تحليلات

تعزيز الانقسامات: جدل تجنيد الحريديم في إسرائيل

“الوطن كله جبهة، والشعب كله جيش” ساد هذا الشعار بين الإسرائيليين قبل أن يتصاعد الجدل بشأنه على وقع طوفان الأقصى. فعقب أحداث 7 أكتوبر 2023، قررت حكومة نتنياهو استدعاء 360 ألف جندي من قوات الاحتياط للانخراط في القتال بجوار القوات النظامية البالغ عددها 170 ألف جندي.

عمليًّا دخل الجنود معركة تجاوزت سبعة شهور حاليًّا، وهي فترة خدمة احتياطية غير مسبوقة منذ حرب أكتوبر 1973، التي كانت الحرب الأخيرة التي حُشدت فيها قوة الاحتياط بأكملها. ففي كافة الحروب اللاحقة بما في ذلك حربي لبنان الأولى والثانية، وجولات القتال في قطاع غزة والعمليات العسكرية في الضفة الغربية، لم يُحشد سوى جزء من قوة الاحتياط. وبالتالي ظلت توجد قوات احتياط بديلة تتقاسم عبء الخدمة العسكرية مع القوات المشاركة في المناوبات الأولى، وهو ما يُفتقد بدرجة ملموسة في الحرب الحالية.

مع استمرار القتال في غزة تكبد جيش الاحتلال قرابة 650 قتيلًا، فضلًا عن إصابة عدة آلاف حتى منتصف مايو 2024، كما يحتاج عددًا كبيرًا من الجنود لتمشيط المناطق التي يدخلها في غزة، ولتعزيز قواته على الجبهة الشمالية مع تزايد احتمالات شن عملية عسكرية برية في لبنان، فضلًا عن حاجته بعد انتهاء الحرب للاحتفاظ بأعداد أكبر من الجنود بشكل مستمر على الحدود مع لبنان ومع غلاف غزة بهدف استعادة الشعور بالأمن لدى المستوطنين، وهذا بخلاف القوات المطلوبة لإحكام السيطرة على الضفة الغربية. وبحسب مستشار الأمن القومي الإسرائيلي السابق والذي خدم مديرًا للتخطيط في الجيش، جيورا أيلاند في دراسة نشرها بعنوان “المفهوم الأساسي للموارد البشرية في هيكل الجيش الإسرائيلي”، فالشكل النموذجي لجيش الاحتلال هو تشكيل ثلاثة أو أربعة ألوية احتياط مقابل كل لواء نظامي بالخدمة.

دفعت تلك المتطلبات وزير الدفاع غالانت للتصريح بأنَّ (إسرائيل لم تشهد مثل هذه الحرب منذ 75 عامًا، مما يتطلب إقرار تعديلات على قانون التجنيد، تشمل تمديد خدمة القوات النظامية وقوات الاحتياط)، وهو ما أثار الجدل حول ضرورة تجنيد كافة مكونات المجتمع اليهودي في إسرائيل بما في ذلك اليهود المتدينين “الحريديم”، في المقابل سعى نتنياهو لإقرار مشروع قانون يستثني الحريديم من الخدمة العسكرية، ويزيد مدة الخدمة الإلزامية من 32 شهرًا إلى 36 شهرًا، وهو ما جوبه برفض واسع حيث صرح زعيم المعارضة يائير لابيد أنَّه في حالة عدم تجنيد الحريديم فلا يوجد حق في إطالة فترة خدمة قوات الاحتياط، مضيفًا أنَّه في حال تجنيد 66 ألف شاب من الحريديم فإنَّ الجيش سيحصل على 105 كتيبة جديدة.

جيش الشعب

عقب الإعلان عن تأسيس إسرائيل في عام 1948، رأى ديفيد بن غوريون أول رئيس وزراء للاحتلال أنَّ هناك تباينًا كبيرًا بين عدد المستوطنين البالغ آنذاك 650 ألفًا، وبين جيرانهم العرب في دول الجوار يصل إلى نسبة عشرين إلى واحد، وخلال القتال جرت تعبئة ما يقرب من 30% من القوى العاملة الإسرائيلية، وكانت النتيجة انخفاض القومي الإجمالي بأكثر من 12% بحسب ستيوارت كوهين في كتابه “الخدمة الإلهية“.

