تحليلات

استراتيجية إسرائيل في سوريا: تل أبيب تكبد طهران تكاليف باهظة

ردًا على هجوم طوفان الأقصى الذي نفذته حماس في 7 أكتوبر الماضي، شددت إسرائيل حصار قطاع غزة كخطوة أولى ثُمَّ تبعته بشن عملية عسكرية برية، وهذا لم يؤثر في فلسطين فقط، بل وضع المنطقة بأكملها في دوامة من الصراع والتوتر. فبينما تشن الولايات المتحدة والمملكة المتحدة غارات جوية في اليمن ردًا على استهداف الحوثيين للسفن التجارية في المنطقة، تجري في لبنان وسوريا مجموعة من الإجراءات المتبادلة بين إسرائيل وأذرع إيران في المنطقة. كما تحولت الحدود اللبنانية الإسرائيلية إلى خط جبهة مشتعل يشهد هجمات متبادلة من قبل حزب الله والجيش الإسرائيلي. وعكست كثافة الهجمات التفوق التقني للقدرات الجوية والبرية للجيش الإسرائيلي.

ووَفقًا لبيانات معهد واشنطن لشؤون الشرق الأدنى التابع لإيباك، نفذت إسرائيل ما لا يقل عن ضعف عدد الهجمات التي نفذها حزب الله ودمرت العديد من النقاط العسكرية التابعة للحزب، وبحسب بيانات المصادر المفتوحة، قتلت إسرائيل ما لا يقل عن 190 من مقاتلي حزب الله مقابل مقتل 18 إسرائيليًّا. إنَّ عملية الصراع المشتعلة على طول الحدود بين إسرائيل وحزب الله تتضمن هجمات متبادلة بين الطرفين على عكس الوضع في سوريا حيث تُنفذ الهجمات في الغالب من جانب واحد. إذ تستهدف إسرائيل قوات النظام والميليشيات المدعومة من إيران في سوريا بزخم متزايد منذ عام 2018، وواصلت هذه الاستراتيجية أيضًا في عام 2023.

لقد دفع طوفان الأقصى حكومة نتنياهو، التي لم تكن تريد أن يمتد الصراع إلى منطقة خارجة عن سيطرتها، إلى شن هجمات “وقائية” في سوريا. حيث تكثفت الضربات الجوية الإسرائيلية بعد 7 أكتوبر 2023، ووُجهت رسائل حازمة إلى دمشق وطهران بدلالة الأهداف الاستراتيجية التي اُستهدفت. في الفترة ما بين يناير 2023 ويناير 2024، ضُرب ما يقرب من 300 هدف في حوالي 100 موقع داخل سوريا من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي. وركزت نحو نصف الضربات على دمشق وريفها، فيما كانت الأهداف المتبقية في محافظات طرطوس وحماة وحمص ودير الزور والقنيطرة والسويداء ودرعا وحلب. وهذا يظهر أنَّه حتى في حال التركيز على الأهداف في العاصمة في أغلب الأحيان، إلا أنَّ تل أبيب تتبع استراتيجية هجومية تشمل كل سوريا تقريبًا.

لقد ضربت تل أبيب، التي تزايد عدوانها بعد 7 أكتوبر، أهدافًا تابعة للحرس الثوري الإيراني، والميليشيات التابعة له وحزب الله وفيلق القدس، وفي نفس الوقت استهدفت أيضًا وحدات الحرس الجمهوري التابعة لنظام الأسد. فبجانب مستودعات الأسلحة والذخيرة والمقرات العسكرية، استهدفت قادة العديد من المليشيات بضربات دقيقة. وبشكل عام برز مطار دمشق، ومطار حلب، وحي السيدة زينب في دمشق، وريف القنيطرة، والبوكمال في دير الزور باعتبارها المناطق الأكثر تضررًا.

