
تُسمع أصوات صراع متجدد في منطقة الحدود الباكستانية الأفغانية بسبب تصعيد القتال بين باكستان والحكومة الأفغانية. توجد حاليًّا هجمات من كلا الجانبين على بعضهما البعض. وزاد التوتر أكثر عندما نفذت باكستان في 26 ديسمبر من العام الماضي غارة جوية على منطقة حدودية داخل أفغانستان.
في تطور غريب إلى حد ما لما بدا أنَّه استراتيجية مزدوجة للقيادة العسكرية الباكستانية مستمدة من الدبلوماسية والعمل العسكري، أرسلت إسلام آباد المبعوث الخاص محمد صادق إلى كابول برسالة عن تحسن العلاقات بينما نفذت الغارة الجوية في نفس الوقت. ولا يمكن وصف مدى الإحراج الذي ربما شعر به صادق في كابول. لقد ترك الهجوم ندوبًا عميقة في منطقة بارمال، حيث أسفر عن قدر كبير من الدمار.
ادعت باكستان أنَّ الغارة الجوية في 26 ديسمبر استهدفت مسلحين من حركة طالبان الباكستانية. ومع ذلك، أفادت كل من الأمم المتحدة وطالبان الأفغانية أنَّ النساء والأطفال كانوا من القتلى والجرحى. وأوضحت طالبان أنَّ العديد من الضحايا كانوا لاجئين من وزيرستان. وقالت بعثة الأمم المتحدة للمساعدة في أفغانستان (يوناما) إنَّها تلقت تقارير “موثوقة” تفيد بمقتل العشرات من المدنيين، بمن فيهم نساء وأطفال، في غارات جوية شنتها القوات العسكرية الباكستانية في إقليم باكتيكا شرق أفغانستان.
ومن الواضح أنَّ الغارات الجوية نُفذت على معسكر للمواطنين الباكستانيين الذين لجأوا إلى أفغانستان. فالمنطقة التي ضربتها الغارة الجوية الباكستانية يسكنها في الواقع لاجئون من الجانب الباكستاني من منطقة وزيرستان القبلية؛ حيث نزحوا بسبب عملية الجيش الباكستاني المسماة عملية “زارب- أزب” قبل عقد من الزمان.
الرد بالمثل من طرف طالبان
قالت الحكومة الأفغانية بقيادة طالبان في 28 ديسمبر/كانون الأول 2024 إنَّ القوات الأفغانية استهدفت ما زعمت أنَّها مراكز ومخابئ لعناصر خبيثة متورطة في الهجوم الأخير في أفغانستان، واستمرار تصاعد القتال عبر الحدود.
إنَّ حكومة طالبان في كابول لديها خيارات محدودة للغاية؛ من ناحية دبلوماسية فلديها اعتراف محدود للغاية في المجتمع الدولي؛ من ناحية أخرى تفتقر إلى القوة الجوية ولا تسيطر على المجال الأفغاني الجوي. ولا تستطيع طالبان الرد بنفس الطريقة على باكستان بسبب محدودية قوتها الجوية وترساناتها من الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى. يمكنها فقط الرد من خلال قوتها البرية على حدودها مع باكستان.
بعد الإطاحة بالحكومة المدعومة من الولايات المتحدة في أفغانستان، توقعت إسلام آباد أن تقضي طالبان على الجماعات المناهضة لباكستان في أفغانستان، وأن توقف أنشطة حركة طالبان الباكستانية، وأن تستقبل ملايين اللاجئين الأفغان المقيمين في باكستان. افترضت باكستان بشكل ساذج أنَّه مع سيطرة طالبان، ستُحل جميع قضاياها العالقة. ولكن بدلًا من ذلك، أصبحت المشكلات أسوأ، كما في ملفات مكافحة الجماعات المسلحة والصراعات الحدودية واللاجئين.
السياسة الداخلية الباكستانية
إنَّ الجيش الباكستاني المسيس منهك بسبب أنشطة حركة طالبان الباكستانية في خيبر بختونخوا، ولوجود تمرد انفصالي في بلوشستان، والاضطرابات السياسية الناجمة عن الإطاحة برئيس الوزراء السابق عمران خان. فكلتا المحافظتين لهما حدود برية مع أفغانستان.
ومنذ أن سيطرت طالبان على أفغانستان، أصبحت السياسة الداخلية لباكستان عاملًا رئيسيًّا في العلاقات الثنائية بين أفغانستان وباكستان. ويبدو أنَّ استراتيجية المصالحة التي تبناها عمران خان قد تبخرت تمامًا منذ الإطاحة به على يد الجيش الباكستاني القوي، والذي كان تاريخيًّا يوجه سياسة البلاد تجاه أفغانستان.