اقتنع ديفيد بن غوريون بأنَّ الدول العربية تستعد لجولة ثانية من الحرب، وأصر على الحاجة إلى إعداد كل رجل وامرأة للقتال في وقت الحاجة، وقدم مشروع قانون الخدمة العسكرية، الذي أدخل التجنيد الإجباري، للكنيست ليصبح قانونًا في عام 1949 ليحدد مدة الخدمة الإلزامية بداية من عمر 18 عامًا بسنتين للرجال وسنة واحدة للنساء.

وقد قُدم التجنيد الإجباري والخدمة الإلزامية في الاحتياط على أنَّهما أداة هامة للهندسة الاجتماعية عبر صهر المجتمع الاستيطاني الذي قدمت مكوناته من بلاد مختلفة من شرق أوروبا وغربها، ومن دول عربية وإسلامية، ولتغيير النظرة السلبية تجاه المؤسسة العسكرية التي تكرست خلال قرون الشتات، فيقول بن غوريون (نحن مدعوون إلى تغيير نظرة المهاجرين، الذين اعتادوا رؤية الجيش في بلدهم الأصلي، على أنَّه العدو الظالم، لينظروا إلى جيش إسرائيل على أنَّه الحامي لهم).

مر قانون الخدمة العسكرية بعدة تعديلات لفترات الخدمة وفق الاحتياج العملي. فبعد احتلال القدس الشرقية والضفة الغربية وقطاع غزة والجولان وسيناء في حرب 1967، أصبح هناك احتياج لجيش أكبر عدديًّا؛ لتغطية المساحات الكبيرة المحتلة فامتدت الخدمة العسكرية في عام 1968 لتصبح ثلاث سنوات للرجال وسنتين للنساء، ثُمَّ مع تراجع خطر الحروب مع الدول العربية عقب اتفاقات السلام مع مصر والأردن، قصرت تعديلات صدرت في عام 2014 مدة الخدمة الإلزامية لتصبح 32 شهرًا للرجال و24 شهرًا للنساء، لكن حافظ قانون التجنيد على جوهره المتمثل في التجنيد الإلزامي للمواطنين اليهود مع استثناء العرب المسلمين، والاعتماد على قوات الاحتياط في أوقات الحرب. وقبيل طوفان الأقصى أثيرت مجددًا مسألة تخفيض فترة الخدمة النظامية لتقليل الأعباء الاقتصادية، كما دعت بعض الأصوات للاعتماد على جيش متطوع بالكامل، محدود العدد، مع تعويض تخفيض العدد بأسلحة متطورة تقنيًّا.

إعفاء الحريديم

رغم رفع شعار “جيش الشعب” فإنَّه في عام 1948 التمس الحاخام إسحاق ليفين من رئيس الوزراء بن غوريون، المسؤول عن وزراء الدفاع آنذاك، إعفاء 400 فرد من طلاب الدوام الكامل في المدارس الدينية من الخدمة العسكرية، ووافق بن غورين نظرًا لقلة العدد واعتبر أنَّ الحريديم سيذوبون في ثقافة المجتمع الصهيوني الجديد الذي انتشرت فيه التوجهات اليسارية والأفكار العلمانية.

تحول الاستثناء إلى قانون يمنح وزير الدفاع حق إعفاء المواطنين من الخدمة العسكرية لأسباب يراها، وهو ما شمل طلاب المدارس الدينية. وتشكلت الخلفية التاريخية لهذا القرار وفق حجة مفادها أنَّ المدارس الدينية ليهود أوروبا تعرضت للتدمير على يد النازيين في الحرب العالمية الثانية، وأنَّ إعفاء طلاب المدارس الدينية من الخدمة العسكرية الإجبارية إجراء مهم لإنقاذ المكون الثقافي والتاريخي للمجتمع اليهودي.

ولكن في غضون عقود توسع نطاق الإعفاء مع زيادة عدد السكان الحريديم حيث يبلغون حاليًّا 12% من اليهود في إسرائيل، وظهر جدل مجتمعي يزداد في أوقات الحروب، حيث اعتبر العلمانيون أنَّ الحريديم يعيشون عالة على المجتمع اقتصاديًّا، كما يستفيدون بمظلة الحماية العسكرية دون أن يساهموا في دفع الثمن، كما جادلوا بأنَّ عددًا قليلًا من طلاب المدارس الدينية لديهم القدرة العقلية على دراسة التوراة بدوام كامل على مدار سنوات طويلة متواصلة.

في عام 1998، اعتبرت المحكمة العليا أنَّ إعفاء الحريديم من التجنيد غير قانوني. واستندت في قرارها إلى أنَّ وزير الدفاع لا يملك صلاحية إعفاء جميع طلاب المدارس الدينية، إنما يملك منح الإعفاءات على أساس فردي فقط. وكان يفترض أن يؤدي قرار المحكمة إلى التجنيد الفوري لجميع طلاب المدارس الدينية، لكن المحكمة علقت صلاحية تنفيذ الحكم لمدة عام واحد من أجل السماح للحكومة بتنظيم ترتيب بديل ضمن قانون جديد.

تشكلت لجنة حكومية أوصت بأن يستمر طلاب المدارس الدينية في الحصول على إعفاء من الخدمة العسكرية، على أن يختار الطلاب بعد أربع سنوات من الدراسة في المدرسة الدينية أي في السنة الخامسة “تُسمى سنة القرار” التجنيد أو مواصلة الالتحاق بالمدرسة الدينية وعدم التجنيد، وصدر قانون من الكنيست باعتماد توصية اللجنة في قانون يطبق بعد خمس سنوات من تاريخ صدوره، مع صلاحية تمديده لمدة خمس سنوات أخرى.

في عام 2012، قضت المحكمة العليا، بأنَّ تأجيل قانون الخدمة العسكرية غير دستوري. وفي عام 2014، أقر الكنيست تعديلًا آخر للقانون مما سمح لوزير الدفاع بمواصلة منح إعفاءات من التجنيد، وهو ما أبطلته الحكمة العليا مجددًا في 2017 لتظل قضية تجنيد الحريديم عالقة.

ممانعة الحريديم للتجنيد

تبنى المجتمع الحريدي منظورًا تجاه التجنيد العسكري يستند إلى حجج دينية مفادها:

  • لا يمكن قياس بقاء دولة إسرائيل -بعد تأسيسها- من الناحية المادية فقط، فالنصر والهزيمة لا ينتجان عن مجهودات البشر فقط، إنما هما انعكاس لرضا الله وسخطه، وتحقيق رضا الله هو الذي يكفل الحماية الإلهية، وانتصار 1967 لم يكن بسبب جهود الجيش وتسليحه، إنما كان نصرًا سماويًّا بالدرجة الأولى، وبالتالي فإنَّ دراسة التوراة تحمي إسرائيل بدرجة أكبر من الخدمة العسكرية، ولذا لا يوجد مبرر لترك المدرسة الدينية من أجل الخدمة في الجيش.
  • الرجال اليهود ملزمون باستثمار كل وقتهم في دراسة التوراة، وهو أمر مستحيل تحقيقه في حال تجنيدهم في الجيش.

فيما تتبنى قطاعات من الحريديم رؤية أكثر تشددًا خلاصتها:

  • إنَّ قيام دولة إسرائيل واستمرار وجودها يصادم تعاليم التوراة التي تحظر على الشعب اليهودي فرض سيادته مجددًا على أرض إسرائيل حتى نزول المسيح المخلص مجددًا.
  • يقود إسرائيل يهود يتمردون على الشريعة اليهودية مما يحظر التعاون مع الدولة، بما في ذلك الخدمة في الجيش للدفاع عن وجودها.

وتعود جذور تلك المعتقدات الحريدية إلى فترة الشتات اليهودي، ففي القرنين التاسع عشر والعشرين اختار العديد من اليهود الاندماج في الدول القومية التي عاشوا فيها، وتبنوا العلمانية دون الالتزام بأحكام التوراة، بينما في المقابل حافظ الحريديم على دراسة التوراة باعتبارها شريان الحياة المستقبلي لإسرائيل الموعودة، واعتبروا أنَّ دراستها ستكفل لهم الأمان الجسدي على الأرض والخلاص الروحي في السماء. ولذا يرون أنفسهم كحراس للديانة اليهودية، واستثمروا تأسيس دولة الاحتلال في توسيع نطاق المؤمنين بأفكارهم، فاعتمدوا على المدارس الدينية التي تعد بمثابة بوتقات للتنشئة الاجتماعية والتلقين، وحصلوا على امتيازات من الحكومات المتتالية، من أبرزها تمويل أنشطة المدارس، وإعفاء الطلاب من الخدمة العسكرية، وهو ما يشمل الطلاب الذين يسجلون في تلك المدارس دون أن يلتزموا بالحضور.