المعاني الاستراتيجية للاستهدافات الجديدة

استهدفت إسرائيل مطاري دمشق وحلب بشكل متقطع في السنوات السابقة، لكن في الأشهر الأربعة الماضية تعرض كلا المطارين لقصف متكرر جعل منشآتهما ومرافقهما غير صالحين لاستخدام النظام وإيران. لقد أرسلت إسرائيل، من خلال ضرب هذه المنشآت بشكل فوري بمجرد إصلاحها وعودتها إلى الخدمة، رسالة واضحة باعتبارهما الخيارين الأساسيين لعمليات نقل الأسلحة والعتاد من طرف الحرس الثوري إلى سوريا. وتزامنا مع زيارة وزير الخارجية الإيراني أمير عبد اللهيان إلى سوريا، قُصِفت المطارات المذكورة، ما منع طائرة أمير عبد اللهيان من الهبوط في سوريا. وعلى إثر هذا التطور، اضطر الوزير الإيراني الدخول إلى سوريا عبر الحدود البرية اللبنانية السورية.

لقد كانت تلك الحَمْلَة التي بدأت في منتصف أكتوبر، من بين الخطوات الأولى لاستراتيجية إسرائيل المصممة لجعل وصول إيران لسوريا مكلفًا. فكبداية أدى استمرار الضربات بشكل كثيف في مطاري دمشق وحلب إلى توجيه إيران إلى مطار اللاذقية، لكن نتيجة لطلب نظام دمشق من طهران تجنيب تحول مطار اللاذقية إلى هدف، أفادت التقارير أنَّ الحرس الثوري بدأ في استخدام مطار تدمر العسكري الذي تسيطر عليه روسيا، وهو ما يضعف طهران أمام موسكو.

وفي خط السويداء-درعا، لم تستهدف إسرائيل المواقع التابعة للنظام والقوات المدعومة من إيران فحسب، بل استهدفت أيضًا بطاريات أنظمة الدفاع الجوي المتمركزة في المنطقة. وخلال هذه الفترة أيضًا، أرسل الهجوم المسلح المجهول على موكب محافظ درعا رسالة مفادها أنَّ الموساد يستغل أجواء الفوضى في درعا. إنَّ عدم قدرة النظام على السيطرة الكاملة على منطقة السويداء-درعا، خاصة البيئة غير الآمنة في درعا، يعني وجود مساحة لتدخل أطراف إقليمية، خاصة إسرائيل. ولذلك، يظل الموساد على رأس قائمة “المشتبه بهم” في الهجمات التي تستهدف عناصر رفيعة المستوى في درعا.

أيضًا أجبرت الهجمات الإسرائيلية على حلب ودير الزور طهران على اتخاذ المزيد من الاحتياطات اللازمة. فسرعان ما أخلت ميليشيات حزب الله المتمركزة في حلب تمركزاتها لصالح الميليشيات الأخرى المدعومة من إيران، مثل لواء الباقر ولواء فاطميون، وعادت إلى لبنان، تحسبًا لصراع محتمل مع إسرائيل داخل لبنان.

خلال الفترة من منتصف أكتوبر إلى بداية ديسمبر، فإنَّ استهداف الولايات المتحدة للعناصر الإيرانية في دير الزور، بالإضافة إلى الهجمات الإسرائيلية، دفع الميليشيات المدعومة من إيران في المنطقة إلى إخلاء العديد من القواعد العسكرية ومستودعات الأسلحة وإرسال الأفراد والأسلحة المخلاة إلى نقاط أخرى داخل البلاد. حيث حاولت إيران، التي تفتقر قدرة الرد على الضربات الجوية الإسرائيلية في سوريا، تجنب خسارة واسعة النطاق في الأفراد والعتاد.

 ومنذ منتصف ديسمبر الماضي، بدأت إيران في تعزيز قوتها في دير الزور من خلال نقل الميليشيات والأسلحة مرة أخرى إلى المنطقة. لكن مع استمرار القتال بلا هوادة بين وحدات حماية الشعب الكردية والقبائل العربية في شمال دير الزور، تمركزت القوات التابعة لإيران في المناطق الريفية حتى لا تكون هدفًا للغارات الجوية ما أدى إلى فراغ في السلطة، فَشكّل فرصة مناسبة لخلايا داعش في المنطقة لبناء واكتساب القوة. ونتيجة لهذه الحالة، زادت أعمال داعش في سوريا بشكل خطير في يناير 2024 مقارنة بالفترة نفسها من السنوات السابقة. وعلى الرغم من كل الجهود المبذولة في منطقة البادية، فإنَّ الميليشيات المدعومة من إيران فشلت في تحييد داعش بشكل كامل، وكانت هدفًا لهجمات داعش من وقت لآخر، ثُمَّ أصبحت أكثر عرضة لهجمات داعش في فترة ما بعد 7 أكتوبر.

لقد كانت دمشق هي المنطقة التي ردت فيها تل أبيب بقسوة على نظام الأسد وطهران، خاصة عبر اغتيال مسؤولين كبار من الحرس الثوري الإيراني في هذه الهجمات. وكان مطار دمشق والقواعد والمستودعات العسكرية التابعة للعناصر الإيرانية والحرس الجمهوري، وحي السيدة زينب، أكثر المواقع استهدافًا. وقد قُتل مسؤولون رفيعو المستوى في الحرس الثوري مثل رضى موسوي وصادق أميد زاده، بالإضافة إلى العديد من أعضاء الحرس الثوري من المستوى المتوسط، في الغارات الجوية. وكانت القدرة على ضرب هذه الأهداف في دمشق بمثابة رسالة من إسرائيل إلى دمشق وطهران، ليس فقط من حيث القدرة العسكرية لكن أيضًا القدرة الاستخباراتية.

الخاتمة

في المحصلة، عند النظر إلى سياسة التدخل الإسرائيلية في سوريا، فمن الواضح أنَّه منذ عام 2018، كان هناك زخم متزايد في استراتيجية الغارات الجوية الإسرائيلية التي لم تعد تقتصر على دمشق ومحيطها، بل امتدت إلى كامل الأراضي السورية بما فيها ريف اللاذقية-حلب، وخط السويداء-دير الزور. ومع غض روسيا الطرف، فقد أنهكت إسرائيل قوة الميليشيات الإيرانية في المنطقة بهذه الهجمات، ثُمَّ انتقلت إلى صفحة جديدة من حيث اختيار الأهداف وشدة الهجمات.

 عند النظر إلى نتائج التطورات الأخيرة، إذ لم يتمكن كبار مسؤولي الحرس الثوري من الاحتماء بأمان حتى في السيدة زينب، الذي يُعدُّ معقل إيران في العاصمة دمشق، وحيث اضطرت الميليشيات إلى إخلاء القواعد والمستودعات العسكرية من وقت لآخر تجنبًا للتهديدات الإسرائيلية، نجد أنَّ إسرائيل لديها القدرة حاليًّا على شن هجمات منهكة عبر منطقة واسعة تمتد إلى الحدود العراقية.

وتشمل هذه القدرة، سلاح الجو الإسرائيلي بجانب الموساد الذي أظهر تفوقًا في رصد أهداف إيرانية رفيعة المستوى في دمشق. وعلى الرغم من أنَّ إيران راكمت عددًا كبيرًا من الميليشيات والأسلحة في شرق سوريا، فإنَّ تعزيز خلايا داعش في المنطقة الصحراوية أظهر أنَّها ستشكل تهديدًا متزايدًا للتواجد الإيراني. وهذا يعني أنَّ القدرات اللوجستية البرية لطهران بين دير الزور ودمشق، التي تعاني فعلًا مشكلات في النقل الجوي نتيجة للهجمات الإسرائيلية، سوف تواجه أيضًا مشكلات في النقل البري من وقت لآخر.

بالإضافة لذلك، يمكن القول إنَّ موسكو، التي اهتزت مكانتها باعتبارها الطرف المهيمن في سوريا بسبب الحرب الأوكرانية، وواجهت مشكلات في موازنة القوات الإيرانية في سوريا، استعادت موقعًا متميزًا جزئيًّا ضد التواجد الإيراني في فترة ما بعد 7 أكتوبر، وذلك بسبب سلوك إسرائيل ضد الإيرانيين.

Ömer Özdemir

.PhD degrees on violent non-state actors expert in Levant studies at ORSAM

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى