرم، كان ذلك كله نتيجة لانهيار سيادة الدول العربية، خاصة الدول المركزية. حيث تفتت دول الإقليم إما ماديا-جغرافيا، وإما داخليا عبر انقسام المجتمعات وانعزال النخب عن الشعب مما قتل الفاعلية والقدرة على الممانعة والتهديد، فضلا عن إمكانية التحرك الفعلي ضمن رؤية استراتيجية سليمة.
هذا النقاش مهم لأن محاولة تصور مشروع نتنياهو لابد أن يضع في نفس الصورة هذه الحالة غير المسبوقة من الانهيار العربي، خاصة مصر، فضلا عن اقتتال الدول العربية في شكل من الحرب الباردة وحروب الوكالة العقيمة التي مزقت العلاقات الرسمية وبين الشعوب على حد سواء.
مخلص عام: شق نتنياهو ،كقائد، مسارا جديدا واستراتيجية خطيرة هددت بتفريغ القضية وتحقيق نجاح ضخم على مستوى الاستراتيجية الكبرى، لكنه في نفس الوقت لم يعالج مشاكل مؤسسات صنع القرار -أحد أهم أدوار القيادة الاستراتيجية كما أسلفنا- بل زاد من حجم هذه الإشكالات، وكان أسلوبه مثالا سيئا للقيادة الفردية. فطوال تاريخها، امتلأت عملية صنع القرار الإسرائيلي بالمشاكل والخروقات الفكرية والمؤسسية كما أوضح ذلك العديد من الاستراتيجيين والمنظرين أمثال هاندل ومارتن فان كريفلد وتشارلز فريليتش ومحمد بريك. لكن في عصر نتنياهو، خاصة في أواخره، وصلت هذه الإشكالات لمستوى جديد تماما، رغم التحسّن العام للتعليم الاستراتيجي في إسرائيل. ويتبقى الآن تحليل المشهد القيادي الإسرائيلي الراهن وتداعيات طوفان الأقصى على نتنياهو وقيادته.
طوفان الأقصى: زلزال لجميع الأطراف
“لقد انكسر نتنياهو. وتحطم عاطفيا، هذا أمر مؤكد… أعني، هناك شيئًا فظيعًا حدث له. لقد تظاهر طوال حياته بأنه سيد الأمن. “إنه سيد الهراء”. “في كل دقيقة يقضيها كرئيس للوزراء يشكل خطرا على إسرائيل. أنا أعني ذلك بجدية. أنا متأكد من أن الأميركيين يفهمون أنه في حالة سيئة” إيهود أولمرت، في مقابلة مع صحيفة بوليتيكو
فقط قبل أسابيع من السلام التاريخي المتوقع بين السعودية وإسرائيل، والتتويج النهائي لمشروع نتنياهو، شنت المقاومة في غزة هجوما لم تتعرض له إسرائيل منذ عام 1948. وتبين“أن الهدوء النسبي الذي ساد خلال العقد ونصف العقد الماضيين كان مبنياً على سلسلة من الأوهام: أن الفلسطينيين وتطلعاتهم إلى الحرية يمكن إخفاءهم خلف حواجز إسمنتية وتجاهلها؛ وأن أي مقاومة متبقية يمكن إدارتها من خلال مزيج من التكنولوجيا والقوة النارية الساحقة؛ وأن العالم، وخاصة الدول العربية السنية، قد سئمت من القضية الفلسطينية لدرجة أنه يمكن إزالتها من الأجندة العالمية، وبالتالي، يمكن للحكومات الإسرائيلية أن تفعل ما يحلو لها ولا تتحمل سوى القليل من العواقب”
زيادة على كل ذلك، حدث انهيار قلما التفت له أحد بشكل كاف، وهو الفشل في رحلة الإقلاع والاستقلال الإسرائيلي بعيدا عن الرعاية الأمريكية. وهذا فشل باهظ لأنه في المسار الاستراتيجي بعيد المدى أو ما يُسمى بالاستراتيجية الكبرى “grand Strategy”. ولفهم ذلك يجب أن نفهم أن تاريخ إسرائيل عبارة عن كيان طفيلي زُرع قسرا واعتمد في مراحل نموه الأولى على إمدادات خارجية هائلة لدعم نموه واستيطانه. وبعد فترة من النمو والتمدد لهذا الكيان الخارجي بدأت إسرائيل تتمرد ضد هذه المساعدة الخارجية من أمريكا، لما تأتي به من شروط، مستغلة الانهيار العربي كما ذكرنا. لكن كل ذلك انهار أيضا ورجعت إسرائيل للوراء حيث صارت فكرة بقاء الدولة نفسها، ولو لوهلة، ولو عند قطاع فقط، موضع شك.
بالتالي كان أداء نتنياهو بعد الطوفان، الذي مسح كامل فرضياته، مليئا بالثغرات التي تُضعف من الأداء الاستراتيجي لإسرائيل في الحرب. ورغم تحركاته القيادية القوية على الصعيد الدبلوماسي الخارجي في بداية الحرب وكذلك تشكيل كابينت الحرب الداخلي، في خطوة بدت كمحاولة لتشكيل إدارة احترافية وتوحيد الصف الداخلي أمام التهديد، إلا أن هذه مجرد مكاسب ضمن سلسلة من الكوارث. بالأساس لا يوجد تصور سياسي لما بعد الحرب بحيث يمكن للأداة العسكرية خدمته. فرغم أن هذه الآلة المجنونة حتى الآن تعمل وفق رؤية مادية بسيطة،كعادة الإسرائيلي في الحرب، مفادها تدمير حماس واحتلال القطاع، لكن ستتصادم الأداة العسكرية لاحقا، إذا حققت هدفها، مع فكرة أن القضاء على حماس ظاهريا لن ينه المقاومة وأنَّ الأمر يتطلب شيئا أبعد من القوة الخشنة.
فضلا عن هذا الإشكال في المستوى السياسي للحرب، بدت إدارة الحرب نفسها خرقاء مما ضيّع فرصة تاريخية من الإجماع الدولي لإسرائيل، فضلا عن أن مجلس الحرب نفسه مليء بالخلافات مع تنامي اليمين المتطرف وهجماته بشكل غير مسبوق منذ 1948. وكل ذلك يقود لخلافات حقيقية مع الإدارة الأمريكية وما توفره من مظلة عسكريا وسياسية لهذه الحرب الكئيبة. لكن أخطر ما في إدارة الحرب، وما يجب محاولة استغلاله حقا، هو استمرار نتنياهو في ألاعيبه السياسية وضرب حلفاءه في الظهر سعيا لنجاته السياسية والشخصية من مغبة الفشل في 7 أكتوبر.
إن انهيار الإمبراطورية التي سعى لها نتنياهو وفقدانه الفردوس الذي روج له طوال حكمه، إذا أضفنا لذلك شبح المحاكم وقضايا الفساد التي تطارده هو وزوجته يظهر بسهولة أن قيادته لن تكون موجهة للمصالح الاستراتيجية في المقام الأول بل ستزيد إشكالات ما سبق. فقبل كل شيء، أصبح من مصلحته استمرار الحرب، على الأقل حتى مرحلة معينة، بحيث تظل المحاكمات مؤجلة في ظل الظرف الطارئ الذي حُشِدَت له الدولة.
كما سيعمل نتنياهو على زيادة التوجه لليمين ليس بسبب الإكراه وإنما لتصدير نفسه مرة أخرى أنه نبي اليمين المخلص الذي سيسمح لهم بالعربدة في فلسطين وأنه وبوابة الدفاع ضد التدخل الأمريكي أمام هذه العربدة … وباختصار حتى لو لم يكن نتنياهو الأكثر تطرفا إلا أنه يحتاج لاستغلال الوضع الداخلي والاستثمار في حالة الخوف لطرح خيارات صعبة يكون تحقيقها بمثابة طوق نجاته الجديد. والذهاب لمساحات متطرفة لحصد إجماع اليمين الذي احتل المشهد السياسي خلال آخر عقدين من تاريخ إسرائيل.
ماذا بعد؟
كما أوضحت، فهدف المقال هو التحليل بالأساس كما سيكون هناك حديث خاص بمسارات العمل. لكن بشكل عام، بناء على كامل التحلل في هذا المقال، يجب على المقاومة تعميق الشرخ الحادث في المستوى القيادي لدى العدو وهذا يكون على مستويين:
1) الاستراتيجية الشاملة الآنية: يشمل هذا الصلابة الدفاعية وتحقيق الإنجازات العسكرية مع شن حرب معلوماتية ونفسية تستهدف الإشكالات المذكورة في قيادة وبيئة العدو وصفه الداخلي، بالإضافة إلى تغيير الوضع السياسي الداخلي الفلسطيني بما يفوت الفرصة على الأداة العسكرية للعدو أن تنفرد بفصيل بعينه ولكن الأهم بأن يسمح ذلك التغيير في الوضع بتغيير في موقف الأطراف الدولية والإقليمية مما يزيد من إشكال اليمين المتطرف على رأسهم نتنياهو.
2) الاستراتيجية الكبرى طويلة الأمد: عن طريق إرجاع ثقافة وعملية صنع القرار الإسرائيلية عقودا للخلف من حيث عسكرة الاستراتيجية وتغليب الحلول المادية، وذلك سيكون عبر فقدان الثقة في القيادة المدنية والأداة الدبلوماسية وهذا سيحتاج تفصيلا أكبر من المستوى السابق.
خاتمة
لا تعني مشكلات قيادة العدو أن الحرب بالضرورة محسومة لصالح المقاومة، رغم دعائنا وآمالنا، فالحرب لا تخضع لمعادلات خطية مباشرة تربط بين السبب والنتيجة ببساطة، وما القيادة إلا أحد مكونات هذه الظاهرة المعقدة. ورغم مركزية القائد كما أسلفنا إلا أن القدرة القتالية والاقتصاد والمجتمع والجغرافيا وباقي المكونات قد تقوم بتعويض هذا الخلل! لكن الأخطر من ذلك كله هو مدى رداءة قيادة أحد أطراف الصراع بالمقارنة مع الطرف الآخر، وهذا أخطر ما في الأمر.
إن ما ذكرناه من ظواهر خلل في قيادة العدو يتطلب قائدا فذاً يستغل كل هذا المشكلات ضمن استراتيجية شاملة. فالمقاومة لديها مشاكلها وتحدياتها الاستراتيجية الأخرى، والتي تزداد خطورة بسبب اختلال توازن القوى فيما سنعمل على توضيحه لاحقا.
إن الاستراتيجية ليست تجريدا في الفراغ، بل هي مرتبطة بالطرف الآخر عبر مقارنة أداء الطرفين لبعضهما البعض، وليس للمثال النظري. فمثلا قد لا تؤدي القسوة الإسرائيلية والإفراط العسكري الغاشم لفشل بالضرورة، فقد يتمكن الإسرائيلي -لا قدر الله- من ترجمته لنكبة جديدة وتهجير لنصف سكان غزة، دوليا أو في الجوار، مع إعادة تسكين للبيئة الإقليمية بعد فترة واستعادة لمسارات التطبيع. لذلك كان الهدف من الكتابة بالأساس المساهمة في فهم العدو بشكل أمثل، ومن ثَم محاولة بناء مسارات استراتيجية، وما النصر إلا من عند الله العزيز.
بالتوفيق دائما