كذلك يحرص “الحريديم” على عزل أنفسهم قدر الإمكان عن تأثير الثقافة الغربية الحداثية التي يعتبرونها مدمرة، فلا يشاهدون القنوات الفضائية ولا يقرؤون الصحف العلمانية، ويعيش معظمهم في أحياء منفصلة، ويرتدون ملابس تميزهم عن بقية المجتمع. ويخشون من تعرض شبابهم في حال الخدمة العسكرية للثقافة العلمانية، ما من شأنه أن يغير مجتمعهم ويقوض وجوده المستقبلي.

تكريس الانقسام

لقد حاول جيش الاحتلال إزالة مخاوف الحريديم عبر تدشين وحدات عسكرية خاصة مثل كتيبة نتساح يهودا ” أي يهودا الخالدة” التي تشكلت في عام 1999، حيث تراعي قواعد الاحتشام اليهودية التي تقوم على الفصل بين الجنسين، وتتيح للحريديم الحفاظ على ثقافتهم وأسلوب حياتهم بما في ذلك التقيد الصارم بالطعام الحلال، وتجنب إجراء تدريبات في أيام السبت والأعياد الدينية. مع العلم بأنَّ كتيبة نتساح يهودا ارتكبت العديد من التجاوزات في الضفة الغربية مما دفع إدارة بايدن في إبريل 2024 للتلويح بفرض عقوبات عليها، لكنها تراجعت إثر تنديد نتنياهو وقيادة جيش الاحتلال بالخطوة الأمريكية.

كذلك طرح العلمانيون استثناء طلاب المدارس الدينية المميزين فقط من التجنيد كما يحدث مع الرياضيين المتميزين، دون استثناء كافة الطلاب، لكن الحريديم يرفضون ذلك معتبرين أنَّ التجنيد قضية حياة أو موت، ولذا هدد زعيم اليهود الحريديم الشرقيين إسحاق يوسف في مارس 2024 بهجرة الحريديم خارج إسرائيل في حال فرض التجنيد الإجباري على طلاب المدارس الدينية.

إنَّ الحريديم لم يعودوا أقلية في المجتمع الإسرائيلي، والإعفاء الأول الذي تم لأربعمائة طالب شكلوا أقل من 0.07% من اليهود في إسرائيل في عام 1948 تحول إلى إعفاء للقطاع الحريدي الذي يتوقع أن يشكل ثلث اليهود في إسرائيل خلال العقود الثلاثة المقبلة بمعدل مواليد هو الأكبر من نوعه إذ يبلغ سبعة أطفال لكل امرأة حريدية، وبالتالي أصبح تجنيد الحريديم ملفًا يصعب تجاوزه، مما يزيد من الانقسامات في المجتمع الإسرائيلي بين اليمين واليسار، والعلمانيين والمتدينين الأصوليين، ويلقي بتبعاته على الجيش الذي تحولت الخدمة به لأداة للاستقطاب بدلًا من كونها أداة للانصهار المجتمعي، فيما تشعر قطاعات علمانية واسعة من المجتمع بأنَّها تدفع الثمن من حياتها وأموالها من أجل آخرين لا يقدمون للمجتمع فائدة ملموسة، بينما يكافح نتنياهو لإرضاء الجيش مع الحفاظ على الأحزاب الحريدية ضمن ائتلافه الحكومي، وهي معادلة يبدو أنَّها وصلت إلى نهايتها على وقع طوفان الأقصى الذي أشعل فتيل الخلافات الكامنة داخل المجتمع الإسرائيلي.

أحمد مولانا

ماجستير علاقات دولية، باحث في مجال الدراسات الأمنية والسياسية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى