تحليلات

النيجر تضع حدًّا للوجود الأمريكي على أراضيها

ما الذي ينتظر واشنطن في الأفق؟

أعلن المتحدث باسم المجلس العسكري الحاكم في النيجر الكولونيل “أمادو عبد الرحمن” في 16 مارس 2024 أنَّ المجلس ألغى بأثر فوري الاتفاقية العسكرية مع الولايات المتحدة، التي تسمح بوجود عسكريين وموظفين مدنيين من وزارة الدفاع الأمريكية على أراضي البلاد. وجاء القرار عقب زيارة وفد أمريكي رفيع للنيجر قبل أيام، على رأسهم مساعدة وزير الخارجية الأمريكي للشؤون الإفريقية “مولي في”، وقائد القيادة الأمريكية في إفريقيا الجنرال مايكل لانغلي، ناقش فيها الوفد عددًا من الملفات أبرزها مخاوف واشنطن من تقارب نيامي مع موسكو وطهران، وبقي الوفد الأمريكي في نيامي ثلاثة أيام لم يتمكن خلالها من لقاء الجنرال عمر عبد الرحمن تشياني قائد المجلس العسكري.

طبيعة التواجد الأمريكي

إلى الجنوب من مدينة أغاديز، تكمن إحدى أكبر القواعد الجوية العسكرية الأمريكية في القارة، وأكبر قواعد الطائرات دون طيار الخارجية، وهي القاعدة 201 التي تفوق في حجمها وتجهيزاتها قاعدة الظفرة الجوية في الإمارات. وقد دخلت الخدمة في عام 2016 وتضم نحو 1100 عسكري أمريكي، وتقدر تكلفة تأسيسها وتطويرها بنحو 250 مليون دولار، وهي جزء من الشبكة المتنامية من المواقع والقواعد العسكرية الأمريكية في القارة، التي تضم نحو 8000 جندي ومدني أمريكي.

تتبنى واشنطن مقاربة معنية بإنفاذ أجندتها الأمنية بالدرجة الأولى، حيث تضع على قائمة أولوياتها هدف محاربة نشاطات مجموعات التمرد الجهادية وشبكاتها المحلية والعابرة للحدود، وهي تعتمد على انتشارها العسكري “الخفيف” في أكثر من 14 موقعًا عسكريًّا لتعزيز قدرتها على مراقبة بؤر التوتر المنتشرة على امتداد القارة، من القرن الإفريقي مرورًا بالساحل وصولًا إلى غرب إفريقيا، وهو ما عبر عنه الملازم أنتوني فالفو، المتحدث باسم أفريكوم في تصريح عام 2016 قائلًا: “يعتمد وجودنا الاستراتيجي في إفريقيا على مفهوم البصمة المرنة والخفيفة التي تعزز وتدعم شركاءنا ووجودهم وتدعم البنية التحتية الاستكشافية”.

في عام 2019 وضمن استراتيجية البنتاغون لتوسيع نطاق مهام المراقبة والاستطلاع في منطقة حوض بحيرة تشاد المضطربة وبؤر التوتر في منطقة الساحل وليبيا ونيجيريا، بدأت قيادة أفريكوم بإجراء تغييرات ملحوظة على طبيعة تواجدها في النيجر، حيث استبدلت القوات الخاصة المنتشرة في البلاد تدريجيًّا بضباط من وكالة الاستخبارات الدفاعية، أي جهاز الاستخبارات العسكرية الأمريكية.
تمثل قاعدة أغاديز عقدة مهمة في شبكة المواقع العسكرية الأمريكية الممتدة بين عشْر دول على الأقل، حيث يربط موقع النيجر الجغرافي بين 7 دول تمثل منافذ على شمال وغرب ووسط إفريقيا، ويمنح هذا الموقع الاستثنائي مدى وصول كبير وعميق للقوات الأمريكية. وتعمل القاعدة 201 التي تستضيف طائرات دون طيار من طراز MQ-9 Reaper وMQ-1 Predators وطائرات تجسس من سرب الاستطلاع 323 وطائرات C17، كمركز رئيسي لعمليات الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع ضد الجماعات الجهادية في المنطقة.

مواقف مرتبكة

تُعدُّ النيجر أكبر متلقي للمساعدات العسكرية ومساعدات التنمية من وزارة الخارجية الأمريكية في دول غرب إفريقيا، لكن عقب الانقلاب العسكري على الرئيس الأسبق محمد بازوم في 26 يوليو 2023، علقت الولايات المتحدة عددًا من برامج المساعدات للنيجر، بما في ذلك تمويل التعليم والتدريب والإمداد العسكري.

رغم موقفها الرافض للانقلاب، فإنَّ إدارة الرئيس بايدن ترددت في وصف أحداث 26 يوليو بالانقلاب -حتى العاشر من أكتوبر-، ودعت إلى التفاوض وحل الخلاف عبر الدبلوماسية، كما أعلنت تعيين “كاثلين فيتزجيبون” سفيرة في النيجر، وهي واحدة من كبار المتخصصين في شؤون إفريقيا في واشنطن، وحث وزير الخارجية بلينكن خلال لقائه بعدد من قادة دول الإيكواس (المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا) على تجنب صراع قد يمتد إلى بقية المنطقة، ضمن خُطوات عدتها باريس مؤشرًا على “تساهل” واشنطن مع الانقلابيين.