عمران خان رئيس وزراء باكستان في ذلك الوقت، والجنرال فيض حميد رئيس الاستخبارات الذي أشرف على رحيل الولايات المتحدة من أفغانستان، كلاهما خلف القضبان حاليًّا. يواجه فيض حميد محاكمة أمام المحكمة العسكرية، ويتعرض عمران خان لعدد من المحاكمات الملفقة.
اختار الجيش الباكستاني سياسة عدوانية ضد طالبان، كما يصر قائد الجيش الباكستاني الجنرال عاصم منير على معاقبة أي شخص يدعم رئيس الوزراء عمران خان. طالبان هي في أغلبها من عرقية البشتون، وكذلك عمران خان. المقاطعة الوحيدة في باكستان التي سُمح لحزب عمران خان بتشكيل الحكومة الإقليمية هي أيضًا ذات أغلبية من البشتون، وتشكل جوهر قاعدة الدعم السياسي لعمران خان.
في الواقع، انزعجت باكستان بشدة من الأنشطة المسلحة لحركة طالبان الباكستانية بعد بضع سنوات فقط من الغزو الأمريكي لأفغانستان في عام 2002. ولم تتم الاستجابة حتى الآن لمطالب إسلام آباد من طالبان بالنأي بنفسها عن حركة طالبان الباكستانية. وتؤكد طالبان أنَّ قضية حركة طالبان الباكستانية هي مسألة داخلية يتعين على باكستان حلها. ويبدو أنَّ الجيش الباكستاني يحاول إثارة المشاعر المعادية للبشتون في مقاطعتي البنجاب والسند من خلال تنفيذ غارات جوية داخل أفغانستان. ويُعتقد أنَّ هذا من شأنه أن يساعد الحكومة المدعومة من الجيش في الحد من شعبية عمران خان في هاتين المقاطعتين الباكستانيتين. فأكثر مقاطعات باكستان اكتظاظًا بالسكان، هي التي يحكمها حزب الرابطة الإسلامية الباكستانية، وحزب الشعب الباكستاني، الحزبان السياسيان المفضلان للجيش الآن.
إنَّ الجنرالات الفاسدين والنخب الحاكمة في باكستان قلقون بشأن المساءلة، ويبدو أنَّ هدفهم الأساسي هو التقليل من تأثير طالبان الأفغانية على الحكم الخالي من الفساد في المجتمع الباكستاني، وخاصة في المراكز السكانية البشتونية.
لقد انتقد نائب رئيس الوزراء الباكستاني ووزير الخارجية إسحاق دار، القيادة السابقة للبلاد بشدة، زاعمًا أنَّ القرارات المتسرعة وغير الرسمية سهلت عودة الآلاف من أعضاء حركة طالبان باكستان. وعزا “دار” إعادة 35000 إلى 40000 مقاتل من حركة طالبان باكستان وعائلاتهم إلى سياسات سيئة، بما في ذلك القرارات التي ورد أنَّها اتُخذت على عجل أثناء تناول “فنجان شاي”. واستشهد بزيارة الجنرال فيض حميد، الرئيس السابق لجهاز المخابرات الباكستاني، إلى أفغانستان بعد وقت قصير من انهيار الحكومة الأفغانية المدعومة من الولايات المتحدة في عام 2021 كنقطة تحول.
على الصعيد الخارجي يستعد الجيش الباكستاني لحِقبة ترامب الثانية بغاراته الجوية في أفغانستان. ويحاول الجيش الباكستاني إيجاد موطنًا للأهمية في اهتمامات السياسة الخارجية لترامب، عبر التحركات العسكرية ضد أفغانستان التي تحكمها طالبان. لقد فعلت القيادة العسكرية الباكستانية كل شيء يتماشى مع إدارة بايدن المنتهية ولايتها؛ بما في ذلك إسقاط حكومة عمران خان.
كيف وصلت العلاقة إلى حد الحرب؟
هناك حدود بطول 2640 كيلومترًا بين أفغانستان وباكستان، تسمى خط ديوراند، والتي حُددت بموجب اتفاق بين الهند البريطانية وأفغانستان عام 1893. لكن حكومة طالبان لا تقبل هذا التقسيم، وتسميه خطًا وهميًّا.
إنَّ خط ديوراند هو خط الحدود الدولية من حدود إيران إلى حدود الصين. رُسم في عام 1893 بموجب اتفاق بين السير هنري مورتيمر ديوراند، وهو موظف مدني بريطاني، وعبد الرحمن خان، حاكم أفغانستان. لقد كان خط ديوراند محل جدال وتنازع بين البلدين منذ أن نالت باكستان استقلالها عن الهند البريطانية في عام 1947. وقد رُسم الخط دون مراعاة العرق أو اللغة أو رغبات السكان القبليين الذين يعيشون على جانبي الحدود.
لقد ساهمت تصرفات الإمبراطورية البريطانية في الأعمال العدائية والمناوشات التي لا تزال قائمة حتى اليوم بين البلدين. ولم تعترف أي حكومة أفغانية بخط ديوراند كحدود لها مع باكستان منذ عام 1947. وقد تصاعدت التوترات الحدودية بين باكستان وأفغانستان إلى درجة غير مسبوقة في أعقاب حالات القتال الأخيرة على طول الحدود.
ويشهد خط ديوراند حوادث متكررة من التفجيرات الانتحارية والضربات الجوية والمناوشات عبر الحدود بشكل يومي تقريبًا. ونتيجة لهذا أيضًا، تحدث اشتباكات متكررة بين باكستان وأفغانستان، ولكن هذه الاشتباكات انخفضت بشكل كبير أثناء وجود القوات الأمريكية في أفغانستان. ففي ذلك الوقت كانت حركة طالبان الأفغانية تحصل على المساعدة من باكستان، والآن السؤال هو، كيف وصلت العلاقة بين باكستان وحركة طالبان الأفغانية إلى نقطة الحرب؟
تبدأ القصة من هنا. ففي سبتمبر 2021، وصل رئيس وكالة الاستخبارات الباكستانية آنذاك، فيض حميد، إلى كابول للاحتفال بالنصر. فبعد 20 عامًا، أُجبرت أمريكا على مغادرة أفغانستان. شوهد حميد وهو يشرب الشاي في فندق خمس نجوم في كابول.
وفي سؤال لصحفي أجنبي، قال إنَّ كل شيء سيكون على ما يرام الآن. شعرت باكستان أنَّها ستدير طالبان الأفغانية بناءً على توجيهاتها، لكن الأفغان لم ينحنوا أبدًا لأي قوة يعتقدون أنَّها أجنبية. تنظر طالبان إلى النظام المدعوم عسكريًّا في باكستان على أنَّه مطية للولايات المتحدة.
وُقع الاتفاق بين الولايات المتحدة وطالبان في العاصمة القطرية الدوحة أثناء إدارة ترامب، وساعدت باكستان في التوصل إلى الاتفاق. لم ترغب إدارة بايدن اللاحقة في التخلي عن أفغانستان تمامًا، ولكنها لم تستطع إلغاء الاتفاق، وأجبر الوضع في أفغانستان الولايات المتحدة على مغادرة البلاد. كان هذا أحد الأسباب الرئيسية وراء إقالة عمران خان من منصبه. ومنذ ذلك الحين بدأت علاقات الجيش الباكستاني مع طالبان في التوتر تدريجيًّا.
السياسة الخارجية المستقلة لطالبان
إنَّ السياسة الخارجية لطالبان بعد تحرير أفغانستان جاءت أكثر انخراطًا مع الجهات الفاعلة الإقليمية الأخرى، وأكثر نضجًا بشكل كبير من فترة حكمها الأولى منذ عام 1996 إلى عام 2001، عندما اعتمدت بالكامل تقريبًا على باكستان في علاقاتها الخارجية. وفي ظل الوضع الجديد لطالبان في كابول، فإنَّ دور باكستان محدود للغاية في تحديد السياسة الخارجية لأفغانستان. لم تقم باكستان حتى الآن علاقات دبلوماسية كاملة مع أفغانستان تحت تحكم طالبان.
مؤخرًا، أخبر وزير الخارجية الأفغاني بالوكالة المراسلين أنَّ الإمارة الإسلامية الأفغانية التي تحكمها طالبان استعادت 39 سفارة وقنصلية في الخارج. قبلت الصين والإمارات وأوزبكستان سفراء جدد عينتهم كابول. ويشكل انخراط حكومة طالبان مع روسيا والهند وإيران وتركيا وكازاخستان وغيرها من الجهات الفاعلة الإقليمية دليلًا على التعامل الذكي مع العلاقات الخارجية.
إنَّ الهند تستفيد بطبيعة الحال من تدهور العلاقات الباكستانية مع أفغانستان، وقد اغتنمت نيودلهي الفرصة لتحسين علاقاتها مع كابول. فقد التقى مولوي أمير خان متقي، القائم بأعمال وزير الخارجية الأفغاني، مؤخرًا بوزير الخارجية الهندي فيكرام ميستري في دبي. وتحدث الطرفان عن المسائل الثنائية، والوضع الأمني في المنطقة، واستمرار المساعدات الإنسانية لأفغانستان. وأكدت الهند عزمها على الاستمرار في مساعدة الشعب الأفغاني في احتياجاته التنموية والإنسانية. وقررت الدولتان استخدام ميناء تشابهار في إيران كوسيلة لتعزيز التجارة. كما عرضت الهند المساعدة لقطاع الصحة. والأهم من ذلك، أظهرت الهند استعدادها للمساعدة في إعادة تأهيل اللاجئين الذين رحلتهم باكستان قسرًا.
الخيارات المتاحة أمام طالبان
إنَّ الناس على جانبي خط ديوراند متماثلون عِرقيًّا وثقافيًّا ودينيًّا، لذا عندما قتل الجيش الباكستاني شعبه عبر الحدود داخل أفغانستان، رأى الناس في أفغانستان هذا بمثابة هجوم على بلدهم، لأنَّهم لا يعترفون بتقسيم خط ديوراند الذي قام به الحكام البريطانيون الاستعماريون.
ولذا فإنَّ الخطاب في أفغانستان ليس أنَّ باكستان تهاجم حركة طالبان الباكستانية، بل إنَّ الأفغان يعتقدون أنَّ باكستان تقتل الشعب الأفغاني داخل أفغانستان. ويرى الأفغان أنَّ هجمات ولاية خراسان التابعة لتنظيم الدولة الإسلامية داخل أفغانستان نفذتها عناصر من التنظيم متمركزة في إقليم بلوشستان الباكستاني المتاخم لأفغانستان، بما في ذلك الهجوم الأخير الذي نفذه التنظيم داخل أفغانستان والذي أسفر عن مقتل وزير اللاجئين الأفغاني، خليل الرحمن حقاني، إلى جانب أربعة آخرين في هجوم انتحاري في كابول.
إنَّ الجيش الباكستاني الذي قتل أشخاصًا في الماضي على حدود البلاد في بلوشستان وخيبر بختونخاو، قتل متظاهرين مناهضين للحكومة في وسط العاصمة إسلام آباد في 26 نوفمبر/تشرين الثاني، وأخفى جثث المتظاهرين القتلى. والآن في باكستان، يُقبض على البشتون ويوضعون في السجن باعتبارهم أفغانًا. ومن خلال هذا يحاول الجيش خلق انقسام بين البشتون وغير البشتون للسيطرة على سياسة البلاد.
إنَّ الجيش الباكستاني، الذي حكم البلاد بشكل مباشر أو غير مباشر، ربما لأول مرة في تاريخه يواجه قضية الشرعية، ويحاول تصوير البشتون، سواء داخليًّا أو خارجيًّا، على أنَّهم تهديد وجودي للبلاد.
إنَّ البشتون الباكستانيين هم من أنصار حزب حركة الإنصاف الباكستاني، والبشتون الخارجيون هم من أفغانستان التي تحكمها طالبان. في الآونة الأخيرة، زار رئيس وكالة الاستخبارات الباكستانية طاجيكستان لمناقشة إحياء جبهة المقاومة الوطنية الأفغانية (NRF)، وهو تحالف عسكري يضم أعضاء سابقين في التحالف الشمالي ومقاتلين آخرين مناهضين لطالبان موالين للحكومة السابقة المدعومة من الولايات المتحدة والتي أطاحت بها طالبان في عام 2021.
وزعم وزير خارجية طالبان المؤقت أمير خان متقٍي، في حديثه في مراسم جنازة الوزير خليل الرحمن حقاني، أنَّه من بين سبع هجمات انتحارية شنتها داعش مؤخرًا، تم التخطيط لِست منها خارج البلاد، مما يشير إلى تورط باكستان. وقد وصل الوضع إلى النقطة التي تستخدم فيها باكستان الآن داعش كأداة للضغط ضد حكومة طالبان في كابول. إنَّ قيادة طالبان في أفغانستان، التي يكاد الجيش الباكستاني يخوض معها حربًا، هي نفسها التي استضافها ودعمها لعقود من الزمان.
الخلاصة
إنَّ قيادة طالبان تفهم تمامًا الوضع السياسي الهش الحالي في باكستان، وتدرك جيدًا أولويات الجيش الباكستاني ووكالة استخباراته نظرًا لعلاقتها الممتدة معهما. إنَّ العوامل الداخلية والخارجية التي توجه سياسة باكستان الجديدة في أفغانستان، والقائمة على سياسة العصا والجزرة ليست مستدامة، وفي نهاية المطاف سوف يتعين على الطرفين التوصل إلى اتفاق. وتنتظر حركة طالبان الإدارة الثانية لترامب في البيت الأبيض، والسياسة الأفغانية الباكستانية التي يعتزم تبنيها. وهناك اعتبار آخر وهو أنَّ تغيير الحكومة في باكستان، وخاصة عودة عمران خان إلى السلطة، من شأنه أن يؤدي إلى تحول كامل في السياسة الأفغانية الحالية في باكستان.