وفيما تبنت القوى الغربية الأوروبية موقفًا حادًا من الانقلابيين وشجعت دول الإيكواس على التدخل العسكري، اختارت واشنطن اتباع نهج أكثر تأنيًّا، حرصًا على عدم الإضرار بوجودها الاستراتيجي في النيجر وعرقلة سير عمليات مكافحة الإرهاب، لكن في 10 أكتوبر 2023 أعلنت الإدارة رسميًّا أنَّ ما حدث في النيجر كان انقلابًا، وقالت المتحدثة باسم البيت الأبيض إنَّ القرار اتخذ “لأنَّنا استنفدنا كل السبل المتاحة للحفاظ على النظام الدستوري في النيجر”.

استدركت “مولي في”، مساعدة وزير الخارجية الأمريكي للشؤون الإفريقية، إعلان الإدارة بتصريحها بأنَّ “الولايات المتحدة تعتزم استئناف التعاون الأمني والتنموي، بمجرد الاتفاق على الانتقال السريع إلى الحكم المدني وإطلاق سراح الرئيس المخلوع بازوم.”، وعبر المسؤولون الأمريكيون في زياراتهم التي تلت إعلان الإدارة عن رغبتهم في استمرار التعاون الأمني مع النيجر، التي أصبحت أكثر أهمية للاستراتيجية الأمريكية لمكافحة الإرهاب منذ الانقلاب في مالي قبل ثلاثة أعوام وانحياز السلطة الجديدة إلى موسكو.

إنَّ تذبذب واشنطن بين الاعتبارات الأمنية الاستراتيجية والحسابات الدبلوماسية، وغياب نسق واضح ومحدد للموقف من السلطة الجديدة أربك العلاقة والقدرة على التواصل مع قيادة الانقلاب في نيامي، كما أنَّ توظيف واشنطن لملف المساعدات التنموية والعسكرية في الضغط للتحول نحو الحكم المدني والإفراج عن الرئيس المعزول، وأخيرًا التحذير من التقارب مع موسكو وطهران، أدى إلى فتور العلاقة وتآكل الثقة تدريجيًّا.

سلوك واشنطن “التقليدي” قد يشير إلى عدم استيعاب الدبلوماسية الأمريكية لظروف المنطقة الجديدة أو عجزها عن صياغة سياسات لمواكبتها، حيث يمر المشهد الإفريقي -في سياق التحولات الدولية- بتحولات نوعية بدءًا من صعود قيادات عسكرية مناوئة للغرب وتصاعد الحس الشعبي الرافض للتواجد الأجنبي الغربي، وتزايد نشاط مجموعات التمرد والجماعات الجهادية وتمددها محليًّا، وأخيرًا تراجع مركزية السلطة وانتشار السلاح في عدد من دول القارة على خلفية تعدد النزاعات وتنامي معدل التدخلات الدولية والإقليمية.

تهديد ثلاثي

ربما التحدي الأبرز الذي يجب أن يشغل واشنطن هو “انتهازية” موسكو، التي تتربص بأي خرق أو توتر في العلاقات مع واشنطن والغرب عمومًا لزيادة مساحات تأثيرها في المشهد الإفريقي، وقد نجحت موسكو سابقًا في استغلال التحولات الجيوسياسية في حالات مشابهة في مالي وبوركينا فاسو لإيجاد موطئ قدم وتعزيز حضورها العسكري والسياسي، وهي تُعدُّ الشريك الأمني الأول لواجادوجو وباماكو. ومؤخرًا تمكنت موسكو من عقد اتفاقية دفاعية جديدة مع النيجر، وقد تعهدت الدول الثلاث بتعزيز التعاون في إطار تحالف أمني جديد.

على الجهة الأخرى يبرز النشاط الإيراني في القارة كتحدي صاعد أمام واشنطن، حيث كثفت طهران من نشاطها الدبلوماسي في الشرق والغرب الإفريقي منذ قدوم إبراهيم رئيسي لمقعد الرئاسة في 2021. وذلك للخروج من عزلتها والحد من أثر العقوبات، ولعقد شراكات أمنية واقتصادية مثمرة تدعم اقتصادها الوطني وطموحها الإقليمي.

أبرز ملامح النشاط الإيراني المتصاعد كانت جولة رئيسي في يوليو 2023 إلى كينيا وأوغندا وزيمبابوي وزنجبار، ثُمَّ إعادة العلاقات السودانية الإيرانية في أكتوبر 2023، وجهود وزير الخارجية “حسين أمير عبد اللهيان” المستمرة لتفعيل الشبكة الدبلوماسية الإيرانية في إفريقيا ولقاءاته بقيادات الانقلاب في مالي وبوركينا فاسو، وأخيرًا استقبال رئيس وزراء النيجر “علي لامين زين” في طهران، التي بحث فيها الجانبان تكثيف التعاون العسكري والتجاري، والتنقيب عن اليورانيوم، وسبل تخفيف وطأة العقوبات المفروضة على النيجر. وهي خطوات من شأنها أن تفتح أمام طهران ساحات جديدة للتأثير السياسي وتعزيز قوتها الناعمة، وزيادة صادراتها العسكرية، وربما حتى إيجاد موطئ قدم في مواقع استراتيجية.

إنَّ تحدي بكين لا يقل خطورة عن التحدي الذي تفرضه موسكو وطهران، لكنه تحدي من نوع آخر، إذ تتبنى بكين مقاربة اقتصادية أقل حدة وأكثر دبلوماسية، كجزء من مبادرة الحزام والطريق التي أطلقها الرئيس الصيني شي جين بينغ، التي تُعدُّ حجر الزاوية في السياسة الخارجية الصينية القائمة على تقديم القروض لمشاريع البنية التحتية الكبرى في الدول النامية، والاستثمار في البنية التحتية والخدمات الاجتماعية مثل التعليم والرعاية الصحية، وهي مقاربة غير مقيدة باشتراطات سياسية.

لا يقتصر تحدي تنامي تأثير بكين على الجانب الاقتصادي والتنموي، إذ عزَّزت في السنوات الأخيرة دعمها اللوجستي للعديد من الدول الإفريقية من خلال توفير معدات عسكرية وبحرية لدول مثل الجابون، موريتانيا، تنزانيا، وجيبوتي التي توجد فيها قاعدة بحرية صينية.

وهو ما دفع واشنطن لإطلاق برامج التعاون الأمني البحري في إفريقيا لمواجهة نفوذ بكين، حيث يعمل البنتاغون ووكالة التعاون الأمني الدفاعي، على تجهيز أكثر من اثنتي عشرة وكالة للأمن البحري في جميع أنحاء القارة ضمن مشروع المبيعات العسكرية الأجنبية (FMS) لتزويد وكالات الأمن البحري الإفريقية بمعدات المراقبة الساحلية، وتحديدًا القوارب العسكرية؛ حرصًا منها على عدم تفوق الصين في مسائل التعاون العسكري في إفريقيا.

تداعيات استراتيجية

إنَّ إعلان المجلس العسكري في النيجر عن إنهاء الاتفاقية العسكرية مع واشنطن يُعدُّ تطورًا جيوسياسيًّا نوعيًّا ستكون له تداعيات سلبية على حضور واشنطن في القارة، فضلًا عن تداعياته المباشرة على عمليات القوات الأمريكية الاستخباراتية واستراتيجية مكافحة الإرهاب في منطقة الساحل والغرب الإفريقي. ورغم إجراء البنتاغون عدة مباحثات لإنشاء قواعد جوية جديدة مع عدة دول ساحلية في غرب إفريقيا، فإنَّ المحادثات لا تزال في مراحلها الأولى، وهي مشاريع يراد لها أن تكون داعمة للوجود في النيجر وليست بديلة عنه.

إنَّ خسارة النيجر كمركز انطلاق لعمليات الأفريكوم ووكالة المخابرات المركزية -التي تملك بدورها قاعدة عمليات لتشغيل طائرات دون طيار في منطقة ديروكو شمال النيجر-، ستترك فراغًا أمنيًّا كبيرًا من المحتمل أن يؤثر في الأوضاع الأمنية في دول جوار النيجر ودول بحيرة تشاد التي يشهد عدد منها اضطرابات أمنية ونزاعات مستمرة، فضلًا عن تداعيات ذلك على استقرار الأنظمة والحكومات الحليفة لواشنطن.

وبالإضافة لوقعه على الاستراتيجية الأمريكية والحالة الأمنية في المنطقة، فإنَّ هذا التطور قد يكون له تأثير على سلوك واشنطن السياسي تجاه دول إفريقية أخرى، إذ قد يدفعها لتبني سياسات أكثر حذرًا ويحد من قدرتها على ممارسة الضغوط السياسية على حكومات المنطقة لاستبقاء علاقاتها الحاليّة وكسب الأصدقاء، خصوصًا في ظل ما تواجهه من تحديات حول العالم، وما تواجهه من مزاحمة من قوى دولية وإقليمية من شرق إفريقيا إلى غربها.

في ظل التطورات الجيوسياسية والأمنية الكبيرة في المنطقة العربية والإفريقية، وتعدد بؤر التوتر حول العالم وما أفرزته من لامركزية الفعل والسلاح، وصعود تأثير أطراف غير حكومية في المشهد الدولي والإقليمي، وصعود توجهات بالابتعاد عن الفضاء الغربي، يبرز السؤال عن مدى قدرة واشنطن على مواكبة هذه التطورات النوعية، ومدى قدرتها على تطوير سياسات قادرة على احتواء هذه المتغيرات والحفاظ على مكتسباتها في المنطقة، وعن تأثير هذه التطورات في تشكيل العقل السياسي الإفريقي وتصوراته لمستقبل العلاقات مع الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية.

يوسف لطفي

كاتب ومحلل سياسي متخصص في الشأن الأفريقي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى